يقرن الحديث دائمًا بين الدين والطرق الصوفية في التاريخ العثماني. فقد شهدت هذه الطرق ومُتصوّفيها طوال قرون العهد العثماني احترامًا ورعاية كبيرة من جانب الدولة، وتقديرًا على مستوى رفيع لمشايخها، فكان لكل طريقة من الطرق أتباع بأعداد ضخمة تتبع تعاليم شيخها، وتتوجه بتوجهه.

وكثيرًا ما امتزجت الحياة الدينية والاجتماعية للمجتمعات التي أدارتها الدولة العثمانية؛ بعقائد صوفية تسربت إلى ممارسات عامَّةِ الناس كجزء من شعائر وطقوس الدين. وهو الأمر الذي شكل عاملًا من عدة عوامل أدت لظهور حركة سلفية/إحيائية في التاريخ العثماني عُرفت باسم حركة «قاضي زاده وأتباعه». كان لها أثر واضح في محاربة المتصوفة وعقائدهم التي اعتبروها بدعًا دينيةً لا علاقة للشرع بها.

تأثرت حركة «قاضي زاده» وأتباعه بتعاليم عالِم دين عثماني كبير يُدعى «البرگوي»، فعبر مؤلفاته نادى بوجوب محاربة البدع التي ليست من الدين في شيء، وضرورة التمسك بسنة النبي في جميع أمور الدين، مما يساهم في القضاء على البدع المنتشرة في الدولة العثمانية.


من هو البرگوي؟

هو «محمد بن پير علي البرگوي» المعروف كذلك باسم «برگوي محمد أفندي» (1523-1573). هو عالم دين عثماني ولد في منطقة «بالق اسِير» غربي شبه جزيرة الأناضول. تلقى تعليمه بمدينة «برگي»، وإليها يُنسب وفيها توفي.

ترك العشرات من المؤلفات في اللغة، والعقيدة، والفقه، والتفسير، والحديث، والأخلاق والرقائق والزهد، تنوعت ما بين كتاب ورسالة، وقد انتشرت المؤلفات التي كتبها بالعربية والتركية العثمانية، وظهرت في كثير من دول العالم العثماني في ذلك الوقت، إلا أن شهرته بلغت حدًا كبيرًا بعدما وضع كتابه «الطريقة المحمدية والسيرة الأحمدية» في الزهد والرقائق.

وقد أقبل العلماء على شرحه بشروح كثيرة في أراضي الدولة العثمانية؛ فترك تأثيرًا واسعًا في زمانه والعهود التالية عليه. يذكر عنه «كاتب چلبي» في كتابه «ميزان الحق» بأنه أصبح ذا مكانة كبيرة بين الناس، فكان يعظ في بعض الأحيان، ويُعلِّم في بعض الأحيان، وكان متعصبا دائمًا لإحياء سنة النبي.

مثَّل «البرگوي» مدرسة دينية مختلفة عن المدرسة العثمانية، وكان الخط الرئيسي لفهم الدين عنده يمكن إيجازه في إزالة البدع التي ظهرت لأسباب متعددة بين المسلمين، والذي جعلته يتصدى لتنقية الدين منها.

كان «البركَوي» يؤمن مثل شيخ الإسلام «ابن تيمية»؛ بأن هذه البدع هبطت بقدر المسلمين، وأبعدتهم عن الدين الحنيف، وأن الطرق الصوفية ذات الاتجاهات الهابطة كانت مصدرًا لظهور تلك البدع.

كما كان يتهم الدولة رسميًا بمسئوليتها في شيوع الطرق الصوفية. فقد ذهب ذات مرة إلى الوزير الأعظم -ررئيس الوزراء- «صوقللو محمد پاشا» (أهم الشخصيات التي أدارت الدولة بعد وفاة سليمان القانوني) وطلب منه أن تتوقف الدولة عن دعم الطرق الصوفية التي تنشر البدع، لأن هذا يهدد أمن المجتمع المسلم.

سجل هذا العالم الكثير من المجادلات في موضوعات مختلفة أبرزها؛ نقاشاته مع شيخ الإسلام والعالم الكبير «أبي السعود أفندي» آنذاك حول مشروعية وقف من أنواع الأوقاف ظهر في العهد العثماني، عُرف باسم «وقف النقود».

اعتمد «البرگوي» على آراء شيخ الإسلام «ابن تيمية» في أعماله. كما اعتمد على أعمال وآراء «ابن القيم» مثل كتابه «إغاثة اللهفان» في مسألة زيارة القبور وبدعيتها واستحبابها ضمن رسائله التي جمعت تحت عنوان «رسائل البرگوي» (محققة ومطبوعة وصدرت عن دار الكتب العلمية في 2011).


حركة قاضي زاده والبداية من إسطنبول

هي حركة إحيائية ظهرت على يد «قاضي زاده محمد أفندي» (1582-1635) في القرن الـ17، وتبعه مجموعة من المؤيدين من وعاظ المساجد. كان الهدف منها محاربة البدع التي تم استحداثها في الدين خاصة من الصوفية مثل؛ الحج إلى قبور الأولياء، ومحاربة انتشار شرب القهوة والدخان (كانت أمورًا حديثة نسبيًا)، والرقص الصوفي، وحلقات الذكر، والغناء، والموسيقى، مع دعوة الناس للعودة إلى نقاء الدين مرة أخرى كما جاء به النبي ﷺ

ولد «قاضي زاده» ودرس في «بالق اسِير» على يد شيخ من أتباع «البرگوي»، ثم انتقل بعدها إلى إسطنبول وتابع دراسته في مدارسها. وبعد استكمال تعليمه؛ بدأ حياته كواعظ في مساجد إسطنبول، ثم تحول إلى صوفي من أتباع الطريقة «الخلوتية»، وما لبث أن ترك التصوف وعاد مرة أخرى إلى للتدريس والوعظ.

اشتهر «قاضي زاده» بقدرته المميزة على الخطابة بجانب عمله كمدرس. فعُين في منصب خطيب الجمعة في «مسجد السلطان سليم الأول»، وهو من المساجد السلطانية ذات المقام الرفيع والوضع الاجتماعي المرتفع لمن يخطب فيه. ثم عُين بعد ذلك في عدد من المساجد السلطانية الهامة مثل «جامع السلطان بايزيد الثاني»، «جامع السُليمانية»، و«آيا صوفيا»؛ فاستطاع جذب أعداد كبيرة من الواعظين لمنهجه بالإضافة إلى عامة الشعب.

استطاعت شبكة وعاظ الحركة، الوصول إلى عدد كبير من الناس عبر خطب الجمعة أو عبر النقاشات العامة التي كانت تتم بداخل الجوامع بصفتهم وعاظًا في جوامع سلطانية كبيرة؛ داعين الناس إلى ضرورة تطبيق مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لمحاربة البدع.

واجه «قاضي زاده» وتياره الصوفية، واعتبروهم خصومهم خاصة «الخلوتية» منهم، فتحدثوا في خطبهم عن عقائدهم البدعية، ودعوا أتباعهم لمواجهتهم، وظهرت نقاشات ومناظرات بين الطرفين، سواء كانت بكتابة الرسائل والكتب الدينية، أو بالتهديد المباشر من «قاضي زاده» لهم بالعقاب إن لم يتوقفوا عن ممارسة شعائر الرقص، والذكر، والغناء بداخل المساجد.


الوصول إلى القصر السلطاني

ظهر التيار بشكل واضح في عهد السلطان «مراد الرابع» (حكم من 1623 حتى 1640)، واستطاع «قاضي زاده» بقوة أتباعه وانتشارهم الوصول إلى السلطان والتأثير فيه؛ لإكساب دعوته قوة سياسية يستطيع من خلالها نشر آرائه الدينية في المجتمع.

فبالإضافة إلى دعوته عبر سنوات إلى إغلاق تكايا الصوفية، فقد دعا السلطان «مراد» نفسه إلى إغلاق المقاهي والخمارات، بالإضافة إلى حظر الدخان والرشوة وغيرها. وبناءً عليه؛ أمر السلطان بإغلاق المقاهي والخمارات وتدمير بعضها، كما تم حظر شرب الخمر والدخان، مع تنفيذ عقوبة «الإعدام» ضد كل من يخالف الأوامر.

واقعة الإعدام هذه سجلها العالم الكبير «كاتب چلبي» في كتابه «ميزان الحق في اختيار الأحق»، وعلى الرغم من قسوة العقوبة بحق كل من يُقبض عليه وهو يدخن -بالإضافة إلى صرامة الحظر- فإن ذلك يدل على قوة تأثيرية كبيرة لآراء «قاضي زاده»، جعلت السلطان يقبل باقتراحاته وينفذها.

على الرغم من أن السلطان «مراد» استجاب لـ«قاضي زاده» بإغلاق الخمارات، إلا أنه لم يعترض على تكايا الطرق الصوفية، بل عين شيخًا يدعى «زكريا زاده يحيى أفندي» كشيخ للإسلام، وهو المعروف بتأييده للتصوف والصوفية.

كما لم يعترض على الممارسات الصوفية التي يعترض عليها «قاضي زاده». فعمل على كسب دعم التيارين للحصول على التأييد السياسي لهما، مما يعد دليلًا قويًا آخر على الحساب الذي كان يحسبه السلطان لتيار «قاضي زاده» وأتباعه.

وفي عام 1635 توفي «قاضي زاده»، ففقدت الحركة الشخصية القائدة والكاريزمية، والمؤسس والمعلم. فخفت نجمها لمدة زادت عن عقد من الزمن، إلى أن ظهر شخص آخر -مثل القائد الجديد للحركة- وهو «اُستُواني محمد أفندي» (ت 1661) الواعظ الدمشقي مولدًا ودرسًا. وبسبب براعة خطابته وتمكنه من التدريس، عُين كرئيس للحركة خلفًا لـ«قاضي زاده».

استطاعت الحركة بقيادة اُستُواني تجديد نفسها لمحاربة الصوفية والبدع، وطلبوا من الدولة الدعم السياسي لاجتثاث البدع من جذورها. نجحوا هذه المرة أكثر من المرة الماضية في كسب السلطة السياسية إلى صفهم. فضموا رجالًا من سلطة القصر لحماية الحركة، وقاموا بتحريض أتباعهم لممارسة العنف ضد الصوفية وكل من يزور تكاياهم، وتهديد كل من يمارس البدع ويرفض الرجوع للإسلام الصحيح باعتباره كافرًا.

وكنتيجة لهذا الارتباط القوي بين أفراد من الطبقة الحاكمة بالحركة، تم في عام 1651 استصدار فرمان (بيان) من الصدر اﻷعظم «مَلَك أحمد پاشا» بالسماح بتدمير تكية لـ«الخلوتية». صدر الفرمان (البيان) بالفعل، فتساوت التكية بالأرض، مع مهاجمة أفراد الحركة لمن كان بداخلها.

ومع توسع الحركة بمرور الوقت وشعورها بقوة نفوذها، لجأت قياداتها إلى مخاطبة الدولة في عام 1656 بنفاذ صبر للقيام بالإصلاحات الدينية، والقضاء على البدع نهائيًا، وإغلاق التكايا الصوفية وتدميرها. ثم قاموا بمهاجمة الصدر الأعظم والإدارة العثمانية لتهاونهم، ودعوا أتباعهم عبر المنابر لحمل السلاح ومهاجمة الصوفية.

ونتيجة لهذه القلاقل؛ اجتمع الصدر اﻷعظم حينها «كوپرولو محمد پاشا» ومجموعة من العلماء، وقرروا القبض على «اُستُواني» ومجموعة من أتباعه ونفيهم إلى «جزيرة قبرص»، مما أثر بالحركة تأثيرًا واضحا، مع خفوت لنجمها، وهدأت نبرة «القاضيزادلية» خوفًا من ثورة الدولة عليهم، واستمروا في أداء رسالتهم عبر المنابر بمهاجمة البدع الصوفية، ولكن بحدة أقل.


الوصول بالحركة لقمة مجدها!

وبموت «كوپرولو محمد پاشا» عام 1661، تم استدعاء الوزير الأعظم الجديد «فاضل أحمد پاشا» من ولاية «أرضروم» بدلًا عنه. ومع توليه المنصب؛ فُتح الطريق أمام الحركة مرة أخرى، فقد كان يرتبط بشخص يُدعى «واني محمد أفندي» (ت 1684)، يعمل كواعظ ومدرس في أحد مساجد الولاية التي كان يديرها، وهو مسجد «لالا مصطفى پاشا».

كان الوزير معجبًا بـ«واني» على المستوى الشخصي والديني فترة حكمه لـ«أرضروم»، فلما عُين كصدر أعظم دعاه إلى إسطنبول للتدريس فيها، فلبى «واني» الدعوة، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل حركة «قاضي زاده» وصلت فيها إلى قمة قوتها.

وبمرور الوقت قويت علاقة الصداقة بين الوزير الأعظم و«واني محمد» فكان يستشيره في الأمور الدينية وشئون الدولة. ثم تطور الأمر إلى دعوة الوزير لـ«واني» للتعرف إلى السلطان «محمد الرابع» ووالدته، اللذين أعجبا به، وطلبا منه أن يكون شيخهم الخاص، مما أعطى له نفوذًا ضخمًا بالوصول إلى رأس الدولة، وصانعي القرار فيها.

عُين «واني» كخطيب للجمعة في جامع لوالدة السلطان الجديد «الجامع الجديد» بمنطقة «إيمينونو» بإسطنبول حاليًا. وقد دعا عبر المنابر إلى ضرورة ترك البدع والعودة بالإسلام إلى نقائه الأول، وبسبب خطابته القوية وشخصيته الكاريزمية، طلب منه أتباع حركة «قاضي زاده» أن يصبح قائدًا جديدًا للحركة.

بقيادة «واني محمد» استعادت الحركة وضعها السابق، وصرحوا بأن ممارسات الصوفية تدعو إلى الكفر والشرك. وبموافقة «الصدر الأعظم»، قام «واني» بتدمير تكية للبكتاشية بالقرب من مدينة «إدرنة» مرتبطة بالانكشارية، مع تشتيت من فيها وتشريدهم. استطاع «واني» كذلك في عام 1665 حظر بيع الخمر في إسطنبول، وإغلاق الخمارات والمقاهي.

امتد الحظر عام 1670 ليشمل اعتبار شرب الخمر جريمة تعاقب عليها الدولة. كما نجح بإقناع القصر بحظر الممارسات الصوفية الشائعة من رقص، ودوران وموسيقى، وطُبق المنع على تكايا إسطنبول، فأضاف إلى الحركة إنجازًا جديدًا لها على مستوى الدعوة إلى محاسن الأخلاق وترك البدع والمنكرات.

شارك «واني محمد» مع الجيش العثماني في الصفوف الأمامية في الحروب ضد الجيوش البولندية والروسية؛ كمحفز للجنود لقتال الكفار وتوسيع رقعة دار الإسلام. وأيد «واني» قيام السلطان «محمد الرابع» بشن حملة على إمبراطورية الهابسبورغ، وكان من المتحمسين لفتح هذه الامبراطورية المسيحية الكبيرة، وانضم إلى الحملة التي هاجمت أسوار «ڤيينا» عام 1683.

لكن الحملة مُنيت بالفشل الذريع، مما أدى إلى إصدار الأمر بإعدام كل من فشل في الحملة من القادة ونفي غيرهم. كان لـ«واني» نصيب النفي كأحد مؤيدي هذه الحرب، مع معاقبة كثير من أتباع التيار لتأييدهم هذه الحرب، مما قضى على الحركة بشكل نهائي.


هل وجد أثر للحركة بخارج عاصمة الدولة؟

لا يوجد بين أيدينا دراسات تفيد وتجيب عن هذا السؤال بشكلٍ شامل، إلا أنه وجدت شواهد في مصادر تاريخية متنوعة تدل على وصول تأثير الحركة لأراضي العالم العثماني سواء في الأناضول، أو البلقان أو العالم العربي.

وبداية مع «العالم العربي» فأذكر بأن هناك من المصادر التاريخية كتاب «حوادث دمشق اليومية» للشيخ «أحمد البديري» الحلاق في القرن الـ18 (يومياته ما بين عامي 1741 و 1762)، بالإضافة إلى سجلات المحاكم الشرعية، وهذان المصدران يفيدان بوجود مناظرات ومناقشات بين شيوخ وعلماء حول مسألة البدع والشرور، والمنكرات الموجودة في المجتمع مثل شرب القهوة، والتدخين، والخمر وضرورة محاربتها، وهو نفس خط حركة «قاضي زاده».

لدينا كذلك شاهد تاريخي آخر من مصر، يرويه لنا المؤرخ الشهير «عبد الرحمن الجبرتي» في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» في ذكر حوادث 1123هـ/ 1711م فيقول؛ وفي شهر رمضان قبل ذلك جلس رجل رومي واعظ يعظ الناس بجامع المؤيد، فكثر عليه الجمع وازدحم المسجد، وأكثرهم أتراك ثم انتقل من الوعظ. وذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم، وفِعل ذلك كفر يجب على الناس تركه. وعلى ولاة الأمور السعي في إبطال ذلك.

وذكر أيضًا قول «الشعراني» في طبقاته؛ إن بعض الأولياء اطلع على اللوح المحفوظ، أنه لا يجوز ذلك، ولا تطلع الأنبياء فضلا عن الأولياء على اللوح المحفوظ، وأنه لا يجوز بناء القباب على ضرائح الأولياء والتكايا، ويجب هدم ذلك.

وقد جذب هذا الواعظ أعداد كبيرة من الناس إليه، وكان يشرح لهم من كتاب «وصية نامة» للإمام «البرگوي». أما في «البلقان» فالأمر أوضح، فقد ظهرت كتابات لشخص يدعى «حاجي أحمد» بمدينة «يانينا» شمال غربي اليونان بين العامين 1646 و 1647 عُثر عليها في مخطوطة بعنوان «الرسالة العجيبة» (محفوظ نسخة منه في متحف «طوب قابي» حاليًا). وفيها يقوم هذا الشخص بالهجوم على أصحاب البدع، وضرورة محاربتهم، وهو كذلك نفس خط حركة «قاضي زاده».

نرى كذلك في «سراييڤو» (عاصمة البوسنة والهرسك حاليًا) في القرن الـ18 كتابات لمؤرخ، وخطاط، وكاتب لليوميات يدعى «المُلا مصطفى باشيسكي» بين العامين 1766 و 1805 باسم «المجموعة». هي عبارة عن تسجيل لليوميات تؤرخ لما حدث من أحداث في المدينة في هذه الفترة، والتي نستطيع أن نؤكد من خلالها وصول تأثير تيار «قاضي زاده» إلى المدينة.

فقد ذكر «المُلا مصطفى» بأن الأمر بدأ بوصول مدرس وواعظ من مدينة «أماسيا» بالأناضول. عين كمدرس في مدرسة من مدارس المدينة، وكان عبر خطبه بالمدينة يوجه النقد للصوفية، والقضاة، والمشايخ، والپاشاوات. وقد ذكر «الملا مصطفى» أتباع هذا التيار باسم «المتعصبين» أو «القاضيزادلية» وكيف كانوا يصطدمون بالصوفية في معارك انتقلت من المناظرة الدينية إلى حد الاشتباك بالأيدي في الطرقات.

وأن التيار حاول تغيير الشكل الديني للمدينة كما حاول في إسطنبول. وحاليًا تحوي مكتبة بلغاريا الوطنية بمدينة «صوفيا» على مجموعة من المخطوطات تشمل نسخ محلية من كتاب «البرگوي» بعنوان «الطريقة المحمدية» مع تعليقات عليها، مما يدل على انتشار لآراء «البرگوي» في المدينة، خاصة وأن كثير من علماء ومشائخ البلقان قد تناولها بالشرح والتعليقات.

أما أراضي «الأناضول» فلدينا أكثر من شاهد على انتشار واستمرار آراء تيار «قاضي زاده» حتى بعد انتهاء الحركة رسميًا بعد «واني محمد أفندي» في عاصمة الدولة. فقد سجل الرحالة العثماني الشهير «أوليا چلبي» في كتابه «سياحتنامه» في الجزئية الخاصة بزيارته بلدة «بدليس» في القرن الـ17 شرقي الأناضول.

سجل مشاهدته لشخص يأمر بتطبيق مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لمواجهة البدع بالمدينة. لدينا حادثة أخرى ولكنها ذات صبغة دموية، سجلها شخص يُدعى «عبد اللطيف» بمدينة «بورصة» في عام 1692 أي بعد وفاة «واني محمد» بـ8 سنوات تقريبًا.

وتتلخص في مهاجمة مجموعة من الأشخاص لجماعة من الصوفية يصلون بجامع بورصة الكبير في «ليلة القدر» برمضان؛ معترضين على صلاة خصها الصوفية ليلية القدر بعدد 12 ركعة إضافية على صلاة التروايح. فأخبروهم أن هذه بدعة وليست من الدين في شيء. ومع إصرار الصوفية على الصلاة؛ قاموا بمهاجمتهم بالأسلحة مما أسفر عنه موت الإمام الذي يؤمهم في الصلاة بالإضافة إلى شخص آخر حاول الدفاع عنه.

لدينا شاهد تاريخي أخير ضمن المقال؛ وهي رسالة بالتركية العثمانية عُثر عليها، وكُتبت باسطنبول بواسطة شخص غير معروف الاسم، بعد قرن تقريبًا من وفاة «قاضي زاده» (1735 تقريبًا). كانت الرسالة تتحدث عن بدع الصوفية وممارستهم بعنوان «الرسالة تحفة أهل السنة».

وفيها يذكر صاحبها أن سبب تأليفه لها بالتركية هو أن المؤلفات بالعربية والفارسية موجودة فيما يخص الموضوع، وأنه ألفها بالتركية لتعليم الناس الإسلام والمذهب الحق، مذهب «أهل السنة والجماعة» الذي يجب أن يتبع من قبل «الفرقة الناجية» التي ذكرها النبي في حديثه عن الـ73 فرقة التي ينقسم عليها الأمة.


التيار السلفي الإحيائي

أعدم بالفعل مئات الأشخاص الذين خالفوا الأمر، منهم مثلا 15 أو 20 شخصًا عسكريًا في الجيش قبض عليهم يدخنون أثناء حملة السلطان على مدينة «بغداد» لاستعادتها من الصفويين.

على الرغم من تمسك تيار «قاضي زاده» بنهج «البرگوي» ومدرسته الدينية، كنهج سلفي يتبع الدليل من القرآن والسنة، إلا أنها عمليًا اختلفت في دعوتها عن نهج «البرگوي» في فهم الدين وعن علماء الدولة في تفسير سبب انحدار الدولة، ودراسة الظاهرة في حد ذاتها لا بد أن يتم بفحص دقيق لنتاجها الديني من مخطوطات وكتب، ووضعها في الإطار كحركة مؤثرة تأثيرًا مباشرًا في العالم العثماني.

يمكن في نقاط بسيطة تحديد نقاط الاختلاف بين التيار كتيار يسعى لعودة قوة الدولة مرة بالعودة إلى نقاء الدين، وغيره من العلماء والمفكرين في النقاط الآتية:

1- نحا التيار منحى أكثر تشددًا من منحى «البرگوي» في التعامل مع قضية التصوف، فرفضوه بأكمله بينما كان «البرگوي» ينتقد فيه فقط بعض الجوانب المنحرفة، وأصبحوا يكنون العداء المفرط للطرق الصوفية. بلغ الأمر في بعض الأحيان إلى معارضة تحصيل العلوم العقلية والفلسفية، لأنها تعرض إيمان الإنسان للخطر.

2- واجهت الدولة العثمانية مع بداية القرن الـ17 مشاكل كثيرة، تنوعت ما بين مشاكل اقتصادية، وسياسية، وحروب، وفساد. وقد أرجع التيار المشاكل التي تواجهها الدولة إلى ظهور البدع الكثيرة والابتعاد عن سنة النبي.

وبالعودة إلى الممارسات السنية في الحياة المجتمعية، ستعود الدولة لسابق عهدها، وهو أمر اختلفت فيه مع علماء ومفكرين عاصروهم مثل «كاتب چلبي»، و«كوچي بك»، وغيرهم ممن كان يرى أن إنقاذ الإمبراطورية يكمن في العودة إلى تطبيق القانون بشكل صارم.

3- دراسة آراء الحركة لابد أن يتم من خلال كتابات أعلامها وتابعيها في الأساس لمعرفة نقاط الاختلاف والتلاقي بين التيار كحركة إحيائية، وما سبقه وما لحقه من تيارات إحيائية أخرى عبر التاريخ الإسلامي. على سبيل المثال منها رسالة «قاضي زاده» المعنونة «تاج الرسائل ومنهاج الوسائل».

وهي عبارة عن ترجمة من العربية لكتاب شيخ الإسلام «ابن تيمية» بعنوان «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» مع إضافة بعض الأجزاء الأخرى، ورسالته الأخرى المعنونة «إرشاد العقول» التي تناقش قضايا الإيمان والصلاة.

المراجع
  1. الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، المجلد الثاني، مجموعة من المؤلفين، ترجمة صالح سعداوي، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2011.
  2. «رسائل البركوي»، محمد بن بير علي البركوي، اعتنى به أحمد هادي القصار، الطبعة الأولى، لبنان، دار الكتب العلمية، 2011.
  3. سلطان بن عُبيد بن عبد الله العرابي، «دامغة المبتدعين وكاشفة بطلان الملحدين، دراسة وتحقيق»، (رسالة ماجستير)، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية
  4. عنابسة، غالب: «الخلاف بين الطريقة الصوفية الخلوتية وحركة قاضي زاده حول زيارة المقامات المقدسة»، (مجلة كان التاريخية)، (16)، 2012م/ 59- 62.
  5. KADlzADELİLER XVII. yüzyılda Osmanlılar'da dini ve içtimal hareket başlatan viiizler zümresi ve bu harekete verilen ad, SEMİRAMİS ÇAVUŞOGLU.
  6. Yonker, Carl. "The KadizadelisThe Rise and Fall of an Islamic Revivalist Movement in the Ottoman Empire", Long Paper Submitted on 6 June 2011 Selected Topics in Ottoman History, Department of Middle Eastern and African History, Tel Aviv University.
  7. Filan, Kerima. "Religious Puritans in Sarajevo in the 18 th Century", begove biblioteke, Sarajevo, 2009, p. 163-186.
  8. Evstatiev, Simeon. "The Qāḍīzādeli Movement and the Spread of Islamic Revivalism in the Seventeenth- and Eighteenth-Century Ottoman Empire", Preliminary Notes CAS Working Paper Series No. 5/2013: Sofia 2013.
  9. Ca̧vuso̧ğlu, Semiramis."The Kâdîzâdeli movement : an attempt of seriất-minded reform in the Ottoman Empire", Ph. D, Princeton University, 1990.
  10. Özturk, Necati. “Islamic Orthodoxy among the Ottomans in the Seventeenth Century with Special Reference to the Qadizade Movement.” Ph.D. diss., University of Edinburgh, 1981.