مع كل حدث سياسي جديد يظهر في منطقة حوض البحر المتوسط يتجدد الكلام عن دخول العثمانيين إلى المنطقة العربية، حيث يظهر فريق مؤيد يدافع عن الحكم العثماني للأقطار العربية، وفريق آخر يصب اللعنات على هذا الحكم الغاشم الذي أدخل المنطقة العربية في ظلام الجهل والتخلف والرجعية وجعلها في النهاية فريسة سهلة للاحتلال الأوروبي في القرن التاسع عشر.

ولعل أكثر ما يتم الرجوع إليه عند التأريخ لأحداث الدخول العثماني لمصر والشام هو كتاب ابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور» الذي يعتبر أهم مصدر بالعربية تناول هذا الحدث، وخصوصاً عند التأريخ للأحداث التي تخص دخول الجيش العثماني لمصر واستقراره فيها والتي أسهب فيها ابن إياس بتفاصيل كثيرة جعلت شهادته هي الشهادة العربية الأولى والوحيدة التي تحتوي على هذا الكم من المعلومات.

إلا أن هذه الشهادة مع أهميتها الكبيرة كون صاحبها معاصرًا للحدث في المقام الأول أصبحت تُستخدم استخدامًا سياسيًا بعيدًا عن غرضها الأصلي من معرفة الوقائع والأحداث.

فقد استخدمها هواة الحديث عن التاريخ مرورًا بالصحفيين ووصولًا – مع الأسف – لأكاديميين وأساتذة جامعات، اعتقادًا بأن ذلك نوع من الوطنية، وأنهم يدافعون بذلك عن أرضهم ضد المشاريع التوسعية الأجنبية خصوصًا كلما علت حدة التوترات بين مصر وتركيا، فيتم استغلال التاريخ وإسقاطه على الواقع وكأن تركيا الحالية هي الدولة العثمانية في الماضي، وكأن مصر المملوكية هي مصر الحالية؛ لينتج لنا قراءة قومية للتاريخ لخدمة أهداف سياسية، مما يعني قراءة الأحداث التاريخية ومفاهيمها في سياق غير سياقها والنظر إليها من منظور مغاير لمنظور المؤرخ الذي سطَّرَها، فيظهر لنا تصورات وآراء غريبة لا علاقة لها بالحقيقة التاريخية.

والحقيقة أن شهادة ابن إياس مادة خصبة لكل من يريد أن ينعت الحكم العثماني لمصر بكل المساوئ والقبائح خصوصاً فترة ما بعد الفتح حتى عودة السلطان سليم لإسطنبول؛ فقد كال الرجل ما أمكنه من تهم وذم للحكم والدولة الجديدة التي انضمت مصر تحت مظلتها، ولم يتوانَ أبدًا عن وصفهم بأدنى الأوصاف التي قد يوصف بها أي جيش أو نظام حكم.

ذلك لأن الرجل في المقام الأول ينتمي للمعسكر المملوكي، فهو واحد ممن يعرفون باسم «أولاد الناس» – أولاد عسكر المماليك – في ذلك العصر، وعصبيته للماليك ودولتهم. ومع ذلك، فإنه لم يفقد حس النقد لبعض سلاطينهم الظلمة كما لم يكن مؤيدًا لأفعالهم دائمًا.

ورغم ما كاله للجيش العثماني من تهم فإنه لم يصفهم بما يصفهم به البعض اليوم من أنهم أجانب احتلوا مصر والبلاد العربية ونهبوا خيراتها، بل قيّم الوضع من زاوية تَبدُل عاصمة الدولة الإسلامية من القاهرة إلى إسطنبول وتحول مصر إلى ولاية أو نيابة، كما تبدلت من قبل من المدينة المنورة إلى دمشق الأمويين ثم إلى بغداد العباسيين ثم إلى قاهرة المماليك، فهي عملية تبديل مراكز وسلطات في النهاية ولا علاقة لها بمفاهيم الاحتلال القديمة أو الحديثة.

وبما أن الحدث التاريخي يتضح بجمع كل ما وصلنا عنه من مصادر ووثائق، فيتوجب علينا قراءة حادثة الدخول العثماني لمصر (وللأقطار العربية عامة) قراءة شاملة باستخدام كل ما وصلنا من مصادر، وأن نعتمد على شهادات كل من عايشوا هذا الحدث أو عاصروه؛ وبذلك نتمكن من قبول رواية ورد أخرى.

ولكي تتجلى لنا صورة ما حدث وقت دخول العثمانيين لمصر من أكثر من زاوية، فقد اعتمدت على المصادر العثمانية المختلفة حول هذه الحادثة وما يتعلق بها لنتمكن في ضوئها وبشكل مقارن من نقد شهادة ابن إياس التي يعتمد عليها بشكل مطلق كل من يؤرخ لهذا الحدث، وكأن الرجل يسرد الحوادث بدقة وصدق دون شائبة من كذب أو اضطراب.

وعليه، فإنني في مجموعة المقالات هذه سأقوم بمناقشة أشهر الادعاءات التي توجه للعثمانيين بعد دخولهم مصر، ومقارنة ما ورد لدى ابن إياس عنها بالمصادر العثمانية؛ لنضع شهادة ابن إياس في موضعها الصحيح دون تضخيم زائد لأهميتها ودقتها، ولكي ألفت نظر كل من يتطلع لمعرفة الحقيقة التاريخية عن مدى موثوقية شهادة الرجل حول هذه الحادثة المهمة، فشهادته كغيرها من الشهادات بها الصحيح وبها الضعيف، وتظهر فيها ميول المؤرخ وأهواؤه كما يظهر فيها موضوعيته وحياده.

وقد اعتمدت في نقد شهادة ابن إياس أولًا على ما خطَّه بيده، ووضحت ما فيها من اضطراب وتضارب ومغالاة في تصوير الأحداث، ثم قابلت القضايا المشهورة منها على طائفة واسعة من المصادر العثمانية التي تؤرخ لحملة السلطان سليم على الشام ومصر من كتب تواريخ وتراجم مخطوطة ومطبوعة بالعربية والتركية العثمانية والفارسية إضافة إلى الوثائق الرسمية المحفوظة في اﻷرشيف العثماني.

وكانت القضايا التي تناولتها بالنقد وأفردت لكل واحدة منهم حديثًا على حدة كالتالي: نقل الحرفيين والصناع من القاهرة إلى إسطنبول، قتل الجيش العثماني عشرة آلاف مصري بعد دخول القاهرة، القاضي العثماني المعين في القاهرة بعد دخول العثمانيين للمدينة، وانتقال الخلافة إلى السلطان سليم.

وقد اعتمدت في انتقاء المصادر العثمانية على الشهادات التي عايش أصحابها الأحداث بأنفسهم من قلب المعارك، أو الذين عاصروها من رجال الدولة بالسماع ممن شاهد وعاين، فمنها شهادة قاضي زاده الأردبيلي المعنونة «غزوات السلطان سليم» التي أرخ فيها من بداية تحرك جيش الحملة من إدرنة حتى العودة إلى إسطنبول وهو ممن صحبوا الحملة ودوَّن شهادة على قدر كبير من الأهمية.

كما اعتمدت على شهادة إدريس البدليسي المسماة «سليم شاه نامه» وهي واحدة من أهم الشهادات على حملة السلطان سليم على الصفويين في إيران والمماليك في الشام ومصر، كذلك اعتمدت على شهادة حيدر جلبي التي هي عبارة عن تسجيل يوميات (روزنامة) لحملات السلطان سليم ومنها حملته على مصر.

ذلك، إضافة إلى شهادة عبد الصمد الدياربكري فيما يتعلق بانتقال الخلافة إلى السلطان سليم، وهو ممن صحبوا الحملة وعُين قاضيًا في دمياط، وعلى كلام المؤرخ الكبير مصطفى عالي في كتابه «كُنه الأخبار» فيما يخص من تم ترحيلهم من القاهرة إلى إسطنبول، وعلى مصادر كثيرة غيرها سأذكرها في ثنايا المقالات وهوامشها.

نقد الرواية

اعتمد ابن إياس في الجزء الخامس من كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» وهو الجزء الذي حوى أحداث الحروب التي دارت بين العثمانيين والمماليك ودخول العثمانيين من بعدها للقاهرة على مجموعة موارد لتسجيل شهادته وهي: التقارير الرسمية الصادرة عن الدولة المملوكية، والتقارير التي قدمها مشاركون في الصراع، والروايات الشفوية التي قدمها مشاركون في الصراع، والروايات الشفوية التي تناقلها أهالي القاهرة، فضلًا عن مشاهدة ابن إياس للأحداث[1].

وإننا إذا ما دققنا في كلام الرجل نجد أن قسمًا كبيرًا من الروايات التي نقلها لنا مما تخص حادثة سيطرة العثمانيين على الشام ومصر هو من نوع الكلام المتداول بين الناس، وهو أمر يذكره بنفسه في ذكر حوادث معركة مرج دابق،حيث ذكر أنه اعتمد في وصف المعركة على «ما استفاض بين الناس من أخبار»[2]، وهو منهج سار في رواياته التي تمتلئ بعبارات: «ويشاع بين الناس»، «وقيل»، «ويقال»، «ويشاع أنه حدث كذا»، «وهكذا يشاع»، و«أشاعوا من هذه أخبار العجائب والغرائب والمعول في ذلك على الصحة»، «وهذا ما أشيع والله أعلم بصحة ذلك» ونادرًا ما كان يقول: «ولم يكن لهذه الأخبار صحة، ولم تثبت هذه الأخبار»، «ولم يثبت ذلك»، «وإنما هي إشاعة لا صحة لها فيما نقل عنها»، «وقد أخبرني من أثق به»، «ولقد شاهدت هذا الموكب بالمعاينة».

فابن إياس يفيض علينا من الإشاعات المتناقلة دون أن يؤكد لنا دائمًا صحتها أو خطأها أو يذكر لنا الجهة التي وصلته منها، فيكون منها الصحيح الذي وقع ويؤكده غيره من المؤرخين ويظهر منها الضعيف الذي لا نعلم قطعًا إن كان قد حدث أم لا.

وبحسب ظني، فإن السبب الرئيس في اعتماد ابن إياس على الأقاويل هو عدم تقلده أي منصب رسمي في الدولة المملوكية، إذ لم يكن جنديًا في الجيش لينقل لنا مشاهداته من أرض المعركة، ولا رجلًا من رجال الدولة ولا القادة، ولا مصاحبًا لجيش الغوري أو طومان باي فينقل لنا ما كان يصله إلى المعسكر من أخبار، على عكس غيره من مؤرخي دولة المماليك الذين تقلدوا مناصب كبيرة في الدولة وتركوا لنا تواريخ من قلب الأحداث، مثل المؤرخ العسكري أبو الفداء، وابن فضل الله العمري الذي تولى ديوان الإنشاء، والقلقشندي الذي عمل في ديوان الإنشاء أيضًا، والمؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي الذي ولي ديوان الإنشاء والحسبة.

كما أظن أن ابن إياس كان قليل التطواف والتنقل ربما لكبر سنه، فالرجل كان شيخًا كبيرًا جاوز السبعين من عمره حين دخل العثمانيون مصر[3]، لذا فهو يعتمد في نقل الخبر على ما تأكد من وصوله لرجال الدولة من مكاتبات رسمية وما كان يصله من مكاتبات ومراسلات وهي قليلة، أو ما يتنقل على ألسنة الناس وهو يأخذ مساحة أكبر، ومن المؤكد أن الروايات الشفهية بين الناس في بيئة حرب هي أدعى للشك في صحتها عن بيئة حياة طبيعية.

بالمقابل، فإننا نستطيع الوقوف على عبارات تدل على مشاهدة ابن إياس لجزء من الأحداث التي دونها مثل وصفه لخروج موكب السلطان قنصوه الغوري يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر 922هـ إلى الشام بصحبة الجيش والخليفة والقضاة الأربعة[4]. فنجد عنده وصفًا دقيقًا لشكل الموكب وملابس الخليفة والسلطان وأسماء من كان حاضرًا هذا الموكب من كبار رجال الدولة والسادات الأشراف دون ذكره لكلمة «يشاع» أو «قيل» مما يجعلنا نميل إلى رؤيته المباشرة للحدث، إلا أننا لا نستطيع أن نحدد بدقة أغلب الأحداث التي شهدها أو نقلها عمن يثق فيهم، ولذا فإن الموثوق من كلامه يضيع وسط الإشاعات، وذلك على عكس معاصره ابن طولون في الشام، الذي ذكر لنا الحوادث بشكل أكثر دقة سواء المنقولة عن شخص آخر أو التي رآها بنفسه.

وقد نتج عن اعتماد ابن إياس على الأقوال التي سمعها من هنا وهناك تضارب واضح في شهادته، فهو يذكر الرواية وعكسها، والوصف وعكسه دون أن يميل ويؤيد رأيًا محددًا فيهما، رغم أنه يعيش في نفس المدينة التي يقع فيها الأحداث التي كان من أبرزها حادثة إعدام طومان باي، فلم يذهب ليرى بنفسه الإعدام بل اعتمد على من نقل له الواقعة، كما لم يذهب ليرى سليم بنفسه رغم أنه بقي في مصر ما يقرب من ثمانية أشهر، بل اعتمد على من رآه وأخبره بأوصافه وهو قصور كبير من إنسان معايش للأحداث.

نتج عن هذا النهج اضطرابات ومبالغات كبيرة في الشهادة، مثل إيراده وصفًا للسلطان سليم بعد انتصاره في مرج دابق على هيئة: «مربوع القامة (متوسط الطول)، واسع الصدر، أقنص العنق، مكرفس الأكتاف، في ظهره حَنيّة، مترك الوجه، واسع العينين، ذري اللون، وافر اﻷنف، مليء الجسد، حليق اللحية ليس غير الشوارب ….»[5]. وأورد له وصفًا آخر اعتمادًا على من نقل له الكلام في القاهرة بأنه «ذري اللون، حليق الذقن، وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، في ظهره حَنيّة، وعلى رأسه عمامة صغيرة…»[6].

ورغم وجود إضافات واختلافات بين الروايتين فإنه وضعهما هكذا دون ترجيح بصحة رواية عن أخرى، وهما وصفان يتفقان جزئيًا مع ما جاء في كتابات رجال الدولة العثمانية عن السلطان من كونه: متوسط القامة، أقنى الأنف، حليق اللحية، ذو شارب طويل وكثيف، وجهه مستدير، وذو نظرات حادة ومقطبة[7].

وقد ذكر شيئًا مخالفًا لما هو مشهور عن طومان باي من شجاعة، فقد كان طومان باي بشهادة ابن إياس والمؤرخين العثمانيين رجلًا شجاعًا أظهر بسالة وقوة في محاربة الجيش العثماني،. ورغم أن ابن إياس يصفه بهذا، فإنه ذكر في نفس السياق أنه بكى رعبًا لمَّا وصلته رسالة سليم بعد الانتصار في مرج دابق بأن يكون تابعًا له وإلا أتى وقضى على الجراكسة في مصر. فأي شجاع هذا الذي يبكي من رسالة تهديد تصله من عدو حتى وإن كان أقوى منه؟! وقد قمت بتجميع بعض النقاط من شهادة الرجل توضح لنا كيف أنه يتضارب في تسجيل الروايات:

1. ما ذكره بخصوص معركة الريدانية من أنها كانت معركة مهولة وكبيرة، ثم يعود بعد ذلك في صفحات لاحقة ويقول إنه وقع بين سليم وطومان باي قتال هين في الريدانية وسرعان ما انكسر الجيش المملوكي[8]، فهل كانت المعركة كبيرة وعظيمة أم صغيرة وانكسر فيها المماليك سريعًا؟

2. ما ذكره من أن الغوري عندما خرج للشام لملاقاة الجيش العثماني أفرغ الخزائن من كل الأموال التي جمعها من أول سلطنته حتى «قيل» إنها بلغت ألف ألف دينار (مليون دينار)، وأخذ معه التحف وآلات السلاح الفاخرة وأفرغ حواصل الذخيرة عن آخرها، وحمل تلك الأشياء كلها على خمسين جملًا[9]. ولمّا تسلم طومان باي الحُكم كانت الخزائن خاوية على عروشها[10][11]، وهو شيء طبيعي فقد أفرغها الغوري قبل ذهابه. إلا أنه يرجع ويقول إنه «يُشاع» أن سليمًا لمَّا خرج من القاهرة صحبه ألف جمل محملة من ذهب وفضة بخلاف ما غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس وغيرها[12]. فكيف أفرغها الغوري وهو خارج ولم يجد فيها طومان باي شيئًا من الأموال، ثم بلغت حمولة سليم من الأموال والذهب والفضة وهو خارج من القاهرة ألف جمل، وكل الفترة التي بقاها سليم في القاهرة أشهر فقط؟!

3. ما ذكره بأن السلطان سليم لما ملك حلب واستولى على خزائن أموالها،كان بها من الأموال مائة ألف ألف دينار (مائة مليون دينار)، بخلاف التحف والسيوف والخوذ وغيرها، وهو الذي جمعه الغوري في فترة سلطنته وأخذه معه من القاهرة[13]، وهو هنا يتضارب في القول لأنه قال من قبل إن الغوري أخذ من الأموال من القاهرة مليون دينار، فكيف قفز الرقم من مليون إلى مائة مليون! ثم نجده يثبت نفس الرقم مرة أخرى بمائة مليون وثمانمائة ألف دينار! فيبدو أن الرجل ينسى ما يسطره في البداية ليقوم بزيادة الأرقام بهذا الشكل الفلكي. 

4. ما أورده من تناقض في حادثة المال المقرر على زوجات أمراء المماليك، فقد ذكر لنا أن السلطان سليم لما قتل أمراء المماليك قبض على زوجاتهم وفرض عليهن أموالًا، وقد سجن جماعة منهن وتم نقلهن إلى بيت الدفتردار[14]، ثم يعود فينقض كلامه ويقول إنه «أشيع» أن السلطان لمّا بلغه أن الدفتردار رسَّم على نساء أمراء المماليك (وضعهن رهن الإقامة الجبرية) أنكر عليه ذلك وأمر بإطلاق سراحهن، وألا يأخذ أحد منهن شيئًا فأخذن بالدعاء له[15]، فمن الذي أمر بفرض الأموال ووضع النساء في الحبس السلطان أم الدفتردار؟

5. أما المبالغات التي يذكرها الرجل في شهادته فهي مبالغات كبيرة، فقد صور دخول العثمانيين مصر كدخول البختنصر [نبوخذ نصَّر] لما دخلها في قديم الزمان وقَتل من أهلها مائة ألف ألف ألف نفس حتى أقامت مصر من بعده أربعين عامًا وهي خراب[16]، أي أن الرجل قتل من أهل مصر مائة مليار إنسان! وهو رقم خيالي فيه مبالغة لا حاجة لشرحها ولا أعلم من أين حصل عليه.

كما يصور جان بردي الغزالي القائد المملوكي المنضم إلى العثمانيين في حادثة «يُشاع» أنها وقعت بحسب كلامه. ذلك أن الغزالي هجم على الشرقية ونهب ما فيها من أبقار وأوز ودجاج وقيامه بأسر نساء الفلاحين وأولادهم وبيعهم عبيدًا في أسواق القاهرة. يصور هذه الحادثة أنها تجاوز ما فعله نبوخذ نصَّر لما دخل مصر[17]، فيبدو أن الرجل يريد أن يصور لنا المبالغة في الظلم فلا يلجأ إلا إلى مثال وحيد يعرفه وهو مثال نبوخذ نصَّر ليدلل على الظلم البيّن حتى وإن كانت حادثة لا تُذكر مقارنة بحرب كبيرة شنها هذا القائد البابلي على مصر.

6. لم تخل شهادة الرجل أيضًا من أخبار لا تتواجد إلا عنده فقط، فقد ذكر لنا أن السلطان سليم رجل سكير مشغول أثناء إقامته في المقياس بملذاته وسكره بين الصبيان المرد (دلالة على فعل اللواط)، وهي صفة للسلطان لم أجد لها ذكرًا في أي مصدر عربي أو عثماني أو أوروبي.

فلم يصف أحد سليم بأنه رجل سكير يحب معاشرة الغلمان سوى ابن إياس، على عكس غيره من السلاطين التي أوردت المصادر العثمانية عنهم شربهم الخمر، لذا فابن إياس يلجأ في هذا إلى الإشاعة اعتمادًا على ما كان يسمعه من بعض الأشخاص، مثل شخص يدعى ابن محاسن قبض عليه طومان باي في القاهرة بعد دخول سليم لدمشق، وأخبره (في سياق المدح وإظهار القوة) أن جنود السلطان يفتكون بالمدينة كلما توارى السلطان عنهم، وأنهم يشربون الخمر والبوزة ولا يصومون رمضان ويفعلون الفاحشة بالصبيان المرد في نهاره[18]، رغم أننا لا نجد عند ابن طولون ولا ابن الحمصي المعاصرين للحدث في الشام شيئًا مثل هذا، بل التقييم المجمل لشهادة ابن طولون وابن الحمصي عن فتح العثمانيين للشام تقييم إيجابي.

يتضح لنا من العرض المبسط السابق أنه يجب قراءة شهادة ابن إياس بحرص كبير، وألا يؤخذ كل ما فيها على محمل الصدق، فالتضارب في الحوادث التي انتقيتها هنا هي من صلب طريقة ومنهج الرجل في تسجيل شهادته على الحادثة، وهو ما دفعني لعقد مقارنة تفصيلية لبعض القضايا التي ذكرتها في أول المقال كما وردت عند ابن إياس وفي المصادر العثمانية والأوروبية؛ حتى يتضح لنا بشكل أكبر مدى دقة وموثوقية شهادته، إلا أني أترك هذه المقارنة للمقالات المقبلة، بإذن الله.

المراجع
  1. موارد ابن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور عن الصراع المملوكي العثماني 922هـ/923هـ / 1516-1517، شادية حسن أحمد العدوان، المجلة الأردنية للتاريخ والآثار، المجلد 6، العدد 2، 2012، ص 94
  2. محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق محمد مصطفى، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، الجمهورية العربية المتحدة، 1380هـ / 1961م، الطبعة الثانية، القاهرة، ج5، ص 68
  3. ابن إياس: مؤرخ الفتح العثماني لمصر، حسين عاصي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، 1993، ص 106-107
  4. ابن إياس، بدائع الزهور، ج5، ص 39-42
  5. المصدر نفسه، ج5، ص 74
  6. المصدر نفسه، ج5، ص 150
  7. Emecen, Feridun M., Yavuz Sultan Selim, İstanbul: Kapı Yayınları, 2017, s.362
  8. ابن إياس، بدائع الزهور، ج5، ص 152
  9. المصدر نفسه، ج5، ص 42
  10. المصدر نفسه، ج5، ص 103
  11. عماد هلال: فتح أم غزو … هل هذه هي المشكلة؟،جريدة القاهرة، القاهرة، 860/ 24 يناير 2017، ص 5
  12. ابن إياس، بدائع الزهور، ج5، ص 207
  13. المصدر نفسه، ج5، ص 75
  14. المصدر نفسه، ج5، ص 171
  15. المصدر نفسه،، ج5، ص 173
  16. المصدر نفسه، ج5، ص 157
  17. المصدر نفسه، ج5، ص 168
  18. المصدر نفسه، ج5، ص 124