لا يمكن أبدًا إنكار البطولة العسكرية والحماسة الدينية التي أدت إلى تحرير المسلمين لبيت المقدس وعدد من المدن في منطقة الشام من سيطرة الصليبيين، ولكن ما يتغافل الكثيرون عنه هو الدور الأوروبي (المسيحي) الداعم للمسلمين ضد الصليبيين (الأوروبيين المسيحيين).

كيف ساعدت دول أوروبية المسلمين وقادتهم في الانتصار على الصليبيين في الحملة الصليبية الثانية، ثم معركة حطين ثم خلال الحملة الصليبية الثالثة التي واجهها صلاح الدين الأيوبي؟

كيف كانت الخلافات السياسية والدينية في أوروبا فرصة ذهبية للقادة المسلمين في الدولة الزنكية ثم الأيوبية للانتصار على الصليبيين؟ وما الاتصالات السرية التي جرت بين المسلمين والأوروبيين المتحالفين معهم خلال هذه الفترة؟ هذا ما نرصده في السطور التالية.

الحملة الصليبية الثانية

كانت الحملة الصليبية الأولى (1096م) قد أنتجت 4 إمارات صليبية في بلاد الشام وجنوبي تركيا الحالية، وهي: الرها، وأنطاكية، وبيت المقدس، ثم طرابلس. ولم يستطع المسلمون تحريرها لظروف كثيرة أهمها التشرذم والصراعات السياسية العسكرية بين الدويلات الإسلامية.

وفي عام 1044م، استطاع الملك عماد الدين زنكي، قائد الدولة الزنكية التي كانت تتوسع وتضم مناطق كبيرة شمالي العراق وجنوبي الشام، أن يسيطر على إمارة الرها الصليبية ويعيدها لسيطرة المسلمين، وهنا دعا الأوروبيون إلى حملة صليبية ثانية على الشرق.

وكان قوام الحملة التي تحركت عام 1045م، جيشين رئيسيين وهما الجيش الألماني بقيادة كونراد الثالث، والجيش الفرنسي بقيادة لويس السابع، واتفقا على أن يتحرك الألمان أولًا باتجاه الشرق ليصلوا إلى الشام عن طريق البر، عبر أراضي الإمبراطورية البيزنطية ومملكة بلغاريا، ويتبعهم الفرنسيون.

مسيحيو بيزنطة وبلغاريا يخدمون المسلمين

هناك دعم تلقاه المسلمون بشكل مقصود وغير مقصود خلال هذه الحملة من الأوروبيين. الدعم غير المباشر كان من البلغار الذين كانوا قد استقلوا عن الدولة البيزنطية، ونستطيع رصده من دراسة للباحث بجامعة المنيا شعبان محمد حمزة، بعنوان «بلغاريا والحروب الصليبية»، حيث يوضح أن رفض الإمبراطور الألماني بابروسا التحالف مع البلغار والصرب ضد البيزنطيين، إضافة إلى السلوك الهمجي للجيش الألماني لدى عبوره الأراضي البلغارية أدى إلى صدام بين البلغار والألمان أسفر عن وقوع العديد من القتلى والأسرى بين الجانبين، ما ساعد على إنهاك الجيش الألماني.

أما الدعم المقصود فكان من الدولة البيزنطية نفسها، ونرصده من خلال ما قدمه المؤرخ الإنجليزي ستيفن رانسمان في كتابه «تاريخ الحملات الصليبية»، حيث يوضح أن ملك صقلية روجر الثاني هاجم بجيوشه أراضي بيزنطية وقال إنها تابعة لمملكته، في الوقت الذي كانت فيه الجيوش الفرنسية الألمانية قد تحركت باتجاه بيزنطة، فأدى ذلك إلى كراهية البيزنطيين إلى كل ما هو لاتيني قادم من الغرب، خاصة أن روجر كان يعرض خدماته وقتها على الفرنسيين والألمان، فأثار ذلك العداء في نفوس البيزنطيين ضد الألمان والفرنسيين.

هذا العداء تأجج بعد السلوك الهمجي للجيش الألماني، الذي سبق الجيش الفرنسي في تقدمه داخل الأراضي البيزنطية، حيث نهبوا أديرة وقرى كانوا يمرون عليها ليأكلوا ويشربوا من خيراتها، وزاد على ذلك رفضهم طلب الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين بأداء قسم الولاء والأمان له.

نتيجة لذلك قاتلهم الفلاحون البيزنطيون بدعم غير معلن من الجيش البيزنطي، فأنهكوهم وقتلوا منهم الكثيرين.

كما تحالف الإمبراطور البيزنطي مع السلطان السلجوقي «المسلم» ركن الدين مسعود، وابنه قلج أرسلان، ونتيجة لذلك دخل السلاجقة المسلمون أراضي البيزنطيين وقاتلوا الصليبيين وهزموهم.

وكانت الدولة السلجوقية هي الدولة المسلمة الملاصقة لحدود الدولة البيزنطية، في آسيا الصغرى (تركيا الحالية تقريبًا)، وسميت «سلاجقة الروم» لأنها كانت خط الدفاع الإسلامي الأول ضد الأوروبيين من جهة الشرق.

ورغم الصراع التاريخي بين الدولتين الحدوديتين (السلجوقية والبيزنطية)، وصل التعاون السري بينهما خلال الحملة الصليبية الثانية، حد استخدام السلاجقة لقلعة بيزنطية خلال المعركة التي دارت على الجسر الواصل إلى بيسيديا في منطقة الأناضول، وهو أمر اعتبره الفرنسيون خيانة بيزنطية لهم وللعالم المسيحي، حسبما يوضح رانسمان.

من الخدمات التي قدمها البيزنطيون للمسلمين أيضًا، والتي أوضحها رانسمان أن إمبراطور بيزنطة تعمد تضليل الفرنسيين، وأشاع بينهم أن الجيش الألماني الذي سبقهم إلى أراضي المسلمين حقق انتصارات كبيرة رغم علمه بهزيمته، فدخل الفرنسيون أراضي السلاجقة وهم مطمئنون واثقون.

 وجد الفرنسيون جيشًا ألمانيًّا مهلهلًا فقد أغلب أفراده ومعداته في الأناضول، وواجهوا هجمات السلاجقة العنيفة، ومن وصل إلى الشام من الألمان والفرنسيين من بقايا الجيش الألماني الفرنسي كان في غاية الإنهاك، فهُزموا بسيوف الدولة الزنكية صاحبة النفوذ الأوسع في الشام، بقيادة نور الدين محمود وأخيه سيف الدين غازي، وعادوا من حيث جاؤوا عام 1149م.

وهكذا قدَّم الإمبراطور البيزنطي (المسيحي) خدمة كبيرة للمسلمين، ضد أبناء دينه، حتى إن إمبراطور ألمانيا كان ينوي غزو القسطنطينية انتقامًا من إمبراطور بيزنطة على فعلته، إلا أن تدخل أخت إمبراطور بيزنطة لتهدئة الأمور بينهما كان له دور كبير في تهدئة الأجواء بينهما، بحسب رانسمان.

وكذلك كان إمبراطور بيزنطة ذكيًّا، يضرب من جهة ويمد يد المساعدة من جهة أخرى للصليبيين، حيث استضاف ملك ألمانيا الجريح في الحرب وعالجه، وأظهر مهادنة كبيرة للألمان والفرنسيين؛ فهو لا يريد أن يخسر ظهيره المسيحي في أوروبا لصالح المسلمين، وفي نفس الوقت وجد نفسه عرضة لسلب ونهب ممتلكاته وشعبه، من قبل الجيوش الصليبية التي لا بد لها أن تمر من أراضيه؛ فتصرف ببراجماتية شديدة.

بيزنطة وصلاح الدين وانتصار حطين

بسبب فشل الحملة الصليبية الثانية، وما تلا ذلك من ضعف الإمارات الصليبية في الشام، تمهدت الأرض، وانفتح الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي لضم الشام إلى سلطنته وطرد الصليبين.

فبصرف النظر عن الأسباب المباشرة التي أدت لمعركة حطين والتي تعج بها المصادر، لا يمكن إغفال رغبة صلاح الدين في توسيع سلطنته التي كان قد بدأها في مصر، ولا طموحه وطموح المسلمين في تحرير المنطقة من سلطة الصليبيين.

انطلق صلاح الدين من مصر بجيش جرار به الكثير من المتطوعين المصريين، إضافة إلى الإمدادات التي أتته من العراق والشام والحجاز، وهزم الصليبيين المقيمين في الشرق، في معركة حطين عام 1187م، وبعدها استرد بيت المقدس وأغلب المدن التي كانت تحت سيطرة الصليبيين.

وكانت العلاقات بين صلاح الدين وإمبراطور بيزنطة في أفضل حالاتها، في علاقة أشبه بالتحالف السياسي العسكري ضد الأوروبيين الغربيين، وهو أمر ساعده كثيرًا في انتصاراته.

ففي حطين تلقى دعمًا عسكريًّا واستخباراتيًّا من البيزنطيين؛ فقد ظهر أسطول بيزنطي أمام جزيرة قبرص في البحر المتوسط، حسبما يذكر أبو شامة المقدسي في «كتاب الروضتين»، وهو أمر ساهم في تأمين ظهر صلاح الدين خلال معركته الدائرة في الشام وقطع أي إمداد أوروبي عن الصليبيين في الشرق.

إضافة إلى أن مسيحيي بيت المقدس من الأرثوذكس كانوا على اتصال بصلاح الدين يخبرونه بتحركات الصليبيين ويمدونه بالمعلومات عن طريق رسل بيزنطيين، وذلك بعد أن ضاقوا باللاتين الكاثوليك (الصليبيين) المختلفين معهم مذهبيًّا، حسبما توضح الدكتورة زبيدة عطا في كتابها «الشرق الإسلامي والدولة البيزنطية».

الحملة الصليبية الثالثة والتحالف البيزنطي مع صلاح الدين

تقارب حكام الدولة البيزنطية مع صلاح الدين وتبادل الرسل فيما بينهما بدأ عام 1181م، حين بعث الإمبراطور ألكسيوس الثاني كومنينوس إلى صلاح الدين يطلب عقد معاهدة سلام معه، متعهدًا بعدم مشاركة بيزنطة في أي حرب صليبية ضده، حسبما نفهم من أبي شامة المقدسي.

هذا التحالف أدى دورًا كبيرًا خلال الحملة الصليبية الثالثة، التي جاءت ردًّا على انتصار صلاح الدين في حطين.

هذا التحالف استمر فيما بعد ألكسيوس الثاني (توفي 1183م)، ففي عام 1189م أرسل الإمبراطور البيزنطي إسحاق أنجليوس إلى صلاح الدين يعلمه بتجهيز الفرنجة (الصليبيين) جيشًا لغزو بلاده واسترداد بيت المقدس، ويؤكد له أنه لن يدعهم يمرون من بلاده ليصلوا إلى الشام وسيبذل قصارى جهده لإعاقتهم، مشيرًا إلى أن الألمان بقيادة الإمبراطور فريدريك بربروسا على مشارف بلادهم في طريقهم إلى صلاح الدين وعددهم يتجاوز مليون جندي، حسبما يذكر ابن شداد في «النوادر السلطانية».

واستمر أنجيلوس يراسل صلاح الدين ويعلمه بتحركات حملة بربروسا، ويصف له حال الجيش الألماني، ولكنه لم يستطع أن يمنعهم من العبور كما وعد صلاح الدين، لقوتهم ولعدم استعداده للهزيمة والتضحية بملكه، حيث أجبروه على توقيع معاهدة صلح وإذعان لهم، ولكنه رغم ذلك كان يراسل صلاح الدين سرًّا.

وفي الرسالة التي جاءت في «كتاب الروضتين»، يقول لصلاح الدين: «قد سار في بلادي الألمان، وما هو عجب، فإن الأعداء يرجفون بأشياء كذب على قدر أغراضهم، ولا تشتهي أن تسمع، فإنهم قد تأذوا وتعبوا أكثر مما آذوا فلاحي بلادي، وقد خسروا كثيرًا من المال والدواب والرحل والرجال، ومات منهم كثير، وقتلوا وتلفوا، وبالشدة تخلصوا من أيدي أجناد بلادي».

وفي نفس الرسالة – التي لم يصلنا نصها كاملًا – اعتذر لأنه اضطر للموافقة على عقد معاهدة مع بربروسا إمبراطور ألمانيا، لأنه خاف على إمبراطوريته من السقوط في يد الألمان، وكان يتمنى أن يمنعهم تمامًا من العبور، وقال لصلاح الدين متضامنًا معه:

 «ولا تحمل على قلبك من مجيء الأعداء الذين سمعت بهم، فإن أدبارهم على قدر نيتهم وآرائهم».

وطمأنه بأنه أنهكهم قدر المستطاع معهم، فقال:

«وقد ضعفوا بحيث إنهم لا يصلون إلى بلادك، وإن وصلوا كانوا ضعافًا بعد شدة كثيرة، لا يقدرون ينفعون جنسهم ولا يضرون نسبتك».

ثم يعتب الإمبراطور البيزنطي على صلاح الدين عتاب المحبين لأنه لم يرد على أكثر من رسالة له، ويقول: «كيف نسيت الذي بيني وبينك، وكيف ما عرفت لملكي شيئًا من المقاصد والمهمات، ما ربح ملكي من محبتك إلا عداوة الفرنج وجنسهم».

نفس الأمر كان لدى ملك قبرص الذي احتل الإنجليز بلاده بقيادة ريتشارد الأول، خلال مسيرهم إلى الشام، فأرسل إلى صلاح الدين خطابًا يعرب فيه عن مودته له، ويعلن اتحاده معه ضد الإنجليز.

وتلقى القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الرسالة وأخبر صلاح الدين بفحواها، وأوصاه بعدم الرد، وأن الأفضل أن يترك المعارك مشتعلة بين ملك قبرص والبيزنطيين والفرنجة (الصليبيين)، لما فيه من إضعاف للصليبيين، وأن تقديم أي عون عسكري لقبرص يضعف من جبهة المسلمين، حسبما نفهم من كتاب أبي شامة.

صلاح الدين يحمي الأرثوذكسية من الكاثوليك

كان إمبراطور بيزنطة يتباهى بمسيحيته الأرثوذكسية، ففي الرسالة التي ذكرناها يلقب أنجيلوس نفسه بـ«الملك المؤمن بالمسيح الإله، المتوج من الله»، ولكن الخلاف المذهبي بينه وبين الأوروبيين الغربيين المؤمنين بالمذهب الكاثوليكي، جعلته يرى في صلاح الدين حاميًا لمذهبه أكثر من الكاثوليك الفرنجة (الصليبيين).

والخلاف الكاثوليكي الأرثوذكسي أدى إلى مذابح في أوروبا، وأشهرها ما عرفت بمذبحة اللاتين في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، حيث قتلت الجماهير البيزنطية الآلاف من اللاتين الكاثوليك هناك، وأسروا حوالي 4 آلاف لاتيني وباعوهم كعبيد، وأنهت هذه المذبحة وجود أكثر من 60 ألف لاتيني في بيزنطة، وكل ذلك كان بدعم من الإمبراطور أندرونيكوس الأول كومنينوس، حسبما تتفق المصادر.

وكان إمبراطور بيزنطة يطمع في تعيين صلاح الدين ولاة أرثوذكسًا على الإمارات المسيحية في الشام، فرفض ذلك، ولكنه أمر بتحويل كل الكنائس اللاتينية الموجودة في الشام إلى المذهب الأرثوذكسي، وفيها كنيسة القيامة التي عيَّن عليها قساوسة بيزنطيين، كترضية لأنجيلوس، إضافة إلى أمور أخرى فعلها صلاح الدين ردًّا لجميله، حسبما نفهم من أبي شامة المقدسي.

علاقات جيدة بين المسلمين وبيزنطة حتى نهاية الوجود الصليبي

ظلت العلاقات جيدة بين خلفاء صلاح الدين في الدولة الأيوبية وبين البيزنطيين، وبعد زوال الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك استمرت الصداقة والتنسيق وتبادل الزيارات مع بيزنطة، إلا في أوقات بسيطة.

ولكن الأمور لم تصل إلى التحالف العسكري أو تقديم مساعدات عسكرية من طرف منهما للآخر، لزيادة التحديات على الطرفين، نتيجة ظهور لاعبَين جديدين على أرض الأحداث، وهما المغول من جهة الشرق، والعثمانيون في الأناضول، حسبما نفهم من دراسة الباحث يوسف مراجع محمد يوسف «العلاقات بين الإمبراطورية البيزنطية والدول الإسلامية».

المغول والعثمانيون كانا عدوين للمماليك وبيزنطة، فانشغلت كلتا الدولتين بمقاومة عدويهما الجديدين، بجانب الصليبيين الذين لم ينقطع وجودهم في الشام، وظلت حملاتهم الآتية من الغرب تتجدد حتى انتهى الوجود الصليبي نهائيًّا من الشام على يد السلطان المملوكي الأشرف بن قلاوون (توفي 1293م)، الذي كان حليفًا متينًا للبيزنطيين.