المسلم من أسلم نفسه إلى الله، فكان ظاهرًا بامتثال أمره، وباطنًا بالاستسلام إلى قهره، وتحقيق مقام الاستسلام بعد المنازعة في أحكامه والتقويض له في نقضه وإبرامه. فمن ادعى الإسلام طولب بالاستسلام. {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. ألا ترى أن إبراهيم -عليه السلام- لما قال له ربه أسلم، قال: {أسلمتُ لربِّ العالمين}. فلما زُجّ به في المنجنيق استغاثت الملائكة قائلة: يا ربنا هذا خليلك قد نزل به ما أنت أعلم، فقال الحق سبحانه وتعالى: (اذهب إليه يا جبريل، فإن استغاث بك فأغثه، وإلا فاتركني وخليلي). فلما جاءه جبرائيل -عليه السلام- في أُفق الهواء قال: ألك حاجة؟

قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله، فبلى. قال: فاسأله، قال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي).

فلم يستنصر بغير الله، ولا تعلّقت همته بغير الله، بل استسلم لحكم الله، مكتفيًا بتدبير الله له عن تدبيره لنفسه، وبرعاية الحق له، عن رعايته لها، وبعلم الحق سبحانه عن سؤاله علمًا منه أن الحق به لطيف في جميع أحواله، فأثنى الله تعالى عليه بقوله: {وإبراهيم الذي وفّى}. ونجّاه من النار فقال تعالى: {قُلنا يا نارُ كُوني بردًا وسَلامًا على إبراهيم}. قال أهلُ العلم: لو لم يَقُل الحقُّ سُبحانه: {وسلاما} لأهلكَه برْدها، فخمدت تلك النار. وقال أهل العلم بإخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: لم يبق ذلك الوقت نار بمشارق الأرض ولا بمغاربها إلا خمدت ظانة أنها المعنية بالخطاب. فقيل: إنه لم تحرق النار منه إلا قيده!

ومن أجمل ما قيل:

مرادي منك نسيان المراد *** إذا رُمتُ السبيلَ إلى الرشادِ

وأن تدع الوجود فلا تراها *** وتصبح ماسكا حبل اعتمادِ

إلى كم غفلة عني وأني *** على حفظ الرعاية والوداد

إلى كم أنت تنظر مبدعاتي *** وتصبحُ هائما في كل وادي

وتترك أن تميل إلى جنابي *** لعَمرُك قد عدلتَ عن السداد

ووُدّي فيك لو تدري قديمٌ *** ويومٌ ألستَ يشهد بانفرادي

فهل رب سواي فترتجيه *** غدا يُنجيك من كرب شِدادِ

فوصف العجز عمّ الكون طرّا *** فمفتقرٌ بمفتقرٍ ينادي

فبي قد قامت الأكوان طرا *** وأظهرت المظاهر مِن مُرادي

أفي داري وفي مُلكي ومِلكي *** توجّه للسوى وجه اعتمادي

فحدّق أعينَ الإيمان وانظر *** تَرى الأكوان تؤذن بالنفادِ

فمِن عدم إلى عدم مصير *** وأنت إلى الفنا لا شك غادِ

وها خِلَعي عليك فلا تزلها *** وصُن وجه الرجاءِ عن العباد

ببابي أوقف الآمال طرا *** ولا تأتي لحضرتنا بِزاد

ووصفك فالزمنّه وكن ذليلا *** ترى مني المنى طوع القياد

وكن عبدا لنا والعبدُ يرضى *** بما تقضي الموالي من مُرادِ

أأستر وصفك الأدنى بوصفي *** فتجزي ذاك جهلا بالعناد

وهل شاركتني في الملك حتى *** غدوتَ مُنازعِي والرشد باد

فإن رُمتَ الوصولَ إلى جنابي *** فهذي النفسُ فاحذرها وعادِ

وخُضْ بحر الفناء عسى ترانا *** وأعددنا إلى يوم المعاد

وكن مستمطرا منا لتلقى *** جميل الصُّنع مِن مَولىً جوادِ

ولا تستهدِ يوما مَن سِوانا *** فما أحدٌ سوانا اليوم هادِ

المراجع
  1. التنوير فى إسقاط التدبير:أحمد بن عطاء الله السكندرى،دار جوامع الكلم ،ص100