تعدُّ موائد الرحمن واحدة من أشهر ظواهر شهر رمضان في مصر، فما أن يهل علينا الشهر الكريم حتى تُبسط الموائد في الشوارع وتُرصّ عليها المأكولات من كل الأصناف لإطعام الصائمين.

عادة كريمة، طيبة ولا شك، لكن هذا لم يمنع من أن تنالها عدة سهام انتقادات من وقتٍ لآخر، ما أبرز هذه الانتقادات؟ ولماذا تُوجّه إلى نشاطٍ خيري بهذا الحجم الكبير والمؤثر؟

البداية فاطمية

نعرف أن إضفاء هذا الطابع الكرنفالي على رمضان عرفته مصر خلال العهد الفاطمي، الذي أرادوا ترسيخ مذهبه في نفوس المصريين عبر التقرّب إلى المصريين؛ ظهرت حلويات الكنافة والقطايف.

وأيضًا، ظهرت الاحتفالات مثل ليالي ختم القرآن الكريم ورؤية الهلال التي كان يُنفق فيها الخليفة الفاطمي ببذخ على الحضور، كذلك طيلة الشهر الفضيل حرص الخلفاء على إقامة موائد طعام (أسمطة) عامرة بما لذ وطاب من الطعام حتى قيل إن آلاف القدور كانت تخرج من مطابخ الخلفاء لإطعام المحتاجين.

يقول رمضان الأحمر في كتابه «الحياة الاجتماعية في مصر في عصر الدولة الفاطمية»، إن الدولة كانت تستعدُّ لاحتفالات رمضان قبل قدومه، أي في الأيام الثلاثة الأخيرة من شعبان، متبعًا «كانت المآدب والأسمطة مظهرًا من مظاهر الاحتفال بهذا الشهر، حيث كان كرم الخلفاء والوزراء والأمراء يتجلّى فيه، فكانت دورهم لا تخلو في كل ليلة من لياليه من إقامة المآدب الخاصة والعامة حتى قيل إن ما ينفقونه في هذا الشهر يفوق ما كانوا ينفقونه في سائر شهور السنة.

ويضيف: بدأت عادة «سماط رمضان» بميزانية تجاوزت الـ3 آلاف دينار، زاد حجمها تدريجيًا حتى بلغت 16 ألفًا عام 516هـ.

ويتبع الأحمر: كان سماط الخليفة من أعظم الأسمطة وأحسنها، يمدُّ من صدر القاعة إلى مقدار ثلثيها، مُعِبًّأ بأصناف المأكولات والأطعمة الفاخرة التي كانت تفيض على الجالسين حتى إنهم كانوا يحملون معهم ما يكفي لسحورهم ويتهادونه في ما بينهم.

قدّم القلقشندي وصفًا حيًا لأحد هذه الأبسطة قال فيه «يعمّر داخل السماط على طوله بـ21 طبقًا عظامًا، وفي كل طبق 21 خروفًا من الشوي، وفي كل واحد منها 350 من الدجاج والفراريج وأفراخ الحمام، ويعبّأ مستطيلاً في العلو حتى يكون كقامة الرجل الطويل. ويسوّر بتشاريح الحلواء اليابسة على اختلاف ألوانها».

ويضيف: «يسدُّ خلل تلك الأطباق على السماط نحو من خمسمائة صحن من الصحون الخزفية المترعة بالألوان الفائقة، وفي كل منها سبع دجاجات من الحلواء المائعة والأطعمة الفاخرة».

ظاهرة كريمة.. ولكن!

في كتابه «التاريخ الفاطمي الاجتماعي» وجّه أستاذ التاريخ إبراهيم رزق الله بعض الانتقادات لهذه الظاهرة قائلًا «إذا كان الخلفاء والوزراء اعتادوا أكل هذه الألوان من الأطعمة فليس معناه أن الفقراء كانوا يأكلونها».

ويعتبر رزق الله، أن هذه الاحتفالات لم تكن معبّرة عن الفقر المنتشر بين عوام المصريين،  ويعلّق «قلما يأكل فقراء المدينة اللحوم إلا في المناسبات حيث يتخاطفون المأكل والحلويات ويتندرون بعدها على مواسمها.

هذا الانتقاد النادر للموائد الرمضانية الفاطمية لم يمنع تواصلها في العصور اللاحقة حتى تحوّلت إلى عادة متأصلة في شوارع مصر، وارتبطت –على مدار الزمن- بأسماء شهيرة، بداية من قاعة الذهب في قصر الخليفة الفاطمي العزيز بالله التي استضافت أول «سماط رمضاني» في تاريخ مصر بجانب الأسمطة التي أقامها في الجامع العتيق (عمرو بن العاص) والجامع الأزهر، مرورًا بالفقيه الليث بن سعد الذي عاش في العصر العباسي، وانتهاء بالمفكر مصطفى محمود خلال عصر السادات، وغيرهم من الشخصيات التي اشتهرت بإقامة موائد الرحمن للفقراء.

في العصر الحديث، الأرقام الإحصائية الاجتماعية شبه غائبة، فتتركنا لمحاولات عبثية في الاقتراب من الحقيقة. في 2008 نشر الصحفي إبراهيم عيسى كتابه «عن مبارك وعصره ومصره»، في نقل عن دراسة قامت بها جامعة الأزهر، أن موائد الرحمن تتكلّف ملياري جنيه، وأن عدد المواطنين الذين يستفيدون منها قرابة 3 ملايين فرد على الأقل.

في مقالته دلّل عيسى على شيوع ظاهرة موائد الرحمن بفشل نظام مبارك في توفير لقمة عيش كريمة للمصريين.

في كتابه «القاهرة: مدينة عالمية» للباحث السياسي دايان سينجرمان، تضامن مع وجهة نظر عيسى خلال مؤلَّفه الذي حاول أن يوضّح به كواليس قيام ثورة يناير ضد نظام مبارك، بعدما اعتبر المؤلف أن موائد الرحمن «تجسّد الاستعراض الشرعي للثورة، التي يتم إثباتها من خلال الاهتمام بأن تكون المائدة هي الأكبر وأن يتم تقديمها في معظم الأنحاء».

ويضيف: «يُمكن قراءة هذا المشهد من التفاوت الاجتماعي والتطوع بالصدقات أيضًا على ضوء عوامل الخطر. الخطر المؤكد للانتفاضة. فقد تم فرض أعمال الخير كعلاقة وحيدة بين الفقراء وكوسيلتهم اليتيمة للحراك الاجتماعي إلى أعلى مستوى ويقف الأمن كالمتراس الأخير ضدهم. وليس هناك من نمط آخر يسمح بإعادة توزيع ثمار الليبرالية».

الأمر ذاته عبّر عنه دكتور يونان لبيب رزق في كتابه «مكانة مصر عبر العصور الحديثة»، الذي انتقد شيوع ظاهرة موائد الرحمن في شهر رمضان، قائلًا «تُنسب لأحد الأغنياء الذي يسرق المشترين جهارًا نهارًا، أو لإحدى الفنانات سيئات السُمعة ممن أردن التكفير عن ذنوبهن بهذا العمل المظهري».

من جانبه، اعتبر نضال عبدالقادر في كتابه «المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع أن موائد رمضان الحافلة بأنواع المأكولات والحلويات أحد أشكال «النفاق»، إذ يقول «يصل نفاق كثير من الصائمين قمته حين يتناولون على الإفطار بعض حبات من التمر اتباعًا للسُنة قبل أن يغوصوا في مختلف الطيبات من الأطعمة والمشروبات».

أما أكثر الانتقادات التي تلقتها عادة إقامة موائد الرحمن فقد جاءت على يديْ المفكر عبدالوهاب المسيري في كتابه «العلمانية الجزئية.. العلمانية الشاملة»، فعلى الرغم من أنه وصفها بـ«الظاهرة الدينية الكريمة» فإنه اعتبرها مؤشرًا على تزايُد معدلات العلمنة في المجتمع، لأن كثيرين يفطرون أو ينغمسون في الحياة الدنيا طيلة العام، فيُكفّرون عن إحساسهم بالذنب لا بالصيام وإنما بدفع الأموال.

ويضيف المسيري: إذ كان هناك ما يُسمّى «صهيونية دفتر الشيكات»، وهي اليهودية أو الصهيونية التي تعبّر عن نفسها من خلال شكل واحد وحسب (أي دفع الأموال لإسرائيل) دون الهجرة أو حتى التظاهر من أجلها، فإنه يجب ألا نستبعد وجود «إسلام دفتر الشيكات»، وهو إسلام انكمش وانحسر إلى أن أصبح مائدة للرحمن تقام في رمضان.