على مر العصور اعتبرت الكتابة أهم الوسائل التي توثق التاريخ، وتعكس طبيعة الحياة، فبدءًا بالكتابة المسمارية في سومر في بلاد ما بين النهرين، مرورًا بالنقوش المصرية القديمة، ثم ظهور اللغات المختلفة وتقسيم علماء اللغة لها، ثم تدوين الأحداث المهمة في أغلفة الكتب المقدسة، فكان كل ما يُكتب هو وثيقة تَرسم شكل الحياة على ورق، ومن هنا جاءت أهمية الوثائق القديمة والمخطوطات؛ لكي يفهم الباحثون التاريخ بشكل أوضح وأعمق.

شكلت المخطوطات رؤيتنا لتاريخ العالم القديم، فكانت الوثائق والمخطوطات مرآة، تعكس الواقع القديم لمختلف الشعوب وكل الديانات، فظهرت أهمية المخطوطات المسيحية التي توضح شكل العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في بداية الفتوحات الإسلامية أو في تاريخ الإسلام المبكر.

1. شاهدٌ على معركة اليرموك

في الأعوام التي تلت بداية الفتوحات الإسلامية كان من عادة الرهُبان والقساوسة، السريان على وجه الخصوص، أن يسجلوا الأحداث التي عاشوها في بدايات الكتاب المقدس، أي الصفحة الافتتاحية للكتاب، ومن أقدم ما تم اكتشافه مخطوطة تأخذ رقم «14.461» في المكتبة البريطانية في إنجلترا، وتعود للعام الخامس عشر الهجري.

 وُثقت على إنها مخطوطة من الكتاب المقدس الشرقي، ويُطلق عليه اسم «ميافيزية – miaphysite»، (أي العقيدة الدينية الخاصة بطبيعة المسيح لدى الكنائس الأرثوذكسية المشرقية، وترى أن ألوهية وبشرية المسيح متحدتان في طبيعة واحدة لا يمكن فصلهما أو مزجها أو تحويرها، وعكسها «ديوفيزية»، وهو مصطلح لاهوتي مسيحي آخر، يستعمل في شرح العلاقة بين الطبيعتين الإلهية والبشرية للمسيح بحسب أتباع مجمع خلقيدونية).

يذكر لنا البروفسور «مايكل فيليب بين» أستاذ الدراسات الدينية في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة، في كتابه “When Christians First Met Muslims: A  Sourcebook of the Earliest Syriac Writings on Islam”، أن المخطوطة دُونتْ بها ملاحظات تشير إلى معركة حدثت في مكان بالقرب من «جابية» (وهي مدينة تقع بين سوريا وفلسطين)، دُونت في أغسطس 7 .. لم تكن بقية الأرقام واضحة في المخطوطة، واستُعمل بها التقويم السلوقي، فكان أغلبية المسيحيين السريان يستعملونه في تدوين الأحداث، وبلا شك كان المكان هو جنوب جابية؛ حيث هزم العرب البيزنطيين في الموقعة الشهيرة، وهي «اليرموك».

يستمر البروفسور في توضيح ما جاء بالمخطوطة، فقال: «يدَّعي المؤلف أنه شهد بعض الأحداث التي وصفها في أجزاء مخطوطه، وفي موضعٍ ما من المخطوطة استخدم صيغة الإقرار فقال «we see … رأينا».»

خلال القرن السابع الميلادي اعتاد المسيحيون السريان أن يدوِّنوا في الصفحة الأولى من الكتاب المقدس ملاحظات للأحداث المعاصرة لهم، المزيج الواضح في الورقة الأولى من المخطوطة من الكتاب المقدس بين الكتابة اليدوية الفوضوية غير المنتظمة يضفي مصداقية على ما كتبه كاتب المخطوطة.

تقول الكلمات المكتوبة غير الواضحة:

«محمد …. وكاهن …. السيد إيليا، جاء و …. و…. من …. قوة.. شهر … والرومان … وفي يناير … استقبلت حمص تعهد على الحفاظ على حياتهم …. بعض المدن دُمرت أثناء القتل بواسطة ….. محمد، العديد من الناس قُتلت. والأسرى … من الجليل لبيت …. عسكر العرب بجوار …. رأينا … كل مكان وال …. أنهم …. وهم … في ستة وعشرون من مايو … ذهب … حمص. الرومان طاردهم … وفي …. غادر الرومان دمشق …. العديد، حوالي عشرة آلاف. وبعد سنة، عاد الرومان. في عشرين أغسطس سنة 636م، تجمعوا في جابية …. الرومان والعديد من الناس قُتلوا، من الرومان قُتل ما يقرب من خمسين ألف …. سنة (…) 93….».

وهنا يجب إعادة التأكيد على أن هذا النص من هذه المخطوطة تُرجم من السريانية إلى الإنجليزية، وكان دوري هو نقله من الإنجليزية إلى العربية، بمرور السنوات لم يُحفظ المخطوط بشكلٍ جيد، لذا فإن كثيرًا من كلماته لم تكن واضحة ومتآكلة.

2. حياة النبي بالسريانية

احتفظت المكتبة البريطانية بالعديد من الحوليات والمخطوطات القديمة المتنوعة، وكانت مخطوطة 14,643، من ضمن ما ضمته المكتبة، فهي توثق فترة الإسلام المبكر، تعود للقرن الثاني الهجري، وتعرف باسم حولية 640.

وضع المؤلف قائمة لأسماء خلفاء المسلمين من النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى يزيد بن عبد الملك الذي تنتهي فترة حكمه سنة 724 م. حسب أندرو بالمر Andrew Palmer وروبرت هويلاند Robert Hoyland فإن هذه المخطوطة تعتمد على التقويم القمري lunar calendar وتحفظ بعض الكلمات العربية مثل كلمة «الفتنة»، مما يجعلنا نستنتج أن تلك المخطوطة السيريانية كُتبت أولًا بالعربية، لكن النسخة الأولى لم تعد متوافرة بين أيدينا.

ويلاحظ أيضًا أن الأصل العربي كان على الأرجح قد كُتب بعد وفاة يزيد في 724 م، على حسب ما ذكره «مايكل فيليب بين»  في كتابه Monks, Manuscripts, and Muslims: Syriac Textual Changes in Reaction to the Rise of Islam.

بناءً على قول المستشرق «وليام رايت» فإن تلك المخطوطة تُرجمت من العربية إلى السريانية على يد عضو من الكنيسة، وتبدأ بملاحظات على حياة محمد رسول الله، ولكن فيما بعد قام أحدهم (ربما يكون مجرد قارئ) بشطب كلمة (رسول) ليكون النص ملاحظات على حياة محمد [..]، وكذلك شُطبت كلمة (من حياته) في نهاية المخطوطة، ولكنه أبقى على كلمة «محمد».

يبين أن هذا القارئ لم يكن دقيقًا في كيفية محو النص، ومِن المؤكد أنه كان له دوافع عديدة كونه مسيحيًّا لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه التعديلات في المخطوطة السريانية لم تكن الوحيدة، بل أشار «مايكل بين» إلى عدة مخطوطات باللغة السريانية تم محو كلمات بها بعد كتابتها. ولكن تبقى المخطوطة نفسها شاهدًا مبكرًا في باب الشهادات غير الإسلامية.

3. الشيطان يحب المسلمين

هذه المخطوطة المحفوظة في برلين تُعرف بِاسم Sachau 315, f. 61b، تعود إلى القرن الثامن الميلادي، الثالث الهجري، تدور أحداثها في دير القنسري[1] يسأل فيه أحد الرهبان سؤالًا – غريبًا – «من يحبه الشيطان أكثر من غيره؟ ثم يأتيه الجواب بأنه يحب الوثنيين، ولكن قارئ آخر أضاف في الهامش أن الشيطان يجب أن يكون حبه موجهًا اتجاه المسلمين، فيقول عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أن المسيح هو الله، ولكنه يقول إنه خُلق رجلًا.

وتعد تلك المخطوطة من أهم وأقدم المخطوطات المسيحية المكتوبة باللغة السريانية التي اكتشفت حديثًا، والتي تشير إلى المسلمين وتلقبهم بالمهاجرين أبناء إسماعيل، فتعود المخطوطة إلى سنة 63 هجريًّا، أي إنها كُتبت سنة 682 ميلاديًّا، وبالرغم من أنها لا تقدم فحوى جديد، إلا أنها إضافة قيمة إلى مجموعة المخطوطات السريانية التي تذكر المسلمين وتشير إلى التقويم الهجري، كما قال المستشرق « Sean W. Anthony». وهو أستاذ مساعد في جامعة أوهايو في الولايات المتحدة.

4. رسائل يعقوب إلى يوحنا

تعود تلك الرسائل إلى العام 22 هجريًّا، 642 ميلاديًّا، يذكر لنا المؤرخ والباحث وأستاذ تاريخ العصور الإسلامية الوسطى في جامعة نيويورك روبرت هويلاند في كتابه Jacob Of Edessa And The Syriac Culture Of His Day (monographs Of The Peshitta Institute Leiden) ، أن يعقوب الرهاوي (هو أحد أشهر الكتاب السُّريان، وأسقف مدينة الرها) من أكثر الأساقفة المسيحيين الذين أشاروا إلى المسلمين في تاريخه أو في رسائله إلى أصدقائه الأساقفة.

 واحدة من أهم تلك الرسائل التي تحدد شكل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين آنذاك هي رسالته للأسقف يوحنا المعمودي، وسمى المسلمين باسمهم الفعلي، وليس «السراسنة أو الهاجرين» – كما كان يطلق عليهم بعض المسيحيين آنذاك – ومن نص إحدى رسائله:

«يجب علينا عدم إعادة تعميد المسيحي الذي يصبح مسلمًا أو وثنيًّا ثم يعود إلى المسيحية، ولكن صلاة التائبين يجب أن يتلوها عليهم من قبل الأسقف وفترة التوبة التي فرضت عليه[2]».

فيحذر هنا «يعقوب» من الردة عن المسيحية، وإذا حدث فلا يمكن تعميده مرة أخرى.

ويقول في موضع آخر في رسالة أخرى إلى صديقه اداي Addai عن النساء المسيحيات:

المرأة التي تخطب إلى مسلم وتقول إنها سوف تتحول إلى الإسلام، باستثناء ما لم يتم منحها الخبز المقدس، ينبغي منحها، ولكن مع عقوبة مناسبة لها لتلقيها.

يشرح روبرت هويلاند هذين النصين بقوله:

«هذان الحكمان يوضحان كيف أن الردة المبكرة للإسلام أصبحت قضية خطيرة، وهي حقيقة تُنذر بأن نهاية العالم قربت، والذي يتأسف أن العديد من الناس الذين كانوا جزءًا من الكنيسة أنكروا الإيمان الحقيقي بالمسيح وتحوَّلوا إلى الإسلام، دون التعرض لأي إكراه أو جلد أو هجوم، وتُعد شهادة مبكرة توضح أن التحول إلى الاسلام لم يكن عن طريق القتل والبطش والإكراه».

وفي جزء آخر من الرسالة يوضح يعقوب الرهاوي اعتقاد المسلمين بالمسيح قائلًا:

لذلك فإن المسيح الذي في الجسد من نسل داود، ويعتبر أمرًا أساسيًّا عند كلٍّ من اليهود والمسلمين والمسيحيين، وعند اليهود هو أمر جوهري، رغم أنهم ينكرون أنه المسيا أو المسيح المخلص الحقيقي الذي جاء، ويأتي المسلمون أيضًا على الرغم من أنهم لا يعرفون ولا يريدون أن يقولوا إن هذا المسيح الحقيقي (يسوع)، الذي جاء وعُرِف عند المسيحيين على أنه هو الله وابن الله، ومع ذلك يعترفون بحزم أنه هو المسيح الحقيقي الذي أتى والذي تنبأ به الأنبياء؛ على هذا هم ليس لديهم نزاع معنا، يقولون للجميع في جميع الأوقات إن يسوع ابن مريم، وهو في الحقيقة المسيح، ويسمونه كلمة الله كما تدعوه الكتب المقدسة، يضيفون أيضًا على جهلهم، أنه روح الله، لكنهم غير قادرين على التمييز بين الكلمة والروح، تمامًا كما لا يجمعون على تسميته بالمسيح الإله أو ابن الله[3].

5. ظهور المسلمين = نهاية العالم

انشغل المسيحيون واليهود سكان البلدان التي فتحها المسلمون بتفسير الأحداث غير المسبوقة التي خلفها الغزو الإسلامي لبلدانهم، فوجدوا لمخاوفهم وآمالهم متنفسًا في تفسيرها على نحو أبوكاليبسي، فيُقدم لنا البروفسور «روبرت هولاند» في كتابه الفريد “Seeing Islam as Others Saw It: A Survey and Evaluation of Christian, Jewish and Zoroastrian Writings on Early Islam” العديد من المخطوطات المسيحية التي وضحت طبيعة العلاقة والجدال بين المسيحيين والمسلمين في مراحله المبكرة، وكان من أهم وأندر المخطوطات، مخطوطة إفريم.

صُنفت تلك المخطوطة من ضمن المخطوطات الأبوكاليبسية أو مخطوطات إسكاتولوجية تُعنى بنهاية العالم والأحداث الأخروية، التي ازدهرت بشدة مع انتشار الإسلام والفتوحات الإسلامية، فتعتبر المخطوطة خطبة للكاهن، حملت عنوان «الخطبة المقدسة للعظيم إفريم عن نهاية العالم وجوج وماجوج (أو مأجوج ويأجوج)، والمسيح الكاذب – الدجال -»، وتنسب هذه الخطبة إلى القرن الرابع الميلادي، و«إفريم» هو كاهن ومُرنم مسيحي، والمخطوطة تبدأ:

يظهر شعب الصحراء من نسل هاجر، جارية سارا، التي عقدت ميثاق إبراهيم، زوج سارا وهاجر، أصحاب الكبش، الرسول ابن الهلاك، وسيكون هناك علامة في السماء كما قال الرب في إنجيل متى (24: 30)، والنهاب سينتشرون حول الأرض، وفي الوديان وقمم الجبال وسيستعبدون النساء والأطفال والرجال، كبير وصغير، يفتحون الممرات في الجبال وبين الوديان، سوف سينهبون حتى نهاية الخليقة ويستولون على المدن، ستخرب الأراضي وتكثر الجثث على الأرض، كل الشعوب سوف تنكسر أمام الناهبين، وستبدأ الشعوب التي بقيت على الأرض أن يأتي السلام، وسيأتي النُهاب ليأخذوا الجزية، وسيزداد الخوف في الأرض والشر سيبلغ منتهاه[4].

يوضح لنا بروفسور «هولاند» أن هذه الخطبة تشير إلى أحداث نهاية العالم، والشعوب التي ستغزوهم الأناس التي سجنهم «ألكسندر الأكبر» الجحافل الشمالية، وتطرقت إلى إعادة تأسيس الإمبراطورية الرومانية ومجيء المسيح الدجال «Antichrist»، وأخيرًا نهاية الزمان نفسه، وفي تفسير آخر فإن الجزء الخاص بالعرب أولاد هاجر، هو جزء مُقحم على النص، وليس هم جوج ومأجوج كما فسره البعض.

6. إيصال استلام الجزية

من المخطوطات التي عاصرت السنوات الأولى للفتح الإسلامي لمصر، وهي بردية إهناسيا، اكتشفت في مصر بمحافظة بني سويف، وهي محفوظة حاليًّا في مجموعة الأرشيدوق راينر في فيينا بالنمسا، وتعود إلى جمادي الأولى عام 22 هـ/ 642م، ويلاحظ أنها مكتوبة بلغتين الأولى وهي باللغة اليونانية واللغة عربية.

تتحدث البردية عن أن القائد عبد الله بن جابر أحد قادة المسلمين قام بإعطاء أهل الذمة إيصالًا باستلام أغنام لإطعام جنوده، وأن عبد الله بن جابر، تعهد بأن تخصم هذه الأغنام من الجزية المقررة على الأقباط فى الإقليم الذي مر به …. حسب التاريخ الإسلامي فإن البردية ترجع إلى عهد عمر بن الخطاب، ولكن (لم يذكر اسمه قط).

المراجع
  1. [1] للمزيد من التفصيل حول هذا الدير: ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1990 م، ص 636
  2. [2] Jacob Of Edessa And The Syriac Culture Of His Day (monographs Of The Peshitta Institute Leiden), P: 18.
  3. [3] Jacob Of Edessa and The Syriac Culture of His Day (monographs Of the Peshitta Institute Leiden), P: 19.
  4. [4] Ps.-Ephraem, Sermon on the End of Times, 61-62 (= Suermann, 15-17).