في عام 2019 فاز فيلم طفيلي Parasite بجائزة أوسكار أفضل فيلم في وضع غير تقليدي، فيلم بلغة غير الإنجليزية تدور أحداثه في دولة خارجة عن أمريكا مركز الحفل، انتقد «طفيلي» وضع الطبقات الاجتماعية في كوريا في إطار يكاد يكون كوميديًا، فيلم ذو إيقاع سريع يعامل مشكلاته الجدية بعدم جدية، كما أنه فيلم يدمج عدة أنواع فيلمية رعبًا وإثارة وغيرها، وهو ذو قاعدة جماهيرية كبيرة، شعبي وسهل المشاهدة ليس ثقيلًا أو مجهدًا، حتى مع توظيفه لتيمات معقدة سياسيًا واجتماعيًا إلا أنه يعمل كفيلم ذي حبكة مضغوطة ومثيرة تجعل المشاهد على حافة مقعده حتى مشهد النهاية.

«طفيلي» من إخراج بونج جون هو يعتبر الأول في عدة أشياء، فهو أول فيلم بلغة أجنبية بالكامل يحصد الجائزة، أول فيلم كوري يحصد الجائزة، كما أنه أحد أكثر الأفلام المحبوبة نقديًا وشعبيًا في السنوات الأخيرة، وهو ما ابتعدت عنه الأوسكار من سنوات طويلة بتفضيل أفلام جدية ذات برستيج وثقل دون قاعدة جماهيرية تشجع فوزها أو تغضب لخسارتها، لكن ترشيحات «طفيلي» أغفلت جانبًا كبيرًا من التغيير الثوري الذي تطمح إليه الأكاديمية التي تحاول مع كل عام التركيز مع تغيير جديد أو تمثيل ثقافي أكثر تنوعًا، لم يترشح الفيلم لأي جائزة في فئة التمثيل، وهو من نوادر الجائزة بخاصة عندما يحصد فيلم ما الجائزة الكبرى، لم يكن «طفيلي» هو الأول الذي يواجه ذلك النقص حدث ذلك مع فيلم المليونير المتشرد Slumdog Millionaire 2008 من إخراج الإنجليزي داني بويل، الذي تقع أحداثه في الهند مع ممثلين هنود، حصد الفيلم صفرًا في الترشيحات التمثيلية وحاز على جائزة أفضل فيلم.

التمثيل الآسيوي

الفيلمان من أصل آسيوي، ولم يتم تقدير الممثلين الآسيويين الذين دبو في قصصهما الحياة، في النسخة الأخيرة من الجائزة عام 2023 أعادت الأوسكار الكرة بتفضيل فيلم من أصل آسيوي، لكن هذه المرة لا تقع الأحداث في دولة آسيوية لكن على أرض أمريكية بتمثيل ثنائية ثقافية داخل نسيج المجتمع الأمريكي وهي المهاجرين القدامى من الدول الآسيوية إلى الولايات المتحدة والأجيال اللاحقة ذات الثقافة الأمريكية والوجوه الآسيوية، بفيلم كل شيء في كل مكان في الوقت نفسه Everything Everywhere All at Once تلافت الأكاديمية الوقوع في خطأ «طفيلي» والمليونير المتشرد وعاملوا الفيلم كأى فيلم آخر ذي حظوظ كاملة في كل الجوائز التمثيلية والتقنية وليس كمفاجأة في نهاية الحفلة تثبت اهتمامهم بالتنوع العرقي والثقافي، رشحت ميشيل يو الممثلة ذات الأصل الماليزي وكذلك الممثل كي هوي كوان ذو الأصول الفيتنامية الذي عاد للأضواء بعدما اكتشفه سبيلبرج طفلًا في فيلم انديانا جونز منذ عقود، خلت الحفلة من التمثيل المعتاد للأمريكيين من أصول أفريقية وركزت على الأمريكيين ذوي الأصول الآسيوية بشكل يكاد يكون حصريًا في احتفالية أعادت للجائزة بعضًا من شعبيتها نظرًا لامتلاك الفيلم قاعدة جماهيرية ضخمة.

التحول من أفريقيا إلى آسيا

منذ أيام قليلة لم تتحول لأشهر بعد انتقدت بعض الجماهير الغربية صورة تجمع الفائزين بجوائز البافتا البريطانية، جمعت الصورة ممثلين وممثلات ومخرجين وكتابًا من أصحاب البشرة البيضاء، مشهد كهذا كان المشهد الافتراضي سابقًا أصبح غريبًا على الثقافة المعاصرة التي تدفع نحو التنوع والاعتراف بالآخر كفرد أصيل في النسيج الثقافي والمجتمعي، بعدها جاءت ليلة الأوسكار بتوقع مسبق للتركيز على التجربة الآسيوية الأمريكية ومعها بتجربة الاحتفاء بأفلام جماهيرية نوعية ليست ذات إنتاج ضخم أو جدية فنية غير شعبية، فاز «كل شيء في كل مكان» بالجائزة الكبرى ومعه ميشيل يوه بجائزة أفضل ممثلة رئيسية، وهي المرة الأولى لممثلة آسيوية في تلك الفئة والمرة الثانية لممثلة غير بيضاء العرق بعد هالي بيري عام 2002، كذاك فاز كي هوي كوان بجائزة أفضل ممثل مساعد، وهي المرة الثانية لممثل آسيوي للفوز بالجائزة.

إضافة لجوائز التمثيل ذهبت جائزة الإخراج والسيناريو للفيلم نفسه للمخرجين «الدانييلز»، أعادت الأوسكار بذلك تقليد أن يكتسح فيلم واحد كل الجوائز الرئيسية فيصبح هو فيلم الليلة، قبل أن يحدث ذلك حرصت الأكاديمية على تقديم بعض الجوائز التقليدية أولًا، فهنالك بعض العادات لا تتغير، حصد براندن فريزر جائزة أفضل ممثل عن دوره المتطرف شكليًا وعاطفيًا في فيلم الحوت The Whale، كما ذهبت معظم الجوائز التقنية للفيلم الحربي المضاد للحرب الذي أنتجته «نتفليكس» اقتباسًا عن رواية بالاسم نفسه All Quiet on the Western Front كل شيء هادئ على الضفة الغربية.

الاحتفاء بالثنائية الثقافية

ضمنت الاحتفالية إرضاء أذواق متعددة وانتقادات متعددة كذلك، فعلى الرغم من تنحيها عن الاحتفاء بأصحاب البشرة السمراء كعادة السنوات القليلة الماضية فإنها أعطت جائزة تصميم الأزياء للمصممة السمراء روث آي كارتر، لكن في الجوائز الرئيسية فقد احتفت الجائزة بثنائية ثقافية أساسية في المجتمع الأمريكي كما كرمت ممثلين طال انتظار تكريمهم، ميشيل يوه الممثلة ذات القدرات الجسدية والقتالية المبهرة التي حظيت بمسيرة حافلة بالنجاحات والشعبية في أفلامها في هونج كونج ثم بشكل أكثر عالمية وهوليوودية، في دورها في «كل شيء» تجمع يوه كل مواهبها وإمكانياتها لتقدم أداء حساسًا لأم مهاجرة تحاول التعامل مع كل شيء في الوقت ذاته، تحاول تقبل ابنتها ذات الميول المثلية وتتخلى عما تظن أنه إرثها الثقافي كما تحاول إيجاد طريقها في الاقتصاد الأمريكي الذي يسحق الكل تحته وبخاصة هؤلاء الذين لا ينتمون إلى التراتبية العرقية والاجتماعية المفضلة ووسط كل ذلك تستكشف قدراتها القتالية مرة أخرى في عوالم مختلفة.

لم تكن جائزة أفضل ممثلة محسومة لميشيل يوه، فهنالك دائمًا منافسة كيت بلانشيت التي قدمت ما يمكن اعتباره دور عمرها في «تار» TÀR لكنها فائزة دورية بالجائزة لذلك تم تفضيل فوز أكثر عاطفية وإثباتًا للقيم المتجددة للمؤسسات الأمريكية، قبل الحفل بعدة أيام تعرضت يوه لانتقادات واسعة بسبب تسويقها لنفسها كمستحقة للجائزة، بنشرها على حسابها على «انستجرام» مقالًا يتنبأ بكونها المرأة الآسيوية الأولى في التاريخ للفوز بالجائزة التي تمثل حلمًا للسينمائيين، حذفت يوه المنشور سريعًا لكن أصبح من الواضح أن فوزها حتمي، أي سيناريو غير ذلك كان سيضعف من تاريخية الاختيار ووقعه التقدمي.

ميشيل يوه من فيلم Everything Everywhere All at Once

الحلم الأمريكي

بجانب تاريخية فوز ميشيل يوه جاء فوز كي هوي كوان العاطفي الذي تكرر على مدار موسم الجوائز كله، وقف كوان على كل المسارح المتاحة: البافتا، الساج والجولدن جلوب بشخصه الرقيق الهش ومشاعره التي يرتديها على وجهه ودموعه التي دائمًا ما تسبق بداية قدرته على الكلام، يمثل فوز كوان بجانب كونه تمثيلًا ثقافيًا مهمًا قيمة عاطفية لفكرة العودة بعد غياب مثل فوز فريزر، عاش كوان سنوات يشعر أنه منسي تمامًا حتى حادثه المخرجين دانيل ودانيل.

يظهر في كلمات ووجه كوان امتنان طفولي ومؤثر لا يمكن لفوزه أن يغضب أحدًا مهما كان ساخرًا، صدقه وقصته الخيالية تضمن له فوزًا دون خلافات، يصرخ كوان في نهاية خطابه بأن ذلك هو الحلم الأمريكي، ذلك المصطلح العائم الذي تم نقده لعقود باعتباره وهمًا وأكذوبة، يرى كوان وصوله من مركب لاجئين إلى أكبر مسرح في العالم هو تجسيد للإمكانية التي تمثلها أمريكا، إمكانية حدوث أي شيء لأي شخص، بالطبع يغفل ندرة تجربته وانعدام العدالة الأمريكية بشكل عام، لكن خصوصية تجربته تجعل حلمه الشخصي حقيقة.

بجانب فوز الممثلين الرئيسيين للفيلم يأتي فوز الفيلم نفسه بالجائزة الكبرى في إعادة لتصور شكل الجائزة، الفيلم من إنتاج شركة A24 الداعمة لتجارب الأفلام البديلة التي سبق وفازت بالجائزة عام 2016 في مشهد شهير أعلن فيه وارن بيتي فيلم «لالا لاند» قبل أن يشهق الحضور بكون الإعلان خاطئ وأن فيلم ضوء القمر Moonlight لباري جينكنز هو الفائز، لم يكن لضوء القمر نفس الزخم الشعبي الذي يتمتع به كل شيء في كل مكان لذلك أغضب فوزه كثيرين باعتباره فوز صوابي سياسيًا تقرر في آخر لحظة بخاصة أن الفيلم الذي أعلن خطأ كان أقرب للجائزة.

كلا الفليمين ذو ميزانية محدودة لكن ضوء القمر حميمي يستخدم ميزانيته في تضخيم المشاعر غير المنطوقة يتحرك ببطء وهدوء أما «كل شيء في كل مكان في الوقت ذاته» يعمل كفيلم ضخم على الرغم من تكلفته غير المتطرفة لكنه يستخدم كل إمكانياته في صياغة فيلم تكثيري Maximalist يحدث به كل شيء فعلًا، بأساليب قطع ومونتاج متسارعة وجنونية ومؤثرات بصرية متواضعة لا تبدو كذلك، ذلك هو الفيلم الثاني لمخرجيه، وشارك في المونتاج الحائز على الأوسكار فريق من خمسة أفراد من الهواة الذين علموا أنفسهم عن طريق الإنترنت، ترسخ تلك التفاصيل لفوز يحقق الأحلام فعلًا ويثبت أن كل شيء ممكن.

يشعر الفائزون أنهم ليسوا في أماكنهم الطبيعية فهم ليسوا متمرسين كفاية، وليست وجوههم مألوفة جماهيريًا أو حتى من الناحية العرقية، لكن يجادل البعض أن ذلك الفوز ليس ثوريًا كما يعتقد صناعه أو مشجعوه في مقال نشر في «لوس أنجلوس تايمز» يجادل الناقد الأمريكي الآسيوي جاستن شانج أن الفيلم الثوري والغرائبي شكليًا في جوهره هو فيلم تقليدي يعلن أفكاره ومشاعره حواريًا، ويؤكد نقاطه مرارًا وتكرارًا، وأن الأفلام مقابله هي أفلام أكثر تعقيدًا وغموضًا وليست تقليدية كما يروج لها، مثل «تار» الذي يغزل قصة غامضة أخلاقيًا وسرديًا أو التصورات الشعرية للفن في عائلة فيبلمان. في النهاية يمثل فوز الفيلم عدة مكاسب ثقافية وشعبية، بل وتجارية للاحتفالية التي لم تتوج فيلم شاهده جمهور كبير منذ ثلاث سنوات كما أنه يثير الجدالات والخطاب الدائر حول ما يصنع فيلم مهم مستحق للجوائز ويقلل الفارق بين ما هو فني وما هو جماهيري.