ما إن وصلت المومياوات الفرعونية الملكية إلى مكانها الجديد في متحف الحضارة فور انتهاء الموكب الذهبي، حتى تفجر ذلك الخلاف الجديد/ القديم/ القديم جدًا، حول أصول الهوية المصرية، هل هي عربية محضة، أم إسلامية، أم قومية لا امتداد لها خارج حدودها؟

هذا الخلاف المستشري على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس بالجديد علينا ولن يكون أبدًا بالقديم، فمصر لم تستطع حسمه خلال 100 عامٍ كاملة، خضعت فيها كافة هذه النظريات إلى معارك كُبرى، ملأ بها رجال الصحافة والسياسيون عشرات الصفحات واستهلكوا الآلاف من الأقلام دفاعًا عن واحدة منها أو رفضًا لأخرى، وإلى الآن لم نصل إلى إجابة لسؤال قد يبدو بديهيًا في نظر الكثيرين: مَن نحن؟

مَن نحن؟

شهدت مصر قبل أغلبية دول العالم الإسلامي العديد من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال القرن التاسع عشر، والتي أسهمت في تأجيج مشاعر القومية في نفوس أهلها، ودفعت نخبتها قليلة الحجم والمُشكلة بدافع التأثر من دراستهم في أوروبا إلى دخول هذا المعترك الهوياتي لأول مرة؛ مَن نحن؟ وإلى أي كيان يجب أن تنتمي أمتنا؟

قبل ظهور الجماعة العرابية في الساحة المصرية، لم نعرف مفكرًا تحدّث بوضوح عن «الوطنية المصرية» إلا رفاعة طهطاوي، الذي تطرق في كتابه «مناهج الألباب» 1869م (وُضع في عهد الخديو إسماعيل) إلى ضرورة إحياء الانتماء الوطني في مصر، بغضِّ النظر عن اختلافات المصريين في الدين، وهو ما امتدَّ به إلى امتداح الفراعنة في أكثر من عملٍ له، واعتبرهم مثالاً لـ«حكام الممالك العظيمة».

أبرزت التغيرات الاجتماعية التي أشعلت هذه التساؤلات الهوياتية في النفوس المصرية، في قيام حركة عرابي ورفعه رايات العصيان في وجه الخديو المُعيّن من قِبَل الوالي العثماني والمؤيَّد من الصفوة الأرستقراطية ذات الهوى التركي، التي كانت تحكم مفاصل البلاد الاقتصادية والسياسية، وفي الوقت نفسه لاقت حركة عرابي تأييدًا من نخبة المثقفين المصريين، التفّوا حوله وكتبوا المنشورات لأجله ودعموه في انتفاضته العسكرية ضد السرايا ومن ورائه الخليفة، فبدت كمعركة بين تيارين بازغين في مصر؛ الأول، ينادي بالتبعية للخلافة العثمانية، والثانية، يتحدى استنبول علنًا ويطالب باستقلال وطني يُعيد مفاتيح البلاد لأصحابها.

أنهت هزيمة عرابي هذا الجدل إلى حينٍ من الزمن، بعدما أعادت الخديوِ بِكل مَن تعلّق بذيله من طبقة «المتأتركين» إلى الواجهة، وكفلت لهم السيطرة على الحياة في مصر فترة ليست بالقليلة، في ظل وقوع البلاد تحت هيمنة سياسية وعسكرية إنجليزية عام 1882م، والتي ذبحت هذه المشاعر القومية المحلية، لكن لاحقًا سيُشكل استمرار وجود الاحتلال على الأراضي المصرية ردحًا طويلاً من الزمن، وتحكمه المُهين في صنّاع القرار المصريين، سببين مباشرين لإعادة أسئلة الهوية المصرية للواجهة من جديد.

وهكذا يُمكننا اعتبار أن سقوط مشروع عرابي لم يعنِ دفن الروح القومية تحت التراب، ولكنّها أجّلت نصرًا كانوا سيحصلون عليه لا محالة مهما طال الزمن. فالدولة العثمانية ذاتها كانت تعيش أضعف حالاتها وتحوّلت إلى كيان كبير عجوز، شكّل الارتكان إليه مخاطرة سياسية غير محسوبة، على الرغم من مساعي استنبول المتكررة لترويج نفسها على أنها مركز الإسلام وأن سُلطانها/ خليفتها هو الرمز الذي يجب أن يلتفُّ حوله المسلمون من جميع أنحاء العالم، وهي الدعاية التي لاقت صدى كبيرًا في نفوس المصريين، لكنها لم تحمِ الدولة العلية من انهيار آتٍ لا محالة.

هذا الولاء العثماني بلغ من التعمّق في الوجدان المصري حينها، أن المثقفين العرابيين أنفسهم لم يرفضوا إعلان الولاء للخليفة التركي بِاعتباره «سُلطان الملة الإسلامية»، فقط ركزوا انتقاداتهم على شيوع تولّي الشراكسة والأتراك المناصب التنفيذية العُليا في البلاد دون المصريين، بالرغم من طعن السُلطان عبدالحميد الثاني حركتهم في مقتل، وإصداره فرمانه الشهير الذي اتّهم في عرابي ورفاقه بأنهم «عصاة».

تصرف الدولة العلية السلطانية بالنظر إلى عرابى باشا ورفقائه وأعوانه يكون بصفة أنهم عصاة، ويتعين على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم أن يطيعوا أوامر الخديو المعظم، الذي هو في مصر وكيل الخليفة، وكل من خالف هذه الأوامر يُعرِّض نفسه لمسئولية عظيمة‘ وإن معاملة عرابي باشا و حركاته وأطواره مع حضرات السادات الأشراف هي مخالفة للشريعة الإسلامية الغراء مضادة لها بالكلية
نص منشور السُلطان عبدالحميد ضد عرابي وجنوده

ما بعد الاحتلال وما قبل الحرب العالمية الأولى

ذكرنا أن مجرد وجود الاحتلال على أرض مصر أشعل أسئلة الهوية مُجددًا؛ بعضها طالب بتخليصها من كافة أشكال الاستعمار والتبعية لتحكم نفسها بنفسها، وآخرون عادوا إلى الحنين للحُكم التركي، واستخدموا تأييدهم الدبلوماسي للدولة العثمانية كأحد أدوات مقاومة الوجود البريطاني في وادي النيل، ومن هذا الفريق خرجت العديد من قصائد الشعر لأبرز مبدعي مصر حينها تُمجد الإمبراطورية العثمانية وتدعو المصريين للالتفاف حول الخليفة السُلطان عبد الحميد الثاني.

وعلى هامش اندلاع الحرب العالمية الأولية، عرفت مصر الأحزاب السياسية النشطة، والتي كانت أداة مهمة لتلبور هذه الأفكار التي تتصارع في التربة المصرية من عشرات السنين، أنشأ الزعيم الوطني مصطفى كامل «الحزب الوطني»، فيما أسّس المُفكر أحمد لطفي السيد حزب «الأمة المصرية» والذي رفع شعارًا لافتًا للانتباه وهو «مصر للمصريين».

وعلى عكس ما قد يُتوقع من سيرة مناضل كمصطفى كامل أمضى جُل حياته في الدعوة لاستقلال مصر، إلا أنه كان من أشد أنصار تبعية مصر لتركيا، وتضمن حزبه بندًا واضحًا يقول إنه يهدف إلى «النضال من أجل تقوية أواصر المودة، والروابط والصلات بين مصر والدولة العلية (العثمانية)».

اعتبر مصطفى كامل، أن الخلافة العثمانية صمام أمان رئيسي في المنطقة سيضيع المسلمون حال انهيارها أو عدم الالتفاف حولها، ومن حزبه ترددت شعارات دارت في الفُلك التركي مثل «الخلافة المقدسة» و«طاعة السُلطان»، واعتبار أن طاعة المصريين له فرض ديني، حتى أنه أيّد موقف تركيا خلال صراعها الحدودي مع الحكومة المصرية بدعمٍ إنجليزي على مدينة طابا (وثائق هذا الصراع أفادت مصر كثيرًا خلال نزاعها على طابا مجددًا مع إسرائيل)، واعتبر كامل أن هذا الخلاف لا وجه له من الأساس لأن الإمبراطورية العثمانية تمتلك السيادة الشرعية على مصر كلها.

ومن بعد مصطفى كامل سار على النهج ذاته خليفته محمد فريد، لذا لم يكن غريبًا أن تكون القسطنطينية وِجهته الأولى، عندما طردته سُلطات الاحتلال من مصر عام 1911م بسبب أنشطته المعارضة لها.

نحن لا نحبُّ آل عثمانٍ كبشر؛ والأطفال الرُضَّع يعرفون أعمالهم، وكيف داسوا المصريين كما يدوسون على القش، لكنهم كمسلمين إخوة لنا، والخليفة يصون الأماكن المقدسة، وبالرغم من أن الخليفة قد يكون سيئ الطالع مثل بايزيد، أو فظًّا مثل مراد، أو مجنونًا مثل إبراهيم، إلا أنه ظِل الله، على كل مسلمٍ أن يهبَّ لتلبية ندائه مثل الخادم المطيع أمام سيده.
رسالة من مصري مجهول تلقاها اللورد كرومر، المعتمد البريطاني في مصر خلال «صراع طابا»

على النقيض تمامًا، فإن أحمد لطفي السيد، زعيم حزب الأمة، قد اتخذ موقفًا حازمًا ينتصر فيه للهوية المصرية فقط دون تبعية لأحد سواء في تركيا أو في إنجلترا.

والأشد من ذلك، فإن لطفي السيد اعتبر أن العالم الإسلامي لا يُمكن أن تربطه وحدة سياسية، وأنها «فكرة استعمارية» لا تؤدي إلا إلى هيمنة القومية العثمانية/التركية على حساب بقية قوميات العالم، ودعا المصريين إلى التبرؤ منها، لأنها ستؤدي إلى زرع الانقسام بين المسلمين والأقباط في مصر، وستثير ردود أفعالٍ عدائية ضد مصر من أوروبا المسيحية، التي يحتل بعض جنودها أرضنا!

امتدح لطفي السيد الماضي الفرعوني لمصر، كما دعا إلى تمصير كثير من ِمظاهر الحياة، أهمها دعوته إلى تعليم لغة مزيج بين الفصحى والعامية لطلاب المدارس، كما ترجم هذه المفاهيم الفكرية إلى عددٍ من المواقف الساسية، مثل تأييد موقف مصر في «نزاع طابا»، وخلال الحرب الإيطالية- العثمانية في ليبيا عام 1911م دعا مصر إلى التزام «الحياد المطلق» تجاه هذا القتال.

وهي الدعوة التي لم تلقَ استجابة كبيرة في مصر، فلقد تشكلت في القاهرة لجان تسعى لتقديم الدعم المالي والطبي للمجهود الحربي العثماني في ليبيا، وشهدت الإسكندرية مظاهرات معادية للإيطاليين، وكثرت دعوات مقاطعة الإيطاليين في مصر اقتصاديًا واجتماعيًا، ما أكد أن أغلب الأمة المصرية لا تزال تحمل الهوى العثماني في أعماقها وتتمنّى انتصاره في حربه على الغرب/الكافر/المسيحي.

في هذه الآونة، كان الحديث عن انتماء مصر العربي بالغ الخفوت، فانعدمت الإشارة إلى أي دعوة لإحياء «الأمة العربية» بين صفوف النخب المصرية بجميع أشكالها، بل بالعكس ظهرت بعض الأمثال الشعبية والآراء الفكرية التي نظرت للعرب بازدراء ووضعتهم في مصاف المجتمعات الهمجية التي لم تعرف للحضارة عنوانًا من قبل.

أتت هذه النظرة، بالرغم من أن تلك الفترة شهدت تدفق الجاليات العربية إلى مصر، والتي آنست في مصر حرية نسبية تسمح بصحافة نشطة وأوضاعًا اقتصادية جيدة تسمح بتجارة رائجة، فتركز نشاط الشوام في هذين المجالين، وحققوا نجاحًا كبيرًا، وكثر تواجدهم في الدواوين الحكومية لدرجة حاولت معها الحكومة المصرية أن تقرَّ قانونًا لمنع السوريين من التوظيف في الوظائف الحكومية المصرية.

وكثرت في كتابات كبار المفكرين مثل عبد الله النديم ومحمد عبده ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد انتقادات «الوجود السوري» المُبالغ به في مصر، كما يرد في مذكرات اللورد كرومر أن الفلاحين المصريين كانوا يكرهون العرب البدو، وقالوا في حقهم المَثَل الشهير «ظُلم الترك ولا عدل البدو»، كما برّرت جريدة اللواء، الناطقة بلسان مصطفى كامل، تدشين مشروع إنشاء خط سكك حديدية في مصر بأنه سيحمي الحجاج من المتاعب التي يلقونها من جراء «وحشية بدو الجزيرة العربية»، وهو ما يفسّر أن أحداثًا عربية كبرى كثورة حسين شريف مكة على أنقرة أو دعوات مفكري دول الهلال للحكم الذاتي لم تلقَ اهتمامًا كبيرًا في مصر.

وسياسيًا، رفض حزبا مصر الرئيسيان، «الحزب الوطني» وحزب الأمة، تأييد المد العروبي القومي بمنتهى الوضوح. وعلى الرغم من الاختلاف التام بين الرجلين في كثيرٍ من المواقف، فإن مصطفى كامل اعتبر أن دعاوى القومية العربية مجرد مكيدة بريطانية لتفكيك الإمبراطورية العثمانية، كما رفض سلفه محمد فريد دعم اقتراحات العسكري المصري البارز عزيز علي المصري، الذي بذل جهودًا كبيرة لدعم التطلعات العربية القومية حتى أنه قاتل ضمن جيش الشريف حسين في ثورته على الأتراك، لذا لم يكن غريبًا أن يُنصَّب عزيزًا أبًا روحيًا لضباط ثورة يوليو، الذين رفعوا لواء القومية العربية عاليًا، فيما كان لطفي السيد على عهده التام بدعوته المصريين للاكتفاء بما لديهم عن أي محيطٍ آخر.

والغريب أن الدعم الوحيد الذي وجدته فكرة الدولة العربية الواحدة في هذا الوقت أتى من شخصين أصولهما غير عربية، الأول هو الخديو عباس حلمي الثاني (1892- 1914) الذي طمع في أن يكون هو زعيمها الأوحد، على الرغم من أن عائلته العلوية ذات أصولٍ يونانية، والشخصية الثانية كانت عزيز المصري، وهو ضابط شهير وُلد في مصر، لكن أصوله شركسية، وقام بجهود كبيرة لدعم السياسات العربية الانفصالية في العديد من الأقطار العربية.

وهكذا ظلت الهويتان الأساسيتان؛ الفرعونية والإسلامية، تتصارعان في مصر، بينما انزوت الهوية العربية إلى ركنٍ بعيد، وهو الوضع الذي لم يغيره اندلاع الحرب العالمية الأولى فدعت المنابر للخليفة العثماني بالتوفيق في حربه ضد أعداء الإسلام، ومن ضمنهم الإنجليز، الذين رتعوا بدباباتهم على أرض مصر طوال الحرب، وعندما سارت الشائعات أن العثمانيين ينوون إرسال قوة تحتلُّ قناة السويس وتخلّص مصر من الاحتلال، وتُعيّن الخديو عباس قائدًا على هذه القوة، هتف العوام نداءهم الشهير «الله حي، عبّاس جاي»، وهو الأمر الذي عُوقب عليه خديوِ مصر بإزاحته من السُلطة بفرمان من القصر الملكي البريطاني.

يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديو مصر السابق على الانضمام لأعداء جلالة الملك رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديو.
قرار خلع الخديوِ عباس
 

ثورة 1919

حين هبّت عاصفة ثورة 1919م، مثلت التجلي الأبرز للقومية المصرية في أوضح صوره، فطوال أحداثها لم ترفع شعارًا عثمانيًا ولم تسعَ لمطالب وحدوية عربية، وكانت بوتقة انصهر فيها أبرز سياسيي مصر المسلمين والأقباط، ولم يأنف رجال الدين من الطائفتين من التعاون معًا لإنجاحها. بعدما اكتفى الجميع بالتركيز المُطلق على صراعها مع الاحتلال من أجل نيل الاستقلال، وفي هذا الصدد حققت الثورة نجاحًا لا يُستهان به عبر إجبار لندن على إصدار تصريح 28 فبراير الذي منح المملكة المصرية قسطًا كبيرًا من السُلطة يُعتبر مرضيًا في هذا الزمن، حتى في ظِل نفوذ بريطاني سياسي وعسكري مستشرٍ في النظام الحاكم.

وبالتأكيد فإن ذلك يرجع إلى أن أغلب قادة الثورة، وعلى رأسهم سعد زغلول، كانوا أعضاء سابقين في حزب الأمة صاحب المفاهيم القومية/ المصرية/ الانعزالية القحّة، بل وضمت هذه المجموعة أحمد لطفي السيد كبير مُنظِّري القومية في هذا العهد، وفي بيانٍ قدّمه الوفد إلى مؤتمر السلام، الذي عُقد في باريس لإعادة صياغة عالم ما بعد الحرب، أكد البيان أن المصريين «سلالة واحدة ومتفردة».

أتت هذه الجهود في أجواء الهزيمة المُذلة التي مُني بها العثمانيون عقب انتهاء الحرب العالمية سنة 1918م، وبدّدت الأمل في نفوس أنصار «الدولة العلية» بأنها يُمكن الاعتماد عليها كمرجعية عالمية تستند إليها الشعوب المغلوبة في كافة الأصقاع، وهو ما أصبح مستحيلاً بعد ما بات الخليفة العثماني عاجزًا عن حماية أركان دولته، ذاتها، ضد مطامع الأوروبيين، وفي نوفمبر 1922م أعلن مصطفى كمال أتاتورك إنهاء نظام الخلافة، فكفّت أصوات أنصار الارتباط العثماني/ المصري عن الصياح مُجددًا.

لم يعد يعلو في مصر إلا صوت «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وعندما خرج إلى النور دستور 1923، أكدت مادته الأولى أن «مصر دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة»، دون إشارة للمرجعية التي تنتهجها الدولة إسلامية كانت أو عربية، وعارض سعد زغلول فكرة إقامة دولة عربية موحدة بمقولته الشهيرة «ليس بأكثر من اتحاد الضَعف مع الضعف، وأي الأموال تكون لك إذا أنتَ ضربتَ الصفر بأصفار».

وكادالحديث عن الهوية الإسلامية في مصر ينتهي، إلا بدافعٍ مُتجددً من مطامع سياسية، مثلما أراد الخديوِ عباس قديمًا، وهذه المرة كان في عهد الملك فؤاد الذي سعى لاستضافة مصر لمؤتمر إسلامي عام يُعيد الخلافة ويُنصِّب الملك فؤاد سُلطانًا على كافة المسلمين، وهي المساعي التي لم يتحمّس لها رئيس الوزراء القومي سعد زغلول، فلم يُشجعها حتى أُجهضت الفكرة نهائيًا.

ومن اللافت أن فترة النجومية الساطعة لسعد زغلول، تزامنت مع عودة الاهتمام بالهوية الفرعونية مجددًا، والتي تم استدعاؤها للتدليل على مدى تفرد الأمة المصرية، من أمثلة ذلك النزاع الذي خاضه سعد زغلول مع هوارد كارتر مكتشف مقبرة الملك توت عنخ آمون، حول أحقية مصر في إدارة كنوزها التراثية، واعتماد الصحافة على الأيقونات الفرعونية كالأهرام وأبي الهول كرموزٍ لها، وصدور أعمال شعبية تحمل أسماءً فرعونية كمسرحيتي «مجد رمسيس» عام 1923م، و«توت عنخ آمون» عام 1924م، وكلتاهما من تأليف محمود مراد وتلحين سيد درويش، وسُمح بعرضهما داخل المدارس.

كما دشّن النحّات المصري محمود مختار تمثال «نهضة مصر» (أبو الهول بجانب فلاحة مصرية) وسط احتفاء شعبي كبير قاده الملك وكبار الوزراء وحتى شيوخ الأزهر، وتقمّصت عملية تنجيم مختار نفسها، شكلاً فرعونيًا بتقديمه للمصريين على أنه أول نحات عرفته مصر الحديثة، وستُعقد عليه الآمال لإعادة مجد الأجداد.

وفي معرض تأييد الأديب توفيق الحكيم لسعد زغلول، شبّهه بالمعبود الفرعوني أوزوريس الذي سيُعيد الروح إلى مصر مُجددًا، وبالتأكيد فإن هذه القناعات المصرية/ الفرعونية/ القومية التي أخلص لها سعد زغلول، دفعت أنصاره لاختياره النقوش الفرعونية وحدها لتزين قبره، بعد ما اعتبرت الحكومة المصرية أن سعد زغلول رمز لـ«الروح الفرعونية التي تخفق على مصر».

ضريح سعد زغلول

خلال هذه الفترة اكتسحت الأفكار القومية المصرية البلاد، وكادت تُجمع على أن هوية مصر فرعونية بالأساس الأول، لا علاقة لها بالعرب ولا بالإسلام، وباستثناء أصوات خافتة كطلعت حرب مؤسس بنك مصر، والكاتبين محمد حسين هيكل ومحمود عزمي، يكاد الحديث ينقطع عن أي رغبة في انتماء مصر لمحيطها العربي، ولهذا اتخذت موقف الحياد في الصراع الذي جرى بين الأشراف الهاشميين والسعوديين على حُكم بلاد الحجاز، ودعت الصحافة المصرية حكومتها إلى الابتعاد عن هذا الصراع، وأن واجبها الأساسي هو تنظيف البلاد من ذيول الاحتلال الأجنبي، وهو نفس الموقف الذي التزمت به القاهرة فور إعلان الانتداب على سوريا والعراق، وعندما صدر قرار التقسيم لم تستطع مصر الإبقاء على عزلتها فبادرت إلى شنِّ حرب 1948م، والتي انتهت بهزيمة مُزلزلة.

في حال تعريب مصر، ماذا سيكون موقفها أمام «توت عنخ آمون» وغيره من ملوك الفراعنة، الذين حكموا مصر وبنوا مدنها وشيدوا معابدها؟ في وقتٍ كانت الإنسانية مجموعة من البرابرة.. ماذا يكون موقف مصر أمام كل هؤلاء إذا أصبحت عربية؟ هل ستفخر بهم، أم ستُصبح غريبة عنهم؟
مقالة للباحث ناشد سفين – مجلة «المصور» عام 1930م

أمة واحدة عربية

جمال عبد الناصر: انعزال مصر عن العرب، سيُتيح للاستعمار أن يُقسّم المنطقة قطعة قطعة

لم يُقدّر لهذا النهج أن يستمر طويلاً، بعد قيام ثورة 1952م، والتي تبنّت نهجًا عربيًا وحدويًّا، عادَى بضراوة كافة الآراء الوفدية/ القومية، وأفسحت المجال للأفكار الناصرية/الوحدوية، فتجدّد الحديث عن الهوية مرة ثانية، وعدنا مُجددًا للاختيارات الثلاث؛ قومية أو عربية أو إسلامية. انحاز عبد الناصر للثانية رغم إعلانه المتكرر سعيه لتبني الهويات الثلاثة وفقًا لنظرية الدوائر الثلاثة الشهيرة، وهو أمر مستحيل التنفيذ إلا في سياق المزايدات السياسية والخطابات العاطفية.

يقول عزمي بشارة في كتابه «أن تكون عربيًا في أيامنا»، لم يكن الضباط الذين قاموا بالثورة إسلاميين ولا كانوا علمانيين، بل رغبوا في إقامة دولة وطنية تُملي نوعًا من العلاقة مع أنماط التدين يعلو فيها شأن الدولة والوحدة الوطنية. لقد أدركوا أن الاتكاء على العمق القومي العربي سيمنحهم قوة وعمقًا إستراتيجيين.

وهكذا منحت الأجواء المعقدة للقضية الفلسطينية عبد الناصر ليُضفي على نفسه شرعية جديدة، تُرسّخ وجوده في الحُكم، وهي تبنّي الخطاب العربي التوسّعي كقوة مناوئة للخطاب الوحدوي الصهيوني. فأُهمل نسبيًا التركيز على القضايا المحلية كالثقافة الفرعونية والعودة من جديد للاستناد إلى رموز الخطاب الإسلامي والثقافة العربية كأداتين تمنحان صاحبهما قُدرة على بلوغ قلوب كافة الشعوب المجاورة من المحيط إلى الخليج.

وقُدِّر لأحاديث الهوية تلك أن تتكرّر مع كل حديث كبير تمرُّ به مصر، فمع النكسة تصاعدت المطالب بالعودة إلى الروح الإسلامية وهو الأمر الذي خيّم على عهد السادات بالرغم من تبنّيه خطابات قومية جزئية في نهاية حُكمه، وفي عهد مبارك كسَى الجمود كل شيء، ولم يحسم أمرًا كعادته، فبقيت كافة الخيارات مطروحة أمام الساحة التي أرهقتها الحالة الاقتصادية فكفّ معظم الناس عن الحديث بشأن الجذور في ظِل رغبتهم في تأمين لقمة الخبز، وانسحبت أحاديث الهوية إلى القاعات المغلقة مُجددًا، ولم تخرج إلى النور مرة أخرى إلا عقب اندلاع ثورة يناير.