قد يكون عنوان المقال «فانتازيا» لكن – صدق أو لا تصدق- بعض تفاصيل هذا المقال حقيقية.

تبدأ الحكاية بغضب المخابرات الحربية المصرية من ردود الفعل حول فيلم «الممر» والذي لم ينجح في تصدر إيرادات موسم عيد الأضحى الماضي، ليعود حلم قديم في مداعبة خيال السلطات المصرية، ألا وهو صنع فيلم حربي مصري عالمي، نؤرخ به لبطولات ضباطنا وجنودنا في معركة استرداد الأرض.

بدأ النقاش في البداية وبشكل ضيق بحضور عدد من المسئولين الأمنيين ورأس السلطة المصرية شخصيًا، تم الاقتراح أولاً بتكليف المخرج المصري «بيتر ميمي» بصنع هذا الفيلم، وتجهيزه للعرض في ذكرى مرور 46 عامًا على أكتوبر 1973، ساند هذا الاقتراح أحد الأشخاص البارزين في مجلس الدفاع الوطني المصري، وأحد أكبر محبي الفنان المصري «أمير كرارة»، خصوصًا وأن كرارة وميمي يمثلان ثنائيًا ناجحًا للغاية، بدءًا من مسلسل كلبش وانتهاءً بفيلم كازابلانكا الذي تصدر إيرادات العيد.

لكن هذا الاقتراح انتهى قبل أن يبدأ حينما قرر القائد الأعلى لكل المجالس المصرية، وبشكل معتاد للغاية، تكليف الحاضرين بصنع فيلم مصري حربي عالمي بحق، وهو ما يعني تكليف مخرج عالمي أجنبي بصنع هذا الفيلم، حدد القائد عامًا واحدًا لتنفيذ المهمة، وأكد أنه لن يقبل أي مبررات لفشلها، في المقابل منح القائد الحاضرين حرية التصرف في ميزانية الفيلم كما يرتئي لهم، على أن تقوم الهيئة الهندسية بتنفيذ كافة ديكورات ومعارك الفيلم.

سبيلبيرج يرفض

بدأ الحاضرون -رفضوا ذكر أسمائهم- في التحضير للتواصل مع مخرج عالمي لتنفيذ الفيلم، ونتيجة لعدم معرفتهم باسم أي مخرج عالمي سوى الراحل «يوسف شاهين»، قرروا أن يستشيروا مخرجًا مصريًا، وبالطبع اتجه أحد أعضاء اللجنة المكلفة بتنفيذ الفيلم إلى المخرج المصري «شريف عرفة»، وبمجرد اطلاع عرفة على المهمة أشار عليهم بالتواصل مع المخرج الأمريكي «ستيفن سبيلبيرج»، فعلى جانب تأثر عرفة بشكل كبير في تصميم المعارك في فيلم «الممر» بمشاهد من فيلم سبيلبيرج «إنقاذ الجندي رايان»، وعلى جانب آخر يظن عرفة أن سبيلبيرج يمر بمرحلة خفوت نجوميته حاليًا، وبالتالي من الممكن أن يقبل بالعمل في مصر كوسيلة لتحسين الدخل.

قررت اللجنة أن التواصل مع سبيلبيرج لابد وأن يكون بشكل احترافي، وعليه تم ضم المنتج المصري «تامر مرسي» كممثل لشركة سينرجي للإنتاج الفني داخل اللجنة، وكمشرف عام على التواصل مع الفريق الأجنبي المكلف بإخراج الفيلم.

تواصل «تامر مرسي» عن طريق الإيميل مع شركة «دريم ووركز» المملوكة لسبيلبيرج، ونجح بالفعل في الوصول له شخصيًا، لكنه تلقى إيميلاً مهذبًا للغاية، اعتذر من خلاله «سبيلبيرج» عن إخراج الفيلم، متحججًا في البداية بعدم وجود قصة أو سيناريو مقترح، بالإضافة لتعبيره عن رغبته في الابتعاد عن الأفلام الحربية في الوقت الحالي نتيجة ميل «الأوسكار» في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ للأفلام التي تدور في نطاق مضاد للحرب والعنف والصور النمطية عن أصحاب الميول الجنسية المثلية. عاد تامر مرسي بالرد خائبًا للجنة، لكن الجميع اتفق عقب ذلك أن السبب الحقيقي لرفض سبيلبيرج هو كونه صهيونيًا متعصبًا، وأنه من المستحيل إقناعه بصنع فيلم مضاد لإسرائيل، وهذا بالفعل ما تم إبلاغه للقائد الأعلى – والذي يجب عدم ذكر اسمه طوال المقال.

نولان والطريق إلى كبريت

الاسم التالي على قائمة اللجنة كان المخرج الأمريكي/ البريطاني كريستوفر نولان، تم ترشيح اسم نولان بالأساس نتيجة شعبيته الكبيرة، بالإضافة لصنعه فيلمًا حربيًا بديعًا عن الحرب العالمية الثانية هو «دانكرك»، وقد جاء الترشيح بشكل مباشر من المنتج والمؤلف المصري «محمد حفظي»، بصفته الرئيس الحالي لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، إلا أن حفظي قد اعتذر مقدمًا عن الانضمام للجنة وعن التواصل مع نولان رفعًا للحرج، وذلك نتيجة امتلاكه لشركة إنتاج هي «فيلم كلينك»، وهو ما يصنع تضاربًا بالمصالح بينه وبين فيلم من إنتاج «سينرجي» و«الهيئة الهندسية».

عقب الكثير من البحث والتمحيص، توصل المنتج تامر مرسي وأعضاء اللجنة إلى تكليف الفنانة المصرية الكبيرة «يسرا» بالتواصل مع «نولان»، خاصةً بعد أن أعلنت أكاديمية الأوسكار عن منح عضويتها هذا العام للفنانة المصرية، مما يزيد من قيمتها العالمية، ويجعلها أحد الأصوات المؤثرة في اختيار الأفلام الفائزة بالأوسكار، وهو حلم ما زال يراود نولان حتى الآن.

بشكل مفاجئ للغاية نجحت «يسرا» في إقناع «نولان»، وتشير العديد من المصادر أن العامل الأهم في ذلك كان تدخل المخرجة اللبنانية «نادين لبكي»، وهي صديقة مقربة ليسرا، وقد اتفقا سويًا على التواصل مع نولان وإقناعه بصنع فيلم في مصر، مما سيسهل مهمته في الترشح للأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي، وهي فئة تبدو أسهل نسبيًا من الفئات الأخرى التي ينافس فيها نولان الأفلام الأمريكية. أكدت لبكي أيضًا لنولان في مكالمة مطولة أن تجربة صناعة فيلم بلغة مختلفة ستخطف الأنظار إليه، تمامًا كما حدث مع المخرج الصيني «أنج لي» في الفيلم الأمريكي «جبل بروكباك»، والمخرج الإيراني «عباس كياروستامي» في الفيلم الإنجليزي/الفرنسي «نسخة طبق الأصل».

بشكل أو بآخر، اقتنع نولان، وقرر أن يقبل التحدي، وبدأ بالفعل في قراءة المشاريع المقترحة من الجانب المصري، والتي دارت كلها عن معارك خلال حرب أكتوبر، لكنه استقر في النهاية على حكاية ملهمة، تبدو عن البقاء على قيد الحياة أكثر من كونها عن القتال، وهي حكاية الكتيبة المصرية رقم 603 في نقطة كبريت المطلة على البحيرات المرة بين الضفة الشرقية والضفة الغربية للقناة.

رمضان والسقا والمهمة المستحيلة

عقب الاتفاق على كافة التفاصيل المالية، وعلى منح الحرية الإبداعية بشكل مكتمل لكريستوفر نولان، حضر الرجل في رحلة ليلية لمطار شرم الشيخ، ومنها إلى صحراء جنوب سيناء، للبدء في التحضير لسيناريو الفيلم، والذي قرر نولان أن يكتبه بالإنجليزية أولاً ثم يصاغ له الحوار بالعامية المصرية عقب ذلك. عادت اللجنة عقب ذلك للمنتج والمؤلف المصري «محمد حفظي»، والذي رشح اسمين لتنفيذ مهمة الحوار هما «عباس أبو الحسن» مؤلف فيلم «إبراهيم الأبيض»، و«عبد الرحيم كمال» مؤلف فيلم «الكنز»، إلا أن اللجنة استقرت على منح شرف المهمة لعبد الرحيم كمال وحيدًا.

بدأت المشاكل عقب ذلك حينما بدأ نولان في اختيار أبطال فيلمه، فبعد صدمته الشديدة نتيجة عدم قدرته على إيجاد دور لممثله المفضل «توم هاردي»، والذي يبدو غريبًا جدًا على الشرق الأوسط، حتى لو حاول نولان إقناعه بارتداء قناع طوال الفيلم كما حدث في فيلمي «نهوض فارس الظلام» و «دانكرك»، تلقى «نولان» صدمة أخرى ألا وهي عدم قدرته على اختيار أي ممثل إسرائيلي طوال أحداث الفيلم، إذ إن قواعد الوطنية المصرية الحنيفة تمنع التطبيع مع الفنانين الإسرائيليين، إلا أنها لا تمنع التطبيع السياسي والاقتصادي والزراعي والتجاري معهم.

عقد نولان عقب ذلك جلسات مطولة مع تامر مرسي وبعض أعضاء جهات أمنية مصرية، بالإضافة للفنانة يسرا، ومكالمة مطولة أخرى مع المخرجة اللبنانية نادين لبكي، وفي النهاية رضخ نولان للتخلي عن فكرة اختيار ممثلين إسرائيليين، إلا أنه رفض أيضًا إظهار ممثلين مصريين أو عرب بزي حربي إسرائيلي مع دفعهم للحديث عبر أنوفهم كما اعتاد صناع السينما المصرية. استقر الرجل في النهاية إذن على تكرار حيلته بعدم إظهار العدو طوال الفيلم، هكذا لن يقع في خصومة مباشرة مع اللوبي الصهيوني في أمريكا، كما سيزيد من حدة التوتر لدى أبطاله، في حكاية يبدون فيها محاصرين من عدو لا يرونه.

كل شيء يبدو جيدًا حتى الآن، السيناريو يعتمد بالأساس على قصة بقاء الكتيبة 603 لمدة تقترب من الأربعة شهور عقب انتهاء الحرب في نقطة كبريت، تظل الكتيبة محاصرة رغم انتهاء الحرب إعلاميًا ووقف إطلاق النار في 22 أكتوبر 1974، ترفض الكتيبة التخلي عن تلك النقطة الحصينة، كما تفشل محاولات مدها بالسلاح والعتاد، يتمنى الجنود والضباط العودة إلى بيوتهم، في دولة تعتقد بأنها انتصرت بالفعل، إلا أن أحد كتائبها لا زالت محاصرة في حرب يظن الجميع أنها انتهت منذ شهور، لا طعام ولا ماء، فقط حيلة هؤلاء الجنود وذكائهم، وبعض اللحظات القدرية التي تبقيهم على قيد الحياة، حتى يرحل آخر شهيد في حرب أكتوبر وهو الشهيد «إبراهيم عبد التواب» قائد الكتيبة، في يناير 1974، تغادر الكتيبة موقعها في فبراير 1974 وتسلمها أخيرًا للجيش الثالث الميداني المصري.

هذه القصة الملحمية منعها شيء واحد من التحول إلى حقيقة، وهو فشل نولان في التعامل مع النجوم المصريين الذين وقع الاختيار عليهم لأداء المهمة، فبعد أن رفض نولان اختبار أمير كرارة لأي من الأدوار، نتيجة تحججه بأن كرارة لا يملك أي قدرات تمثيلية، وقبوله على مضض لاختبار محمد رمضان وأحمد السقا، تحولت جلسات الاختبار إلى شجار متصل، نتيجة رفض رمضان القيام بأحد الأدوار المساعدة، فيما يقوم السقا بدور الشهيد عبد التواب، عقب ذلك اشتعل الموقف نتيجة معرفة نولان بأن عبد الرحيم كمال قد كتب حوار من 200 صفحة بالعامية المصرية، في حين أن نولان أراد للفيلم أن يكون واقعيًا قدر الإمكان، وبالتالي لا يشغل الحوار فيه حيزًا كبيرًا في سرد القصة، فمن غير المعقول أن يتحدث الجنود المحاصرون لساعات عن ذكرياتهم وقصص حبهم وتقديرهم للهوية الوطنية المصرية، لا سيما وأنهم على وشك الموت من الجوع والعطش.

لم يخبر نولان أحدًا بغضبه، وبشكل غرائبي وغير مهذب تمامًا، قرر أن يغادر في رحلة ليلية من مطار شرم الشيخ، دون أن يخبر أحدًا، وإلى اليوم يرفض نولان الرد على اتصالات المنتج تامر مرسي والفنانة يسرا والمخرجة اللبنانية نادين لبكي.