يستقرّ في الوعي العام تصورٌ مفاده أن فهم الظاهرة شرط ضروريّ للتعامل معها، ورغم ما في هذه الفكرة من بداهة ظاهرة، إلا أنّ وضعَها موضع الفحص سيكشف عن إشكالات أو يحفّها بتحفّظات واستدراكات على الأقل.

أحد هذه التحفظات سيبدو جليا حين ندرس الأفهام والتأويلات المتعدّدة لظاهرة واحدة ونجد أن التأويل فيه من صاحب التأويل ما قد يكافئ أو يزيدُ عما فيه من الموضوع المُراد تأويلُه.

تحفظ آخر شديد الأهمية سنقع عليه حين نفحص معنى «الفهم» نفسه، ففي كثير من الأحيان يغدو «الفهم» شكلا من الردّ والاختزال الفلسفيين للظاهرة إلى رؤية فلسفية ما، خصوصا حين يكون من يضطلع بمهمة محاولة الفهم والتأويل منتمِيا إلى فئة «المثقفين»، فعدا عن أنّ لهذه الفئة رأسَمالٍ رمزيّا متمثّلا في النظريات الفلسفية والتحليلات الفكرية لا بدّ لها من استخدامه.

فهناك عزوف عن الأبعاد السياسية والاجتماعية وكل ما هو إمبريقي أو وصفيّ في الظاهرة، وحجة المثقفين في هذه المقاربة لا تخلو من وجاهة، ومفادها باختصار أن هناك دائما محللين سياسيين واقتصاديين وخبراء إمبريقيين في الظاهرة، أما المثقف فدوره يكمن في استكشاف نمط فكريّ أو نسق فلسفيّ للظاهرة، وتظلّ هذه الحجة محتفظة بوجاهتها إلى أن تتحول هذه الرغبة في تقديم مستوى مختلف من مقاربة الظاهرة إلى طغيان على الظاهرة نفسها.


«الحداثيّة» بأيّ معنى؟

أصبح إطلاق وصف «الحداثة» و «الحداثية» أمرا مستباحا ومجانيا أحيانا، فالدولة العربية اليوم ظاهرة حداثية، وداعش إنتاج حداثي، ولا تخلو ظاهرة نعايشها اليوم –أي حديثة بالمعنى الزمنيّ- من أن توصَف ب «الحداثيّة».

أصبح إطلاق وصف «الحداثة» و «الحداثية» أمرا مستباحا ومجانيا أحيانا، حيث لا تخلو ظاهرة نعايشها اليوم من أن توصف بالحداثية

وما يزيد التشويش هو أن الهدف من إطلاق هذا الوصف يصعبُ تحديده، ولا يبدو أن «الوصول لفهم أفضل» يتصدّر سلم الأولويات دائما، فالهدف أحيانا نوع من «رفع العتب الفكريّ» والإلقاء بالظاهرة وتبعاتها في سياق مغاير عليه أن يتحمّل مسؤوليتَها.

ومحاولةً لتنظيم هذه المسألة، سنبحث في صورٍ محتملةٍ لإطلاق هذا الوصف على ظاهرة ما وسنقدم رؤية نقدية في هذه التصورات.

يمكننا حصر ثلاثة وجوه على الأقل لوصف ظاهرة ما بأنها «حداثية»، نذكرها مصحوبة بقدر من التفصيل:

أولا: أن تكون الظاهرة في وجودِها وملامحِها العامة وتشكلاتِها تخضع بشكل واعٍ لنموذج حداثيّ.

هذا يتطلّب أن يكون لدى من يُطلِق وصف «الحداثية» تصوّرٌ واضح المعالم بقدر معقول ويمكن تداولُه ونقاشُه بخصوص ما يجعل هذه الظاهرةَ حداثيةً من عدمه، ويقع على من يُطلِق وصف «الحداثية» بهذا المعنى على الظاهرة عبءُ تقديم تصوّره لما يجعل هذه الظاهرة حداثية، وعبء إثبات أن الظاهرة ومكوّناتها الفاعلة تتحرّك وتتفاعل بوعي وفق هذا النموذج.

وأحد الأمثلة الجيدة على هذه الحالة هم طبقة المثقفين العرب الذين يصفون أنفسهم عموما بأنهم «علمانيون»، فهذه الفئة تصرّح بأنّها تتبنّى منظومة الحداثة بعموم، وتشكّل لها الحداثة بمفهومها العام اختيارا فكريا واعيا.

ثانيا: أن تكون الظاهرة في وجودها وملامحها العامة وتشكلاتِها تخضع بشكل غير واعٍ لنموذج حداثي تستبطنُه ويؤثّر فيها تأثيرا حاسما حتى ولو كانت مكوّناتُها الفاعلة غير واعية بهذا النموذج، بل ربما تقتنع أنها تخالفه أو تواجهه.

هنا يصبح وصف الحداثية نوعا من «روح العصر» الهيغلي، أو الإيديولوجيا بمعنى «الباراديغم السائد» حسب تقسيم العروي، أي نموذجا يمارس فاعليتَه من خلال تشكيله للأفق الذهنيّ للفاعلين وتكوينِه لحدود النظر التي يدركون بها العالم من دون وعي بها.

هنا، مرة أخرى، يقع على من يُطلِق وصف «الحداثية» عبء تقديم النموذج الحداثي الذي تخضع له الظاهرة، وعبء تقديم الصلات المحتملة بين هذا النموذج النظريّ والملاحظات الإمبريقية والوصفيّة التي توفّرُها الظاهرة من خطابات وسلوكات وتفاعلات وغيرها، أي تقديم جهد شبيه بما قدّمه ماكس فيبر في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية».

وكمثال مقترَح للنقاش على هذا النمط من «الحداثيّة» يمكن أن نطرح تجربة الإخوان المسلمين، في شقّها السياسيّ على أقل تقدير، إذ يمكن للدارس أن يقدّم فرضيّة مفادُها أن تجربة الإخوان المسلمين قد قامت على أسس واعية من قبيل حماية الهوية الإسلاميّة، وتشكيل كيان معنويّ للمسلمين يعوّض انهيار منظومة الخلافة، وتجديد المضمون العمليّ الاجتماعيّ للإسلام الذي ضعف لصالح الصوفية الطرقيّة والنزوعات النظرية الجدلية.

لكنّ هذه التجربة لم تخلُ في سيرورتها من أثر واضح للرؤية الحداثية في شقّها السياسيّ، من قبيل الإيمان العمليّ بالديموقراطية، والتحرّك عموما ضمن حدود الدولة الوطنيّة.

ويمكن طرح مثال آخر هو بعض التنظيرات الفكرية التي قدّمها مفكرون مسلمون معاصرون فيما يتعلّق بقضايا الدولة وتطبيق الشريعة، من قبيل المزج بين شمولية الدولة الحديثة ونزوعها السلطوي ومحاولتها المستمرة لتوسيع مدى سلطتها على الأفراد، وبين شمولية الإسلام التي تسعى لتقديم رؤية كاملة للخالق والإنسان والكون، من خلال التزام إيماني وتربوي وأخلاقيّ أساسا، وقانوني في أحد تجليّاته.

ونتج عن هذا المزج اعتبار قضية القانون والدولة برمّتها قضية عقيدة وحاكميّة، وجرى بالتالي استبطان مقولات الدولة الحديثة وإنتاجها في صياغات إسلامية لقضية تطبيق الشريعة.

ثالثا: أن يكون وجود الظاهرة وملامحها وتشكلاتها العامة قد نتج في جزء كبير منه عن إضعافٍ أو تشويهٍ ولّدته الحداثة وتجلّياتُها في أفكار أخرى، من قبيل التشكيك في أسسها، أو إعادة تعريفها.

ولعلّ هذه الوجه هو أكثر الوجوه إشكالا، فمن المنطقيّ أن الأفكار الكبرى في أوقات ازدهارها تُضعِف مقابِلاتِها الفلسفية، والمنظوماتُ الناجحة دائما ما تُحرِج بدائلها المُفترَضة، وجزءٌ من نجاح المنظومات أن تُنتِجَ نقائضَها وأن تدفعَ مناوئيها إلى مواقف قصوى، ولذا فوصف ظاهرة نشأت ردّا على الحداثة، أو حدثت فيها تغيّرات حاسمة بسبب استجابة مناوئة للحداثة، بأنها ظاهرة حداثيّة، يمكنُ قبولُه بمعنى سياقيّ، أي أنّ سياق الحداثة أنتج هذه الظاهرة، وهو استخدام يثير التباسا لا داعي له.

ولعلّ أبرز الأمثلة على هذه الحالة ظاهرة «داعش» التي تواطأ كتّابٌ من اتجاهات مختلفة على وصفها ب«الحداثيّة»، وهو أمر يحتاج تحريرا وتوقّفا. فلا أحد يمكن له أن يزعم أنّ داعش تتبنّى رؤية حداثيّة واعية، والقول بأنّ داعش تستبطن رؤية حداثية غيرَ واعية يحتاج من قائله جهدا كافيا لإثبات ذلك من خلال الخطابات والأفعال التي تصدر عنها، وهو ما نزعم أنه لم يحصل إلا على هيئة تناول سطحي لبعض القضايا الشكليّة التي لا ترقى إلى مستوى التأويل النظريّ الوجيه.

وقبل أن نُخضع أيَّ ظاهرة نريد تحليل صلتِها بالحداثة إلى التحليل، وفقَ التقسيم السابق أو وفق أي معنى للحداثيّة، يجدر بنا أن نسجّل الملحوظات المنهجية التالية:

1. ينبغي أن يختلف التقويم الأخلاقي والمصلحيّ للظاهرة الحداثية المزعومة باختلاف الوجه الذي نعتبرُها حداثيّة وِفقه، فحين نصف ظاهرة ما بالحداثية بمعنى التبنّي الواعي لنموذج حداثيّ، فمن حقّنا وواجبنا أن نُسائل المكوّناتِ الفاعلة َفي الظاهرة عن دواعي هذا التبنّي ونتائجه ومبررّاته.

أما إذا كنّا نصف الظاهرة بالحداثيّة بمعنى التبنّي غير الواعي لنموذج حداثيّ، فدور المثقف أن يبحث في الآليات التي استطاعت الحداثة من خلالها أن تكون «روح عصر» أو «أفق نظر» أو «بارديغم زمن» حتى عند من يخالفونها أو يناوئونَها، ثم يتّخذ موقفا نقديّا موافقا أو مخالفا لمضامين هذه الروح أو الإيديولوجيا الحداثية وفق الاعتبارات الأخلاقية والمصلحية التي يرى أنّه ينطلق منها.

أما إذا كان الوصف بالحداثيّة بالمعنى الثالث، أي بمعنى أنها نتجت كردّ فعل على الحداثة، أو ما كانت لتوجد من دون تحدٍّ حداثيّ أنتجَها، فدور المثقف أن يبيّن ويدرس الآليات التي أفرزت الحداثةُ أضدادَها من خلالِها.

لكن من المستغرب وغير المقبول منهجيّا أن يتخذ هذا البحث منحى إلقاء اللائمة على الحداثة، أو تحميلها مسؤوليةَ إنتاج أضدادها، فالأفكار مؤثرةٌ في أضدادِها، لكنّها لا تتحمّل مسؤولية أخلاقية عن إنتاج أضدادِها.

2. علينا أن نسائل مفهومنا لـ«السببية» في التاريخ والأفكار، سواء في آلية عمله أو في إمكان الحكم الأخلاقي بناء عليه. أحد الأمثلة الطريفة ساقها المفكر الروسي/البريطاني أشعيا برلين بخصوص «الرومانتيكية». إذ ثمّة اتفاق عام على أن الرومانتيكية كانت ردة فعل على «التنوير» متمثّلة في رفضها ليقينيته ودعاواه الكلّية وتبشيره بعقلانية عامّة يمكن أو يجب أن يُجمعَ عليها العقلاء.

رفضت «الرومانتيكية» هذه المفاهيم ورأت أن موقع الإنسان العرقيّ والجغرافي والثقافي واللغوي يساهم بقدر بالغ في تحديده لما هو عقلاني، أو لما يعتبره «حقيقة»، وبالتالي فمفهوم «الحقيقة» أكثر نسبيّة في نظر الرومانتيكيين مما يظنّ دعاة التنوير.

هذا المفهوم الذي يبدو متسامحا وأكثر تفهّما لاختلاف مناظير الناس إزاء الحقيقة، يواصل برلين، أنتج لاحقا نزعات قوميّة متعصّبة، فإذا كانت الحقيقة إنتاجا ثقافيا مرتبطا باللغة والعرق والتاريخ، فمن المتوقّع أن تسعى كلّ ثقافة لخيرها الخاص ولإعلاء قيمة منظورها للوجود إلى درجة تصل إلى التعصّب والعنصريّة.

من أجل نفي مزاعم بعض المستشرقين في أن الإسلام ينتج العنف لسبب جوهري كامن فيه، يتورط المثقف العربي في نفي أي ارتباط بين الإسلام والعنف

تأريخ برلين هنا يواجهنا بأسئلة مهمّة، فما الذي أنتج ماذا؟ هل أنتج التنوير الرومانتيكية؟ وهل أنتجت الرومانتيكية النسبية؟ وهل أنتجت الرومانتيكية العنصرية والفاشية والنازية؟

بصياغة أخرى، هل تنتج الأفكارُ الأفكارَ بالتبنّي والموافقة؟ أم بالتأثر اللاواعي؟ أم بالمناقضة والمخالفة؟

كلها أسئلة تنبغي مقاربتُها بحذر، وتقديم الخلاصات بشأنها باحتياط شديد.

3. تنتشر في أوساط المثقفين والمهتمين بالشأن العام من العرب مفارقة تستحق التوقف. فالمثقف العربيّ المناهض للغرب لا يتورّع في حديثه عن الغرب عن الربط بكرم بالغ ووثوقية عالية بين الرؤى الفلسفية وتجلياتها العمليّة، بل يتعدّى هذا الربطَ إلى اعتبار التجليات العمليّة القصوى والمتطرفة هي التمثيلَ الأصدقَ والتجليَ النموذجي للرؤى الفلسفية الكامنة.

المفكر المصريّ عبد الوهاب المسيري مثال ممتاز على هذا المنزع، إذ لم يألُ جهدا في التنقيب عن مظاهر المادّية المفرطة في المجتمع الغربيّ واعتبارها تجليات نموذجية للعلمانية وللرؤية الفلسفية الحداثية.

ووافقَ بعضَ نقاد الحداثة الغربيّين على اعتبار الهولوكوست لحظة تجلّ نماذجيّ للحداثة، وكثيرا ما استخدم ما أسماه «المتواليات المنطقيّة»، أي أخذَ الفكرة إلى نهاياتها المنطقيّة التي تحتملُها، ف«الهيومانية» التي تقوم على اعتبار الإنسان مركز الوجود من دون الإيمان بوجودٍ إلهيٍّ متعالٍ لا بدّ حسب المسيري أن تفكّك الإنسانَ في النهاية لأنه سيصبح موجودا طبيعيّا من سائر الموجودات ولا يختلف عنها إلا في درجة التعقيد.

ومع أن التسلسل المنطقيّ يحتمل نتيجة كهذه وربما تجد من يوافقُها نظريّا، إلا أن الواقع يُثبتُ أنّها لا تتحقّق دائما، وأنّ تحقّقَها هو الاستثناء لا القاعدة.

لكن المثقف نفسه قد يعامل ظاهرة أوجدت في سياقنا بطريقة مختلفة تمام الاختلاف. فهو يسارع إلى قطع كل الروابط المنطقيّة حتى المحتملةِ منها بين الإسلام وبين بعض الظواهر التي تنتسب إليه أو إلى إحدى فرقه الكبرى، ويدافع عن تصوّر فوق تاريخيّ للإسلام، ويعطّل كلّ مفهوم ممكن للسببية في الأفكار والأفعال.

ويلفت النظرَ هنا أن القضية تصبح صراعا بين تصوّرات جوهرانية للحداثة أو للإسلام، فمن أجل نفي مزاعم بعض المستشرقين في أن الإسلام ينتجُ العنف لسبب جوهريّ كامنٍ فيه، يتورّط المثقف العربي في نفي أي ارتباط بين الإسلام والعنف، فيُفرِغ الإسلام من إسهامه الأصيل في مجال العنف وتقنينه.

سواء في علاقة الدولة بالأفراد –العقوبات- أو في علاقة الأمم ببعضِها –الجهاد- ويقع بالتالي في الخطأ الذي لطالما حذّرَنا منه نقّادُ نظريات نقد الاستشراق، أي النزوع لنفي كلّ ما هو جوهريّ في الإسلام والشرق في خضمّ السعي لنفي التصوّرات الجوهرانية التي صاغها الغرب عن الإسلام والشرق.