يبدو أن الأمر أشبه بمحاولة شرح شيء غير مسبوق وغير واقعي في الوقت ذاته، فللمرة الأولى في التاريخ يحتاج مُنتجو النفط في الولايات المتحدة الأمريكية للدفع للمشترين للحصول على مزيد من براميل النفط المجانية وذلك مع بلوغ حد التخزين الفعلي أقصى سعته.

اليوم الإثنين 20 أبريل/نيسان، هبطت أسعار عقود النفط الأمريكية المقرر تسليمها خلال مايو/آيار المُقبل إلى ما دون الصفر، ويأتي ذلك وسط مخاوف متزايدة من أن حجم النفط المحتجز في التخزين الأمريكي يرتفع بشكل حاد، مع تفاقم أزمة جائحة كورونا التي تسببت في  تقليل الاستهلاك بشكل كبير.

وبالفعل وجه وباء الفيروس التاجي «كورونا» ضربة قاسية للنشاط الاقتصادي في جميع أنحاء العالم وقلّص الطلب على النفط. وبينما أنهت أوبك وحلفاؤها المنتجون للنفط اتفاقًا تاريخيًا في وقت سابق من أبريل/نيسان الجاري لخفض الإنتاج بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا اعتبارًا من أول مايو/آيار المُقبل، يجادل كثيرون بأن الاتفاق لا يزال غير كافٍ لمواجهة التراجع في الطلب.

1. ماذا حدث لأسعار النفط الأمريكية؟

 

انهارت أسعار النفط العالمية لأدنى مستوى لها في التاريخ، لتدخل في المنطقة السلبية مع استمرار قبق المتداولين بشأن الطلب على النفط، وهو أمر لم يحدث منذ بدء تداول عقود النفط الآجلة في بورصة نايمكس في عام 1983، ذلك بالتوازي مع انخفاض مساحات التخزين المتاحة عالميًا بسبب وفرة المعروض النفطي الذي لم تعد الاقتصادات التي تضررت بشدة من جائحة كورونا بحاجة إليه.

وانخفضت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط (تسليم مايو) التي تنتهي يوم الثلاثاء، بأكثر من 100% إلى -37.63 دولار للبرميل. وهذا يعني أن البائعين يجب أن يدفعوا للمشترين للتخلص من النفط الزائد. كذلك انخفضت أسعار خام برنت، التي انتقلت بالفعل إلى عقود تسليم يونيو، بنسبة 8.9% ليستقر عند 25.57 دولار للبرميل.

ويعد التخزين مشكلة رئيسية حيث بدأت المرافق في كوشينغ، أوكلا، مركز الخام الرئيسي في الولايات المتحدة، الامتلاء. بالإضافة إلى ذلك، تضاعفت قدرات التخزين العائم في الناقلات البحرية على مدى الأسبوعين الماضيين إلى مستويات قياسية تجاوزت 160 مليون برميل، وفقًا لرويترز. ويُقدر المحللون أن التخزين الأمريكي قد يصل إلى أقصى حد بحلول الصيف، مما يزيد خطر أن تصبح أسعار النفط سلبية، وذلك ما حدث فعليًا.

في الوقت نفسه، يستمر القلق من تصاعد الدخول للمنطقة السلبية مع توقع أن تنفد طاقة مرافق التخزين في الولايات المتحدة، حيث ارتفعت المخزونات في كوشينغ، نقطة التسليم الرئيسية في الولايات المتحدة للنفط، بنسبة 50% تقريبًا منذ بداية مارس/آذار الماضي. ومن غير المتوقع أن ينتعش الطلب قريبًا، حيث ترى وكالة الطاقة الدولية أن انخفاضًا قدره 29 مليون برميل يوميًا في الطلب العالمي على النفط حدث في أبريل/نيسان، وذلك إلى أدنى مستوى في 25 عامًا، حيث تظل التدابير العالمية قائمة لمنع تفشي الفيروس التاجي (كورونا).

2. لماذا انهارت الأسعار لأدنى مستوى في التاريخ؟

أسعار النفط كورونا
 

أدى تفشي فيروس كورونا COVID-19 إلى اضطرار البلدان إلى الإغلاق بشكل كامل دونما حركات شراء أو بيع للسلع، حيث تفرض العديد من الحكومات تدابير تقييدية على الحياة اليومية لمليارات الأشخاص. وأدى ذلك إلى خلق صدمة طلب غير مسبوقة في أسواق الطاقة العالمية، مع امتلاء مساحة التخزين – البرية والبحرية – بصورة سريعة. ومع اقتراب الطلب من الصفر تقريبًا، تقترب خزانات النفط والوقود في جميع أنحاء العالم من الامتلاء.

وكان الانهيار إلى المنطقة السلبية من نصيب عقود النفط المُزمع تسليمها للمشترين خلال شهر مايو/آيار المُقبل، وذلك لأن العقد على وشك الانتهاء بحلول غدًا الثلاثاء، وفي الوقت الذي يشهد فيه عقد مايو أحجام تداول أقل، أدى ذلك إلى تفاقم التقلبات ووصول الأسعار إلى المنطقة السلبية. ظلت أسعار العقود المُستقبلية بدءًا من تسليم يونيو/حزيران المُقبل، والتي كانت تشهد أحجام تداول أكبر، في المنطقة الإيجابية في البداية، ولكنها ما لبثت أن تراجعت أيضًا.

ويؤدي الانهيار الحالي في الأسعار إلى ارتفاع الفارق بين أسعار عقدي مايو/آيار ويونيو/حزيران ليُصبح الأوسع في التاريخ، حيث انخفض النفط الخام القياسي الأمريكي تسليم يونيو/حزيران، والذي يظهر سعرًا أكثر «طبيعيةً» من عقد مايو/آيار بنسبة 15.34% إلى 21.19 دولارًا للبرميل، حيث لا تزال المصانع والسيارات حول العالم في وضع الخمول.

3. كيف دخلت أسعار النفط إلى المنطقة السلبية؟

في وقت سابق من شهر أبريل/نيسان الجاري، حذر محللون في بنك جولدمان ساكس من أن صدمة الفيروس التاجي «كورونا» كانت «سلبية للغاية بالنسبة لأسعار النفط وقد تُرسل أسعار النفط الخام غير الساحلية إلى المنطقة السلبية». وكون الولايات المتحدة سوقًا غير ساحلي، فهي تشهد الآن ضغطًا حقيقيًا على التخزين نتيجة لانهيار الطلب.

وتوقع بنك الاستثمار الأمريكي أن تكون الخامات المنقولة بالماء، مثل خام برنت القياسي الأوروبي، معزولة أكثر بكثير عن صدمة فيروس كورونا، مع احتمال بقاء الأسعار بالقرب من التكاليف النقدية البالغة 20 دولارًا للبرميل.

وبالفعل يتم تسعير خام برنت على جزيرة في بحر الشمال على بعد 500 متر تقريبًا من الماء، حيث يمكن الوصول إلى تخزين الصهاريج. وفي المقابل، يعتبر خام غرب تكساس الأمريكي غير ساحلي وعلى بعد 500 ميل من الماء.

وبالفعل شهد عقد مايو/آيار الذي ينتهي تداوله، غداً الثلاثاء، الدخول بعمق في المنطقة السلبية؛ ليسجل سعر البرميل -38 دولاراً للبرميل خلال جلسة التداولات، ويشير ذلك إلى أن المستثمرين سيحتاجون إلى الدفع للمشترين 38 دولارًا لتسلّم كل برميل من النفط الخام، مما يعكس وفرة متزايدة من الخام ونقص شديد في  أماكن التخزين المتاحة.

وبالتالي يكون الانخفاض في أسعار نفط تكساس الأمريكي (عقد مايو) هو الأكبر على الإطلاق منذ عام 1983، في حين أن انتهاء العقد بالقرب من مستواه الحالي سيكون أقل بكثير من أدنى مستوى على الإطلاق بالنسبة لعقد الشهر الأول عند 10.42 دولار للبرميل المحدد في 31 مارس/آذار 1983، وفقًا لبيانات سوق داو جونز.

4. السيناريو المتوقع لأسعار النفط

بالرغم من أن العالم يتهيأ لمشاهدة القاع الأبعد في أسعار النفط العالمية، فإن المهم الآن ليس عقد مايو الآجل الذي سيتم تسليمه غداً والذي وصل إلى وضع هبوطي تاريخي. ذلك لأن الأمر لن يقتصر على التأثير السلبي لتوقف الطلب فقط، بل إن تأثير تخفيضات النفط من مجموعة أوبك+ لن يبدأ الآن، ومن المتوقع أن تتأثر به الأسواق مع بدء التنفيذ في الأول من مايو المُقبل.

ففي محاولة لإنهاء حرب أسعار النفط بين المملكة العربية السعودية وروسيا واستقرار الأسعار التي كادت تنفجر، انتهى كبار منتجي النفط بمنظمة أوبك وحلفائها، في مقدمتهم روسيا، إلى صياغة اتفاق تاريخي للحد من الإنتاج بنحو 10 ملايين برميل يوميًا من النفط اعتباراً من مايو/آيار المُقبل. وبالإضافة إلى قرار أوبك وحلفائها بتقليص الإنتاج، هناك أيضًا احتمال أن تتحرك لجنة السكك الحديدية في تكساس الأمريكية، التي تنظم صناعة النفط والغاز في الولاية، للحد من الإنتاج في المنطقة.

وبالرغم من أن كبار منتجي النفط اتخذوا قرارًا بتخفيض الإنتاج على أمل تحقيق توازن أفضل بين العرض والطلب، لكن العديد من المحللين يرون أن ذلك لا يكفي لتوازن الأسواق، ذلك لأن الانخفاض الحاد في السعر يرجع إلى نقص الطلب العالمي وقلة التخزين في ظل انعدام حركات البيع والشراء نتيجة التدابير التي اتخذتها الحكومات للتصدي لوباء كورونا.