أثناء قيادته لجيشه المتجه صوب العدو تعثر القائد في حجر عثرةً أودت بحياته. ارتبك الجيش فاستغل العدو الفرصة وألحقَ بهم الهزيمة؛ لوجود حجرٍ بالطريق، انهزم جيش بأكمله. هذه القصة مستوحاة من أغنية أمريكية تحاول أن تلفت النظر إلى أن «أبسط» العوامل تؤدي إلى تكوين صورة كلية، فإن أراد أحدهم فهم تلك الصورة فعليه العودة لتلك العوامل. من هنا يُصبح السؤال التالي منطقياً: كيف أدت عوامل البيئة المصرية (كالمياه، والمحاصيل، والأشجار، والميكروبات) إلى تشكيل رؤية الحُكم العثماني لمصر؟ وكيف أدت هذه العوامل إلى تشكيل تاريخ مصر الحديث كليةً؟


الفلاحون والإمبراطورية

بُعيد الدخول العثماني لمصر، وتحديدًا عام 1517، أجرى العثمانيون أول مسح للبيانات في ولايتهم الجديدة. فقد بدأوا محاولة معرفة المصادر المائية في مصر، والتجمعات المُعتمدة عليها، وعلاقة هذه التجمعات بالمصادر، كما أرادوا معرفة المستفيد من هذه المصادر ومن يتحكم بها.

وبالرغم من أن هذه المسوح كانت إجراءات معتادة من قبل الإدارة العثمانية، إلا أن مسحًا حول المياه والري كان فريداً من نوعه؛ الأمر الذي يعكس رؤية العثمانيين لمصر على أنها أرض تعتمد بالأساس على المياه. كما تعكس هذه المسوح رؤية إدارية أعمق؛ فقد دارت أسئلة المسوح حول موضوعين بالأساس: إمكانية وجود أراضٍ تصلح للري وإمكانية استصلاحها من عدمه في حدود الموارد المائية المصرية، وتحديد المسئول المحلي عن المورد المائي.

فقد توصل العثمانيون إلى مُعادلة بسيطة من شأنها تسهيل الإدارة في مصر، وهي: وضع مسئولية إدارة الري بيد المصريين أنفسهم لتجنب أي نزاع، ولأن المصريين لديهم الخبرة والمعرفة الكافية بأرضهم. كذلك توصلوا إلى صيغة لإدارة الإمبراطورية ككل، وهي إدارة الموارد الطبيعية وفقاً للمتاح؛ فما توفره مصر هو الحد الإداري (Mikhail 2011, pp. 40-66)، فإذا ما وقعت الحاجة لزيادة الموارد يجب النظر بعيداً عن مصر في الولايات الأخرى كما سيتضح بعد قليل.

ولكن يظل السؤال: لماذا الماء تحديدًا؟ ببساطة، شكلت جغرافيا مصر المنفتحة على عدد كبير من المصادر المائية كالنيل والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، كما الأراضي القابلة لزراعة المحاصيل المختلفة، بالإضافة إلى موقع مصر المتميز في الخريطة العثمانية، فرصةً مناسبةً «للمشروع» العثماني. فيمكن أن يُعاد تشكيل مصر إدارياً وفقاً لأماكن مصادر المياه، ثم تُعطى مسئولية إدارة هذه المصادر المصريين؛ مما سيؤدي إلى زيادة المحاصيل والحبوب التي يمكنها أن تغطي حاجة الإمبراطورية ككل، ويمكنها أيضًا أن تُشكل مصدرًا أساسيًا للتجارة. وهذا تحديدًا ما وقع؛ فبعد تقسيم مصر إداريًا وفقًا لمصادر المياه، وبعد إعطاء الفلاحين المصريين سلطات إدارية، بدأ ربط مصر بعملية التجارة الداخلية في الإمبراطورية؛ إذ تحولت مصر إلى سوق كبير يُصدر الحبوب لسائر الإمبراطورية، وللجيش العثماني في كل حروبه، وصدرت فرمانات سلطانية متعددة تُلزم مصر بتصدير الحبوب وإمدادات المياه لكثير من الولايات والمدن وعلى رأسها: إسطنبول، ومكة (Mikhail 2011, pp. 123-40).

أدت هذه النظرة الإدارية إلى تشكيل «المكان» المصري وفقًا لها، فقُسِّمت الأراضي إلى سُلطانية تقوم عليها السلطنة، وبلدية يقوم عليها الفلاحون المصريون. وقُسمت الشوارع إلى: مسلوك يسلكه العامة بحرية ويُتاجَر فيه، وإلى سلطاني يستخدمه العامة وفقاً لشروط الإمبراطورية. كما قُسمت مصر إداريًا إلى مدن وقرى وفقًا للمساهمة التجارية وللقيمة الاقتصادية لكلٍ، فالإسكندرية والسويس ورشيد أصبحت مراكز للتصدير، والقُرى الملحقة بها أصبحت تجمعات للأسواق تُطالَب بدفع ضرائب للسلطنة.

في هذا التقسيم لعب الفلاحون المصريون، نتيجة السلطة الممنوحة لهم ونتيجة خبرتهم في التعامل مع الأرض، دورًا رئيسًا وصل إلى المشاركة أحيانًا في وضع «السياسات العامة» لمصر، بل للإمبراطورية ككل. وقد أدى هذا التقسيم وهذه السلطة الممنوحة للمصريين إلى تعميق ارتباط المصري بمكانه، وشعوره بوجود رابط بينه وبين الإمبراطورية.


الحاجة إلى الخشب وعمق الصلة بالأناضول

وفي هذه الصورة الكلية تبرز الحاجة لوجود سفن لأغراض التجارة، مما أنشأ حاجة لإيجاد خشب يمكن تحويله لصناعة السفن. لكن في تلك الفترة من تاريخ مصر كانت الغابات المصرية، نتيجة للعوامل البيئية ولطبيعة التربة المصرية، قد اتجهت إلى الندرة؛ فالطبيعة وقتها لم تمكن الإدارة من زرع أشجار، ولا من الاستفادة من الأشجار الموجودة في مصر لندرتها (Antes 1800, pp. 99–100 & 105–06).

ومن هنا، اتجهت الإدارة العثمانية إلى البحث عن مصادر أخرى للخشب خارج حدود مصر؛ وقد مثلت الأناضول المصدر الرئيس لتلك الأخشاب. فقد تحولت غابات الأناضول إلى «سلعة» تتمثل في «خشب خام» يمكن تصديره إلى مصر من أجل بناء السفن، ومن أجل بناء السدود أيضًا. هذه العملية تعكس عدة أشياء غاية في الأهمية: فأولًا، لأن مصر تشكل أهمية قصوى تستدعي من الإدارة العثمانية أن تحوّل مجالًا بيئيًا مثل غابات الأناضول إلى سلع بهدف التصدير، ثم نتج عن هذه السلع المُصدرة إلى مصر إيجاد شعور لدى المصريين بأنهم جزء من الإمبراطورية بالفعل؛ فما ينقصهم يمكن الحصول عليه من أي مكان بسهولة. ثانيًا، تلاءم هذا التصور مع المنطق العثماني لإدارة الموارد؛ فما ينقص إقليم ما بسبب ظروفه البيئية يمكن توفيره من أي مكان آخر.

إن مركزية الخشب لمصر يمكن فهمها إذا ما نُـظر إلى أولى محاولات «الاستقلال» الجاد عن الإمبراطورية العثمانية على يد محمد علي. فما يعنيه «استقلال مصر» هو اعتمادها على مواردها هي، وقطع الصلات المتشعبة، والتي تشكلت عبر مئات السنين؛ مما يعني وجوب إنشاء شبكة جديدة مستقلة توفر لمصر ما تحتاجه من مصادر؛ وتحديدًا الخشب.

ففي عام 1813 أمر محمد علي بقطع كل أشجار النبق والتوت في مصر، ولكن مع الوقت فهم محمد علي أن قطع كل الأشجار المصرية لن يغني شيئًا، فعاد وأصدر فرمانًا عام 1817م يُلزم الجميع بزرع شجرة واحدة على الأقل، ومن يُخالف ذلك يُعاقب جسدياً. ولأنه فطن إلى عدم إمكانية وجود اكتفاء ذاتي مصري، فقد اتجه محمد علي إلى بيئات مجاورة مختلفة يمكنها أن تمده بالخشب اللازم (Mikhail 2011, p. 161).

يظهر ذلك أشد ما يظهر في المفاوضات بينه وبين السلطنة عام 1833، فقد أكد السلطان على المفاوضين ألا يقبلوا تحت أي ظرف إعطاء محمد علي أشجار الأضنة. كما أرسل إبراهيم باشا لوالده محمد علي رسالة في نفس العام يؤكد فيها ضرورة التمسك بمصادر الخشب، ثم توصل لاتفاق ينص على تنازل محمد علي عن صقلية وأنطاليا مقابل الحصول على الأضنة وخشب هاتين الولايتين (Kutluoglu 1998, p. 205–6). فقد كان البحث عن الخشب محركًا أساسيًا في مشروع: العثمانيين، ومحمد علي.


المرض في مصر العثمانية

كان المرض جزءًا «طبيعيًا» من حياة المصريين أثناء الحكم العثماني وحتى عام 1799م. فقد نظر المصريون للجسد على أنه جزء من الطبيعة المحيطة به، وأنه يؤثر فيها ويتأثر بها؛ ونتيجة لهذه العلاقة المتبادلة يمكن أن تنشأ الأمراض والأوبئة التي تستدعي وجود طقوس اجتماعية مثل الدعاء والتضامن وما إلى ذلك (Mikhail 2011, p. 202).

فقد رأى الطبيب المصري ابن الرضوان المرض على أنه جزء من علاقة الإنسان بالمكان؛ وبما أن مصر مكان تختلط فيه الأمزجة والعناصر البيئية بكثرة، فقد صنفه على أنه مكان منتج للأمراض. كذلك نظر المصريون للأوبئة، فقد تعاملوا معها على أنها جزء من بيئتهم، وأنها شيء داخلي، مألوف ويجب ألا يُنفر ممن يُصاب بها. بل تشكلت الإدارة العثمانية لمصر وفقاً لهذا، فقد كانت كل الفرمانات الخاصة بالتعامل مع وقائع الأوبئة والفيضانات تتعلّق بالجوانب الإدارية والاقتصادية (Mikhail 2011, pp. 214-21).

فمثلًا، نتيجة لانحسار مياه النيل عام 1694، تناقصَ إنتاج الحبوب والمنتجات الزراعية ممّا أدى لارتفاع الأسعار بشكل كبير، هنا تدخّلت البيروقراطية العثمانية لتوفير قسائم لبيع الطعام بأسعار رخيصة للمصريين. لكن أدّى استمرار هذا الانحسار لوقوع مجاعة عام 1695 التي نتج عنها وقوع اشتباكات وانتفاضات من المصريين على الحكم العثماني انتهت بعزل الوالي وتعيين إسماعيل باشا واليًا جديدًا لاحتواء الموقف، لكن في نفس العام انتشر الوباء في مصر وزادت الوفيات بشكل كبير.

وفي السنوات التالية وقعت نفس السلسلة من الأحداث: انحسار، فجفاف، فنزاع وغضب، فوباء. وفي هذه السلسلة تعامل المصريون مع الوباء على أنه شيء مُنتظر حدوثه وغير مُستغرب، كما تعامل معه الحاكم العثماني باعتباره من نتائج البيئة المصرية، بل يجب توقعه والتأقلم معه. لم يكن يعني هذا تقبل المصريين والعثمانيين للوباء والمرض، ولكنه يعني تقبلهم لإمكانية حدوثه وإنشاءهم لطقوس اجتماعية ومؤسسات إدارية تتعامل معه في حال وقوعه.

ولكن في عام 1799 تغير الوضع تمامًا. فقد نشرت السلطات الفرنسية أثناء حملتها الاستعمارية على مصر منشورات تُفيد بإنشاء أول حجر صحي في تاريخ البلاد، وقد مثّل هذا الحجر فصلًا تامًا بين «المريض» وبيئته، فقد أُجبر كل من يمتلك معلومة عن وجود من يُشتبه في إصابته بمرض أن يتقدم ويُبلغ السلطات لعزل المشتبه به، وإلا تعرض صاحب المعلومة حال إخفائها إلى العقاب الشديد (al-Jabarti, p. 3:81-82).

وقد مثّل هذا الحجر الصحي طريقة جديدة في تعريف «المجتمع»؛ فلم يعد المريض يستدعي طقوسًا اجتماعية من التضامن والدعاء، بل أصبح جزءًا من عالم يجب علاجه أو التخلص منه في معزلٍ بعيد عن المجتمع، وقد أجّج هذا الحجر مشاعر الخوف لدى المصريين؛ ليس الخوف من الموت، وإنما الخوف من أن يُعزل المرء عن أهله (al-Jabarti, pp. 3: 235-36 & 3: 171).

وقد واصل محمد علي ممارسة هذه السياسة بعد رحيل الفرنسيين، حيث طبق حجرًا صحيًا على مدينة الإسكندرية في عام 1813م، ونتيجة لفشل هذا الحجر في منع انتشار الوباء هرب محمد علي إلى الجيزة وطبّق فيها حجراً آخر فصل فيه بين محمد علي وأسرته، وبين سائر أهل البلد؛ فقد أجبرهم على ترك المكان وإجلائه (Mikhail 2011, pp. 234-36).


التحولات

بيد أن محمد علي في مشروعه الساعي نحو «الاستقلال» بمصر عن الدولة العثمانية قد أحدث شرخًا بين الممارسات العثمانية التقليدية، وبين سياساته الشخصية. بيد أن هذا الشرخ لم يكن واقعًا في كل السياسات؛ فهناك آلية بدأها العثمانيون في القرن الثامن عشر، وبلغ بها محمد علي ذروتها.

فقد بدأ العثمانيون في القرن الثامن عشر بمنح الفلاحين المجاورين للأرض كل المشاريع البنائية ومهمات الري ومتابعة الأرض، في مقابل تحصّل الإمبراطورية منهم على الضرائب المفروضة، بينما يأخذ الفلاحون ما يتبقى. ولأنه في بدايات القرن الثامن عشر لم تكن هذه المشاريع ذات نطاق واسع، فقد استمرت هذه السياسة الإدارية بنجاح، وتضمنت هذه السياسة في منتصف القرن الثامن عشر إدراج لوائح بأسماء المشاركين في المشاريع المختلفة ومحاولة إنشاء بيانات حولهم. ولكن مع مشروع محمد علي، ومع توسع المشاريع المصرية في عهده، بدأت هذه السياسات تأخذ منحى جديدًا وهو: سياسات السكان (Mikhail 2011, pp. 170-200).

فقد بدأ في تلك الفترة التعامل مع الفلاحين على أنهم «أنفار» يُمكن أن يؤتى بهم من أي مكان في مصر لخدمة مشروع معين. فوقع انفصال بين الفلاح المصري وبين أرضه، وأصبح الراتب جزءًا من تعامله مع المكان. كذلك بدأت الدولة تنظر إلى الأنفار باعتبارهم فئة لا وجه لها؛ فهي لا تنظر إلى فلاح بعينه يقطن منطقة بعينها، وإنما تنظر إلى عدد في لائحة يُستخدم لخدمة غرض معين.

وبالجمع بين هذا التحول وبين تغير نظرة المصريين للمرض، وبالتالي للبيئة المحيطة بهم، يمكن القول إن أهل مصر تحولوا إلى «مجتمع مصري» يخدم مصلحة مشتركة بغض النظر عن اعتبارات البيئة، ويظهر هذا أشد ما يظهر في مشروع ترعة المحمودية. فقد أعلن محمد علي أن هذا المشروع يهدف إلى تحسين وضع الإسكندرية، وبالتالي تحسين وضع مصر ككل؛ كما أعلن أن هذه الترعة ستمثل تحولاً بإمكانه أن يُطيل عُمر سكان مصر ككل (Mikhail 2011, pp. 242-77).

إن ترعة المحمودية تُمثل مشروعًا مائيًا يحمل تحولات كبرى في تعامل الإدارة مع المصريين. فبعد أن تحول الفلاح المصري إلى «نفر»، وبعد أن تحولت مصر من جزء من إمبراطورية إلى دولة مستقلة، وبعد أن تحولت البيئة المصرية من «طبيعية» إلى بيئة يمكن التحكم فيها بشريًا؛ نشأت فكرة ترعة المحمودية. وقد أدت هذه التحولات إلى سهولة تقبل «موت» العمال أثناء شقّها؛ فقد مثلت الترعة مشروعًا يخدم مصر «المستقلة» ويُسهل اكتفاءها الذاتي، ومن أُرسلوا إليها هم مجرد أرقام في الكشوفات، كما أن موتهم لا يعني الكثير؛ فهم يموتون من أجل مستقبل «بلدهم»، وهم يموتون من أجل الحفاظ على الحدود بين «المجتمع» وبين ما يخرج عنه. ولكن في الأخير باءت هذ الترعة بالفشل (Mikhail 2011, pp. 277-90).

إن دور البيئة والسعي وراء فهم عناصرها لهو دور مثير للأهمية؛ فالبيئة شكلت المجال الذي دارت حوله سياسات العثمانيين منذ أن تولوا حكم مصر، كما أن التلاعب فيها مفاهيميًا وتصوريًا من قبل الاستعمار الفرنسي ومحمد علي قد أدى إلى تدهور ما زالت مصر تعاني منه حتى الآن.

المراجع
  1. Alan Mikhail, “Nature and Empire in Ottoman Egypt,” (USA, Cambridge University Press, 2011)
  2. John Antes, ”Observations on the Manners and Customs of the Egyptians, the Overflowing of the Nile and its effects; with Remarks on the Plague and Other Subjects. Written During a Residence of Twelve Years in Cairo and Its Vicinity” (London: Printed for J. Stockdale, 1800)
  3. Muhammad H. Kutluoglu,” The Egyptian Question (1831–1841): The Expansionist Policy of Memed Ali Pasha in Syria and Asia Minor and the Reaction of the Sublime Porte” (Istanbul: Eren, 1998)
  4. Ali Ibn Ridwan, “On the prevention on bodily ills in Egypt”, trans. Michael Dols, Medieval Islamic Medicine, Berkeley, 1984.
  5. Abd al-Rahman al-Jabarti, ‘‘Abd al-Rahman al-Jabarti’s History of Egypt: Aja’ib al-Athar fi al-Tarajim wa al-Akhbar”, ed. Thomas Philipp and Moshe Perlmann, 4 vols. (Stuttgart: Franz Steiner Verlag, 1994)