في السادسة من صباح يوم 8 أغسطس سنة 1947، كان 60 من أمهر عساكر البوليس المصري وأشدهم بأساً، ينتظرون واحداً من أشرس مجرمي الصعيد، وهو «محمد محمود منصور»، الشهير بـ«خُط الصعيد».

نصبوا له كميناً في منطقة البحر الأخضر المليئة بعيدان الذرة، في ريف محافظة أسيوط. خطة البوليس كانت بسيطة للغاية، فـ«الخُط» سيأتي ليتحصل على 150 جنيهاً كفدية عن خطف أحد أطفال قرية «جُحدُم».

جاء الرجل بصحبة دليله وكشافه «أبو الصالحين»، فصوب العساكر إليه فوهات بنادقهم، ليلقى مصرعه في الحال، وتنتهي القصة.

أهكذا؟ وبهذه البساطة يسقط صاحب أسطورة «خُط الصعيد» الشهيرة؟

جاء المأمور، ووكلاء النيابة، وكبار الضباط. جاء الآلاف من القرى والمراكز المجاورة التي شيّبها «الخُط»، ولكن هي أمه «الخالة فضة» وحدها التي استطاعت أن تقلب المشهد رأساً على عقب، هي وحدها التي استطاعت أن تجعل المأمور يلطم على وجهه، والحكمدار يكاد يسقط على الأرض.

هي التي استطاعت أن تجعل مئات من الآلاف الذين تجمعوا حول جثة «الخُط» لإلقاء نظرة على الرجل الذي دوّخ ثلاث حكومات مصرية متتابعة، أن يغرقوا في الضحك وعبارات الاندهاش والسخرية، رغم وجود قتيلين في المشهد.

«مين ده.. أنا معرفوش.. مش ابني.. هو كل قتيل تجيبوني أشوفه؟!.. هي الحكاية رمي جتت وللا إيه.. أما مصايب»

هذا ما قالته «الخالة فضة» لرجال البوليس بصوت مرتفع وحاسم، لينتهي المشهد بكارثة على كل من خطط لإسقاط مارد الصعيد، ولتبدأ قصة يرويها صلاح عيسى في كتابه «أفيون وبنادق»، الصادرة طبعته الأولى حديثاً عن دار نشر «المحروسة».

الركض وراء أولاد الليل

بدأ صلاح عيسى كتابة سيرة «خُط الصعيد» سنة 1973، ونشرها في حلقات مسلسلة بمجلة «23 يوليو» الأسبوعية سنة 1979، التي كانت تصدر في لندن، لمؤسسها ورئيس تحريرها آنذاك، الكاتب الراحل الكبير محمود السعدني.

كتب عيسى الحلقات باسم مستعار، وهو «صادق عنان»، وهو الاسم الذي كان يوقع به عيسى مقالاته في عدد من الصحف العربية في عهد الرئيس السادات، بعد التحقيق معه أمام المدعي الاشتراكي، بتهمة كتابة مقالات في الصحف الخارجية تضر بصورة وسمعة البلد.

وتُعتبر تلك السيرة من بدايات المشروعات المكتملة لصلاح عيسى، حيث أصدر كتابه «الثورة العرابية» وهو أول كتبه في 1979، لكن ظل «أفيون وبنادق» بين أوراقه الخاصة، تمر عليه المؤلفات التي أصدرها طوال رحلته، فتلقى تحيةً، وتمر، ومن بينها «رجال ريا وسكينة» الكتاب الأكثر شهرة للرجل، والأكثر شبهاً بـ«أفيون وبنادق»، إذ تناول الكتابان سيرة اجتماعية وسياسية وشعبية لأشهر المجرمين، الذين ذاع صيتهم في النصف الأول من القرن العشرين، والذين أسماهم صلاح عيسى بـ«أولاد الليل».

«أولاد الليل».. لصوص أم أبطال؟ هذا السؤال كان يشغل عيسى بشكل دائم، ربما حاول الإجابة عليه في كثير من كتبه ومقالاته التي تناولت سير الشخصيات الشعبية. كانت تؤرقه بطولة أدهم الشرقاوي، التي نشرت مجلة «اللطائف المصورة» خبراً عن مصرعه في آخر أكتوبر سنة 1921 عن عمر 23 سنة، باعتباره لصاً وقاطع طريق، وتحول في آخر حياته إلى قاتل أجير، فقتله البوليس وأراح البلاد من شره وجرائمه.

هل «أدهم» هو هذا الشخص الذي صاغه «زكريا الحجاوي» -أحد أبرز الباحثين في التراث الشعبي المصري- في نص مكتوب يحمل نفس الاسم، والذي يقترب كثيراً من رواية تحقيقات الشرطة، أم هو هذا البطل الشعبي الذي صيغت له ملحمة وموال كبير باعتباره أحد المقاومين للاستعمار وللحكومات المصرية الموالية له؟

هل «خُط الصعيد» هو ذلك المجرم الذي طاردته الحكومة المصرية «جيشاً وشرطة» بمعاونة المخابرات البريطانية، بسبب جرائمه وسطوته على كثير من قرى أسيوط، أم هو تجسيد لأسطورة «اللص الشريف» الغربية الشهيرة، والتي أظهرت بطلاً كان يسرق من الأغنياء ليطعم الفقراء، ويواجه المستعمر بما لديه من سلاح؟

إن الرؤية الشعبية الإيجابية لهؤلاء الأشقياء الذين ظهروا بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882، ربما تحددت من أحداث ووقائع تاريخية بعينها، مثلما يؤكد عيسى في الكتاب، وتعتمد تلك الرؤية على أن كثيرًا من هؤلاء الأشقياء صوبوا فوهات بنادقهم ضد الذين خانوا مصر، وخانوا الثورة العرابية التي كانت هزيمتها المسمار الأول لدخول الاستعمار، في موجة عنف لم تشهدها البلاد طوال تاريخها، كانت في الواقع مهددة لمكانة «اللورد كرومر»، أول معتمدي الاحتلال، والذي حاز منصبه على وعد بأن سيكفل لمصر الأمن السياسي والاجتماعي.

ويستشهد صلاح عيسى في كتابه بوسيم خالد، أحد رجال المقاومة ضد الاستعمار، الذي كتب في مذكراته التي نُشرت باسم «الكفاح السري ضد الإنجليز»، أن اللصوص المصريين كانوا يقفون جنباً إلى جنب مع المناضلين ضد الاستعمار، ولكن لم يكن هدفهم هو المقاومة، بل سرقة أسلحة المعسكرات ومعداتها ومؤنها، لبيعها أو استخدامها.

هنا ربما يكون قد تداخل الأمر لدى الوجدان الشعبي، الذي مدح «أدهم الشرقاوي» وجعله أحد أبطال مقاومة الاستعمار، بل برّر لـ«ريا وسكينة» جرائمهما، باعتبارهما ضحية فقر وإذلال من المستعمر البريطاني.

ولأن «الخالة فضة» معجونة بتراب الوجدان الشعبي، فإنها تجاوزت لحظة موت ابنها سريعاً، وقفزت للمستقبل في لمحة بصر، ونفت معرفتها بجثة ابنها، ربما كان لرغبة منها أكيدة في صنع أسطورة جديدة، وبطولة تعيش لسنوات طويلة، ولمَ لا؟ فالبطل هنا هو ابنها «الخط» أو «محمد محمود منصور»، الذي مات في الثلاثينيات من عمره.

«درنكه»: مولد الأبطال

الواقع، أن ما سرده صلاح عيسى في كتابه عن هذا الشقي، معتمداً فيه على كتابات الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل»، الصحفي الوحيد الذي حقق في قصة «الخط» في الصحافة المصرية، وعلى مذكرات «الملازم محمد سعيد هلال»، قائد فرقة المطاردة التي اصطادت مارد الصعيد، يصلح لأن يكون سيرة بطل شعبي.

البطل الشعبي يحتاج إلى نبوءة بمولده، ولكن «الخط» هنا لا يحتاج إلى ذلك، هو فقط كان طفلاً عادياً، اسمه «محمد محمود منصور سر الختمة»، وُلد قبل ثورة 1919 لأسرة صعيدية فقيرة من قرية «درنكة» بأسيوط، وكان ترتيبه بين أشقائه الرابع، ولأنه لابد أن يكون شخصية مختلفة، حتى لو في الشكل، فإنه ولد بشعر أصفر وعينين زرقاوين، وذلك على عكس معظم أهل الصعيد.

«درنكة» هي موطن الأساطير، فيها جبل الشيخ بخيت صاحب الكرامات والمعجزات، وفيها جبل الطير الذي يحتضن «دير العدرا»، وهو الدير الذي يشهد سنوياً مئات الآلاف من الزائرين، احتفالاً بمولد السيدة مريم العذراء. في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن يظهر بطل.

عمل «محمد» في البداية مع أشقائه «رمضان، والرويحي، وعبد الحكم، وتوفيق» في مهنٍ عدة، منها: تربية الأغنام، وصيد السمك. وكعادة أهل الصعيد، تعلم أن يمسك السلاح في سن صغيرة جداً، ولكنه كان بارعاً في ضرب النار.

وكعادة الأبطال تختلف رواية بداية إجرامهم؛ الرواية الأولى تقول إنه تشاجر مع «شيخ غفر درنكة» لأن الأخير منعه من رعاية غنمه في منطقة معينة، فتطورت المشاجرة وانتهت بقتل «محمد» لابن «شيخ الخفر»، فما كان من الأخير إلا أن يرد الثأر سريعاً، فقتل له عمه وكبير عائلته، ليرد «محمد» بقتل تسعة من عائلة «شيخ الخفر» في أسبوع واحد، ومن هنا صار الصبي الصغير مُطارداً، ليذهب إلى الجبل، ويحتمي بمغاراته وكهوفه.

أما الرواية الثانية فتقول إنه بدأ حياته الإجرامية في أوائل الحرب العالمية الثانية، وعندما كان يرعى غنمه في الجبل، هو ومجموعة من أصدقائه، وجدوا مجندات أمريكيات، فاعتدوا عليهن وسرقوا ما معهن، فأبلغ عنهم «شيخ الخفر»، فسُجنوا في «معتقل الطور»، لتلجأ عائلة «محمد» لنائب وفدي، ينجح في إعادته إلى «درنكة» مع تشديد الرقابة عليه، والتي استغلها «شيخ الخفر» في التضييق عليه وعلى عائلته، فحدثت مناوشات بين العائلتين، انتهت بحوادث قتل متبادلة بينهما، وصلت إلى قتل تسعة أفراد من عائلة «شيخ الخفر»، كما في الرواية الأولى، ولكنها خلال عامين.

الرواية الثالثة تقول إن «محمد» كان قد اقتصد من أجره بضعة قروش، فتوجه بها إلى السوق ليشتري رطلاً من اللحم، فاختلف مع الجزار على الميزان، الذي أهانه، فما كان منه إلا أن استل سكين الجزار وبقر بها بطنه، فصعد إلى الجبل مطارداً، لتبدأ أسطورته.

وأياً كانت الرواية الصحيحة، فهي تعتمد على حوادث ثأر، كما أنها تشير إلى أن «الخُط» ليس هو فاعل الفعل الأصلي، بل أنه كان رداً لهذا الفعل «الانتقام»، وهي إحدى صفات سير الأبطال الشعبيين.

عن عوالم صلاح عيسى

في «أفيون وبنادق» كما في «رجال ريا وسكينة» وكتبه الأخرى مثل «مأساة مدام فهمي» و«البرنسيسة والأفندي»، اعتمد صلاح عيسى على مصادر متاحة للجميع: أرشيف الصحف المصرية والأجنبية، نصوص محاضر التحقيق، كتب ومذكرات شهود الزمن الذي وقعت فيه الأحداث.

كل هذه المصادر يستطيع الجميع، كتاباً ومؤرخين وأشخاصاً عاديين، أن يصلوا إليها ببساطة وسهولة، ولكن مسألة تقديمها في سياق درامي ممزوج بآليات بحثه ودراساته، ورؤيته الثاقبة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، هي التي تميزه عن غيره بكل تأكيد.

لم يشأ عيسى أن يقترب من إمبراطورية «الخُط» إلا من خلال الحديث عن طبيعة المجتمع المصري في الأربعينيات، والوضع السياسي والاقتصادي فيه، لاسيما مع دخول مصر في مناطق الحرب العالمية الثانية.

تحدث عن السلاح الذي كان منتشراً في الصعيد بكثافة، قال إن أحد مصادره الأساسية هو السلاح الذي تركه الألمان وراءهم بعد هزيمتهم في معركة العلمين، وغيرها، اعتبر عيسى أن تقدم هذا السلاح منح أفضلية للعصابات على البوليس الذي كان تسليحه قديماً للغاية.

لم يشأ أن يقترب من عالم «الخُط» إلا من خلال العلاقات التي جمعته كأحد أفراد عالم «أولاد الليل» بأصحاب وكبار ملاك الأراضي في الصعيد.

هذان العالمان اللذان كانت صلة الربط بينهما قانون حماية الأول للثاني، والذي كان ينص كذلك على عواقب خرقه.

لم يشأ عيسى أن يخترق هذا العالم، إلا بالحديث عن تجارة الأفيون في بر مصر، وعن الجريمة في الصعيد، وعن شوارع الدعارة «المرخصة» فيه، وعن الأحلاف التي نشأت بين من يمتلكون القوة فيه.

نهاية الخط، وبداية أسطورته

ارتكب «محمد» خطأ عمره عندما لم يستمع إلى تنبيه «الشيخ عواد» الرأس المدبر للعصابة، وأحد الأشقياء الذين عقد معهم حلفاً قوياً أقلق البوليس والحكومة.

أخطأ «محمد»، والذي سُمي بـ«الخُط» بعد سنوات من بناء أسطورته كتحريف للقب عائلته «الختمة»، عندما ركب دماغه وصمّم أن يهاجم مأمور أسيوط، بعدما قام الأخير بمضايقته وقتل فردين في عصابته.

كانت وجهة نظر «الشيخ عواد» أن مهاجمة رتبة أمنية بهذه القوة سيقلب الدنيا عليهم. ولأن أحد التحولات الدراماتيكية للسيرة قد تأتي من خلاف بين البطل، والبطل المصاحب، فكان هنا من الطبيعي أن يُقدم «محمد» على الخطوة، وأن يغضب «الشيخ عواد» ويهبط إلى قريته، ليصبح صيداً سهلاً للبوليس.

فشلت محاولة البطل في قتل المأمور، وقُتل البطل المُصاحب. انكسرت هيبة العصابة، ومعها ظهر البطل الضد «الملازم محمد سعيد هلال»، قائد فرقة المطاردة، والذي فوجئ بإسناد مهمة مطاردة «الخُط».

بدأ «هلال» عمله على أرض الواقع. درس المنطقة، ودرس الجبل. رصد حركة هبوط «الخُط» لرؤية ابنه «هاشم»، أو ممارسة الجنس مع عشيقته فائقة الجمال «سميرة».

اعتمد على معلومات أمدته بها المخابرات البريطانية التي دخلت على الخط. بحث في شبكة علاقاته بعالم كبار الملاك، وبطريقة تحصيل «الإتاوة» منهم. هاجمه أحياناً في الجبل، وتلقى منه تهديدات وضربات قاسية.

الحرب كر وفر. سنة كاملة في هذا المأزق، لحظات اليأس التي انتابت البطل الضد «الملازم محمد سعيد هلال» كانت أكثر من لحظات الأمل. لكن نهاية السيرة كانت حتمية في منطقة الجبل الأخضر، عندما وقع «الخط» في الكمين الذي نصبه له البوليس.

المشهد الأخير لابد أن يكون ملحمياً. ربما لم يقع بحذافيره، لكن صلاح عيسى كتبه بشكل درامي. رضخت «الخالة فضة» أخيراً، واعترفت أن المقتول هو ابنها. ولكن ليس هكذا يُكتب مشهد النهاية، فنصر البوليس، وإعادة هيبة الدولة، كان لابد له من مشهد قوي.

ركبت «الخالة فضة» فوق سيارة، وإلى جوارها جثة «الخُط»، و«رشيدة» زوجته التي قالت في التحقيقات إنها «لو طالت أن تضع له السم في الأكل لفعلت»، وعلى قدمها جلس الابن «هاشم» ذو الأعوام الخمسة.

انطلقت السيارة لتتجول بين قرى ومراكز أسيوط، معلنة انتهاء حياة الرجل الذي روّع الآلاف، وسط سماع جملة كانت تطلقها الأم عندما تمر على جمع: «يا أزرق العينين يا كايد الحكومة يا محمد»، بينما كتبت جريدة الأهرام يوم 10 أغسطس -بعد حادث مصرعه بيومين- معلنة انتهاء سيرة أحد «أبناء الليل»، قائلة «مصرع الخط: البوليس يجد في جيبه مصحفاً وحجابين».