لولا بغضي لإطالة العناوين، لكان الأولى بالعنوان أن يكون: «هل يعرض فيلم كبش الفداء بأجزائه الثلاثة قريبًا، أم سنكتفي بجزء أو جزأين، أم سيؤجَل العرض إلى إشعار آخر؟ّ وهل سيأتي هذا الإشعار الآخر قريبًا أم بعيدًا؟ّ


البُعد الخارجي الدولي: «مصر أكبر من أن تسقط»

ليس المقصود من العبارة السابقة، المعنى الشعبوي الذي يطلقه إعلام النظام في مصر في صعيد التمجيد اللاعقلاني لنظامهم، إنما هي ترجمة خادعة للعبارة الانجليزية: «Egypt is too big to fail» ولذا فالترجمة الأدق؛ «مصر أضخم بكثير من أن يسمح لها بالسقوط ولا بالصعود كذلك».

هذه العبارة هي قانون رئيسي في تعامل كثير من سياسيّي العالم مع الأوضاع في مصر. دولة شبه فاشلة، عدد سكانها يقارب المائة مليون، نصفهم – وسيزيد – من الفقراء ومحدودي الدخل والتعليم، وتقع على حدود مباشرة مع الابن المدلل – والأب في آن – للغرب، إسرائيل، وفي القلب من منطقة الشرق الأوسط، شديدة الأهمية، شديدة الاضطراب. وتطل على البحر المتوسط بساحل يفوق طوله الألف كيلومتر. وبالتالي فمن الخبل لدى غالبية هؤلاء ترك الأمور تنهار فيها إلى درجة السقوط الكامل للدولة. إذ لا مصلحة بتاتًا من السماح بسقوط الدولة المصرية، وإدارة هذا السقوط كما الحال في القصة السورية. وأزمة اللاجئين السوريين حينها ستكون نزهة!

لو كان للإخوان القدرة على تثبيت أقدامهم في الحُكم بديلًا عن الجيش، لاضطر الغرب للتعامل معهم وتسيير مصالحه في المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية.

ولذا حظي الجيش المصري منذ زمن بالكثير من الدعم خاصة الأمريكي. بصفته الحارس المسلح المؤتمن على هذه البقعة ومن عليها، لضمان الحفاظ عليها – أو على الأقل هيكل وجودها -، وإدارتها ولو خلف الواجهة، بما لا يمس المصالح الغربية والإسرائيلية وخاصة الأمريكية.

ولهذا كان الدعم مطلقًا للمجلس العسكري لتولي الزمام بعد يناير/كانون الثاني 2011. وحتى بعد انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب في 3-7-2013م، رغم فجاجته وما تبعه من مذابح لمؤيدي الرئيس – وغيرهم – في الميادين. كان الدعم واسعًا ولو بالسكوت انطلاقًا من قاعدة أن من يستطيع أن يحكم مصر، اتركه يحكم مصر! ويعزّزها كون الجيش – جيش كامب ديفيد، والحرب على الإرهاب حاليًا – هو الطرف الأكثر ضمانة أيدولوجيًا وسياسيًا للغرب من كل مناوئيه وبدائله.

بالطبع لا عزيز لدى الغرب. ولو كان للإخوان أو غيرهم القدرة – بكل أنواعها – على تثبيت أقدامهم في الحكم خلافًا للجيش، لاضطر الغرب للتعامل معهم ومحاولة الحفاظ على مصالحه. ولعل في نموذج أردوغان في تركيا بعض المثل في هذا.

وهناك لاعب خارجي بدأ يعود بقوة للساحة المصرية – والشرق الأوسط إجمالًا – وهو الذئب الروسي. ولكن سنشير إلى هذا في الجزء الأخير من المقالة.

وهناك متغير خطير بوصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية. وهو المحسوب على المد اليميني المتفاقم في العالم. ولكن ما زال مبكرًا الحكم على مدى ما سيحدث في السياسة الأمريكية من تغيير.


البعد الإقليمي: لا صوت يعلو فوق صوت سحق الربيع العربي

http://gty.im/496502498

وهذا البعد خطير للغاية، ويكاد يكون الأكثر تأثيرًا في بعض مفاصل الأحداث، خاصة يونيو/حزيران 2013 وما بعدها. بالطبع التركيز هنا على الخليج، لأنه الأهم إقليميًا للشأن المصري.

سلَّ الخليج – خاصة السعودية والإمارات – سيف العداء للانتفاضات العربية في 2011 دونما أية مواربة أو مهادنة أو محاولة تجربة للحلول الوسط، وذلك منذ اللحظة الأولى باستقبال ابن علي الهارب، ومحاولة الحفاظ على مبارك قبل وبعد خلعه بأي ثمن. وإجهاض انتفاضة البحرين بالقوة تحت شعار مجابهة إيران والمد الشيعي، وهذا إن صحَّ سياسيا ومصالحيًا، لا يصح أخلاقيًا. وخفض سقف الثورة اليمنية، ثم إجهاضها، والعبث العسكري بالمكونات الليبية بعد القذافي لإعادة إنتاج الثورة المضادة هناك مهما كان الثمن من الخراب والتفتت ودماء الليبين. والمشاركة في تحويل الثورة السورية إلى حرب طائفية إقليمية تحرق الكل.

وجاءت الطعنة النجلاء الكبرى في قلب الربيع العربي بالإجهاز على الثورة المصرية وخلع أول رئيس إخواني في تاريخها في الثالث من يوليو/تموز 2013، والتمويل السخي لإعادة مصر إلى ما قبل التاريخ إن لزم الأمر.

كال الخليج الضربات للامتدادات الإخوانية في كل مكان، والتي بالطبع برزت مع مناخ الحرية المؤقت الذي أتى به الربيع العربي. ولو كان الثمن القفز إلى الفراغ كما الحال في ليبيا واليمن، والأخيرة وصل بهم استهداف الذراع الإخواني المشارك في السلطة هناك، إلى ترك الساحة للحوثيين ذراع إيران، وحليفهم البراجماتي عبد الله صالح للانقلاب على الوضع هناك.

لكن انقلب السحر على الساحر، وفلت زمام المنقلبين هناك، وتورطت دول الخليج -ولا تزال- في حرب قذرة مكلفة على اليمن، يعاني فيها الشعب اليمني المحصور بين المطرقة والسندان الأمرَّيْن، وذلك في محاولة يائسة لكبح جماح من أطلقوهم.

والآن بدأ الخليج – خاصة شيخ القبيلة الهَرِم السعودية – يتجرع ثمن محاربته اللا عقلانية واللا أخلاقية للإخوان وللربيع العربي، من تمدد غير مسبوق للنفوذ الإيراني مما يهدد عروش الخليج أشد بكثير من التهديد الذي كان محتملًا للنموذج الثوري أو الإخواني إن ترك في الحكم.

ونزول الدب الروسي إلى ساحة الشرق الأوسط لأول مرة في التاريخ بهذه الصراحة وهذا العنف. وانهيار أسعار النفط شريان حياة الخليج الرئيسي، ومفتاح نفوذه. والإعراض الظاهر للحليف الأمريكي حامي حمى الديار، والذي وصل مداه إلى إبرام الاتفاق النووي مع إيران، والطامة الكبرى بقانون جاستا والذي يهدد بمصادرة اللب الأكبر من ثروات الخليج المخزنة في الجوف الأمريكي، والتي كان لها دور مركزي في إخراج أمريكا من الأزمة الاقتصادية منذ 10 أعوام.

وحتى الصبي الذي أنفق عليه بسخاء ما يقارب الـ 50 مليار دولار، ليكونَ سندًا لهم فيما يريدون. عرف أن الضرع بدأ يجف، فحوَّل الفم إلى جهات أخرى! ولم يستفيدوا منه لا في حربهم في اليمن، ولا حتى في أن يحفظ استقرار مصر تمامًا ليغلق الطريق تمامًا على عودة ما يخشون. وعادت مصر من جديد إلى واجهة الاحتمالات ونحن على أعتاب 11-11.

وهكذا أصبحت السعودية كالريشة المعلقة تتخبطها أنواء وعواصف المنطقة. وينذر الأمر بانكفاء وسبات سياسي واقتصادي عميق. بينما تحاول الإمارات الاستمرار بنفس سياساتها والإيحاء بأن شيئًا لم يكن ولو إلى حين.


الوضع المصري: دولار وانهيار!

كان لا بد من الإطالة في البعدين السابقين خاصة الإقليمي، لأنهما الأساس في تشكيل هذا الوضع.

كما توقع العقلاء على قلتهم في حينها. ركبت مصر قطار الانهيار الاقتصادي المتسارع والخارج عن القضبان. إذ لا إصلاح اقتصادي، دون إصلاح سياسي وعدالة انتقالية ترمم جروح فترات الاضطراب والانقلاب.

ولذا فعناد أجهزة الدولة المصرية، وإمعانها أكثر فأكثر في تدمير السياسة والإنسان المصري، وإفناء الخصوم السياسيين في الداخل قتلًا ونفيًا واعتقالًا لم يمر دون فواتير مكلفة، دفع الخليج الكثير منها، لكنه اقتصاديًا لم يعد قادرًا على مواصلة الدفع، وسياسيًا لم يعد يجد الكثير من الجدوى في مواصلة الدفع. خاصة السعودية والتي أدار لها نظام السيسي ظهره بمنتهى الفجاجة، وولى وجهه شطر موسكو وطهران لاستجداء النفط والدعم.

كانت المعادلة الواقعية التي ثبت بها النظام إعادة إنتاج نفسه في يونيو/حزيران 2013 على جثث الإخوان وبعض الثوريين، هي باختصار : يا شعب مصر الذي أجدنا إرعابه من الثورة والخوف من المجهول، سنعود لحكمك بنفس الطريقة القديمة أو أشد، وستدعمنا أو تقف مشاهدًا، وفي المقابل نمنحك مخدر الاستقرار الجميل، والأمن النسبي، والحد الأدنى الفعلي من أساسيات الحياة.

لكن مع الحلقة المفرغة من الإجرام السياسي والفشل الاقتصادي التي تدور فيها مصر على يد هذا النظام، فإن توفير حد الكفاف مما يمكن أن يُصبّر به الشعب نفسه على كل المستويات، يزداد صعوبة كل يوم. حتى بعض الأدوية الأساسية لحياة المرضى بدأت في التناقص!

ومصر التي يسكن الملايين فيها بمناطق عشوائية وشعبية لا توفر الحد الأدنى من أي شيء، هي قنبلة موقوتة للانفجار الاجتماعي الاقتصادي والذي يحلو للبعض تسميته «ثورة الجياع».


«11/11» هل يطارد النظام ظله؟

تطارد الشكوك هذه الدعوة منذ أول لحظة. إذ لم يبقَ في مصر كيانُ معارض واحد أو شبه كيان يقوى على إصدار مثل هذه الدعوة للتظاهر الجماعي الواسع التي لم نشهد مثلها منذ سنوات.

ولذا راجت نظرية أنها صنيعة مخابراتية لجس النبض الشعبي، أو صناعة انتصار كاذب للنظام، فالشعب أصبح يخشى النزول للمظاهرات، وبالتالي يمر اليوم بزخمه الكاذب دون أحداث تذكر، فيخرج إعلام النظام ومؤيدوه للتهليل بنجاحه في إفشال المؤامرة وإنقاذ مصر !

ويحتجّ أصحاب هذه النظرية بأنها لو كانت دعوة جدية، لما قام النظام بإجراءاته الاقتصادية المتبجحة بإغراق الجنيه ورفع أسعار المحروقات في يوم واحد على مسافة أسبوع من 11-11.

وعلى النقيض، هناك أصوات أكثر خفوتًا تراها دعوة حقيقية، وأن ما أكسبها نوعًا من الزخم، هو ما يتعرض له المواطن المصري يوميًا من حرب إفقار حقيقية، بجانب القهر السياسي الذي طال عشرات الآلاف.

وسواء كان الأمر أن الدولة كذبت كذبة ثم صدقتها، أو أنها دعوة من بعض النشطاء المجهولين لمحاولة استعادة بعض ما فات. فأرى أن الشعب رغم أنه يترنح الآن من وقع الضربات الاقتصادية المتتالية، وميراث الخوف، والهوس بالاستقرار والأمن الظاهري الكاذب، لكن بدأت الضغوط على قطاعات عديدة بدأت تتجاوز بكثير مستويات الأمان الاستقراري.

ولو تخلَّل هذا اليوم – وإن ضعف احتمال هذا لغياب أية روافع تنظيمية – شرارة كبيرة، كاشتباك كبير في بعض المناطق الشعبية مع الشرطة … إلخ، فإن الأمور قد تتفاقم بمنتهى السرعة، كانتشار الحمم من البركان. فقد تصل مثلًا إلى مستويات انتفاضة 18 و 19 يناير/كانون الثاني 1977، ولكن ستكون نسب العنف عند مستويات قياسية لم تشهدها مصر من قبل.


الجزء الأول من الفيلم: «الحكومة» الجزء الأكثر مللًا!

وبالبلدي، هو الجزء «البايخ» من الفيلم. و «أبوخ» ما فيه أنه إجباري، أيًا كانت تداعيات 11-11. إذ تمثل هيئة السكرتارية المسماة جدلا بمجلس الوزراء كبش الفداء رقم 1 لكل خطايا النظام.

سيحملها النظام بواسطة أذرعه الإعلامية مسئولية غلاء الأسعار، وجنون الدولار، والتي تتفاقم في كل لحظة. ويخبرنا أن الرئيس استجاب لنداء الشعب، وأقال الحكومة الفاشلة! (وكأنها هي من عيَّنت نفسها). أي أنه سيجعلها تحاسب هي على «كافة المشاريب»!

وبالطبع إن تصاعدت الأحداث في 11-11 أو غيره، فإقالة الحكومة ستكون على رأس قائمة ردود فعل النظام لإنقاذ نفسه وتسكين الأمور.


الجزء الثاني من الفيلم: «مجلس النواب» الجزء الأتفه من الفيلم!

هذا المجلس المفصَّل على مقاس حذاء النظام قد يوضع في المواجهة لتمرير قرارات أكثر قسوة يحتاجها إمرار برنامج صندوق النقد الدولي للموافقة على قرض الـ 12 مليار، كقصة التخلص من نصف موظفي الحكومة، أو الإلغاء التام لكافة أشكال الدعم … إلخ. وبالتالي توجيه قطاع من الغضب الشعبي تجاهه، بدلًا من لب النظام الحقيقي وكتلته الفعلية. ولذا إذا حدث في الأمور أمور، فسيأتي الدور عليه ليكون كبش فداء مثالي.


الجزء الأخير والأكثر إثارة: رأس النظام

وهذا الجزء لن يصل «العرض» إليه إلا إذا خرجت الأمور تمامًا عن السيطرة، وأحست «الدولة العميقة» أن وجودها ذاته مهدد، وحينها فلن يكون السيسي بأعز عليها – ولا على الداعمين والممولين – من مبارك. وبالطبع سيكون هناك حسابات إقليمية ودولية هامة، وأضواء خضراء ضرورية قبل التنفيذ.

ولأن السيسي يعرف هذا جيدًا، فإنه يحاول تثبيت موقعه الشخصي بأي ثمن. فلعب سياسة حافة الهاوية ببراعة إجرامية، ليقدم نفسه إلى الناس باعتباره الخيار الإجباري الأوحد. وأن ما بعده هو اللاشيء، فلا بدائل منطقية يمكن أن يلتف حولها الشعب.

كما بدأ يرتمي أكثر فأكثر في أحضان الدب الروسي الذي أرسل قواته وأساطيله لدعم حكم رئيس مجاور مُوَالٍ له يقصف شعبه يوميا بالطائرات. كما أنه يحاول الحفاظ على الحبل السري الإماراتي وهو الأهم لديه خليجيًا. ولعل زيارة ولي العهد الإماراتي الخاطفة للقاهرة (ليلة 11-11) إحدى مظاهر استمرار الرعاية الإماراتية والاطمئنان على رسوخ أقدام نظام السيسي قبل يوم الاحتمالات.

ولعل فوز ترامب، وما يشاع عن تفهمه لأفعال نظام السيسي وحربه على الإرهاب، يمثل له فرصة ذهبية لإعادة تثبيت أركانه بعد الاهتزازات الاقتصادية العنيفة والتي هوت بشعبيته وقيمته لدى الكثير من مموليه من حالق. إذ يعرف السيسي جيدًا أن أي جيشٍ مسلَّح ومدرَّب أمريكيا لا يقدم على عمل انقلاب إلا بضوء أخضر من صاحب الورق الأخضر، وأنه مهما شرَّق أو غرَّب، فالخيوط الهامة لإدارة المشهد تنتهي في يد العم سام.


أليس الصبح بقريب!

النظام: يا شعب مصر الذي أجدنا إرعابه من الثورة والخوف من المجهول، سنعود لحكمك بنفس الطريقة القديمة أو أشد.

أوشكت الساعات التي تفصلنا عن 11/11 على النفاد. وأيًا كانت نتائج اليوم، فمسار الأحداث ينبئ أن سيكون له ما بعده. إذ لا يمكن بحال في زمن الرمال المتحركة الذي نتيه فيه أن تبقى الأمور كما هي عليه، خاصة في مصر التي تتدحرج فيها كرة الثلج بأسرع مما تصور الجميع. المشكلة فقط أين سيكون اتجاه التغيير.