ربما لا يخطر ببالك وأنت تجلس على أحد المقاهي تحتسي القهوة على الطريقة التركية أن وصولها إليك مر عبر طريق مليء بالمعارك الفكرية ومخضب بالدماء، ربما الشخص الجالس في محاذاتك يدخن الشيشة أو السجائر لا يعرف قصة العشرين جندي من الانكشارية الذين دفعوا حياتهم ثمنا لإشباع الرغبة التي يمارسها بكل أمان الآن!

لماذا نفرض قانونًا بمنع أشياء سيفعلها الناس على أيّ حال؟

كان هذا تساؤل «مصطفى بن عبدالله» المعروف بكاتب جلبي، أو حاجي خليفة الفيلسوف والموسوعي، والعالم العثماني على الحملة التي شنها «القاضي زادلية» على القهوة والسجائر باعتبارهما بدعًا ومحرمات مستوردة من الغرب. على كل حال مات كاتب جلبي وهو يحتسي آخر فنجان قهوة، لكنه ترك خلفه أعمالاً ومؤلفات عظيمة بلغت ما يقارب ال 22 مؤلف أشهرها الموسوعة المسماة «كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون» وكذلك كتاب وصف العالم «جهان نامه».عاش كاتب جلبي في القرن الـ17 في الوقت الذي ازدادت فيه التوترات الداخلية الفكرية التي تتنازع الإمبراطورية العثمانية، وكذلك التحديات الخارجية الناتجة من صعود الغرب ومشاريعه ومغامراته الاستكشافية والاستعمارية وتقدمه العلمي. شهدت الساحة الفكرية العثمانية في تلك الآونة وحتى سقوط الدولة أربع تيارات أو مؤسسات فكرية رئيسية تنافست فيما بينها على الحظوة لدى السلطان والشارع.هذه المؤسسات تمثلت في الطرق الصوفية التي كان لها دور مؤسس في علاقة السلطة بالدين والمجتمع منذ بدايات الدولة العثمانية. ثم المدارس العلمية التي خرّجت طبقة العلماء والقضاة وعلماء الفلك والرياضة والفلاسفة والأطباء. وقد حظيت طبقة العلماء المتخرجين من هذه المدارس التي غلب عليها المذهب الأشعري بمكانة عالية بحكم وظيفة التشريع والقضاء التي احتلتها.

ثم ظهرت في القرني الـ16، 17 حركات الإحياء السلفي والتي عُرفت باسم «القاضي زادلية» والتي كان قوامها الوعاظ وأئمة المساجد الذين دعوا إلى العودة إلى السنة المحمدية الصحيحة، ومحاربة ممارسات الطبقة الصوفية، وفساد طبقة العلماء. وأخيرًا حركة التحديث بأشكالها ومراحلها المختلفة التي كانت تدعو للحاق بركب التطور، والتحديث الإداري والعسكري والعلمي، وفي نظام الحكم والسلطة.

من قلب هذه التيارات والمؤسسات أو من خارجها، لمعت أسماء بعض الفلاسفة والمفكرين الذين قدموا أعمالهم وأفكارهم خارج إطار الشروحات والتعليقات والاستهلاك، الذي وصمت به الفلسفة والعلوم في العصر العثماني. كان بعض هؤلاء الفلاسفة من المفكرين السُّنة، الذين غادروا بلاد فارس بعد سيطرة الدولة الصفوية على السلطة فيها، وفرضهم أفكار وسياسات مذهبية، وقد جلب هؤلاء المفكرون تراث مدرسة شيراز، وفلسفات الهند وبلاد ماوراء النهر إلى قلب العاصمة العثمانية.


التمدن الصوفي

بعد انتهاء الفترة المركزية في الحضارة الإسلامية بسقوط بغداد على يد المغول وزوال الخلافة العباسية بدأت الطرق الصوفية بلعب دور متعدد ومركزي ومهم في نشر الإسلام وتأسيس الدول والحفاظ على الدعوة الإسلامية؛ حيث ساهمت هذه الطرق في انتشار الإسلام في أفريقيا وجنوب شرق آسيا والأناضول، وكونت هياكل مؤسسية وفوق مؤسسية للحفاظ على معادلة المعرفة والسلطة الإسلامية.أما الدور الأساسي في أسلمة الأراضي التي افتتحتها الدولة العثمانية فقد قامت به هذه الطرق الصوفية التي مارست دورها ونفوذها داخل الدولة في ثلاثة محاور رئيسية: المحور الأول: تمثل في تأسيس وشرعنة السلطة، حيث لعب الشيخ «أدبالي» -حمْو مؤسس الدولة السلطان عثمان- دورًا رئيسيًا في تأسيس الدولة، كما ساهم الشيخ «السُّهروردي» في نقل حركة الفتوة إلى الأناضول بما يمثله من ممارسة، وتأسيس للسلطة على المستويات المحلية الصغيرة والمحدودة. كان مشايخ الطرق الصوفية هم من يقلدون السلطان سيف الإمارة ومعظم السلاطين العثمانيين انتموا إلى إحدى الطرق الصوفية وارتقى بعضهم إلى مرتبة الأولياء. المحور الثاني: المركزي فهو تأسيس الطريقة البكداشية على يد حاجي بكداش شيخ الطريقة البكداشية، واجبار الانكشارية على الانتساب إلى هذه الطريقة، بل وتحديد جميع القواعد العسكرية وغير العسكرية ضمن المبادئ البكداشية. المحور الثالث: احتواء روابط الحرفيين والعمال والفلاحين وتوفير الشكل المؤسسي للروابط الأخوية المتجاوزة للمكان مما ساهم في ترابط المجتمع المدني العثماني عن طريق نشر الزوايا والتكايا وحلقات الذكر والطقوس الصوفية.


المدارس النظامية وطبقة العلماء

ورثت الدولة العثمانية المدارس عن مؤسسة المدارس النظامية التي أنشأها الوزير نظام الملك في عهد الدولة السلجوقية، مما يعني أنها ورثت عنها بنسبة كبيرة المذهب الأشعري الشافعي، واستفادتها من الفلسفة في علم الكلام، واهتمامها بالفلك والرياضيات والعلوم التطبيقية. وقد لعبت هذه المدارس دورًا حيويًا في تخريج رجال الدولة من الكتبة، والقضاة ورجال القانون، وجباة الضرائب والعلماء والوزراء، وهو ما جعلها طبقة مسيطرة تحظى بمكانة مرموقة في البلاط العثماني. بمعنى آخر شكّلت هذه الطبقة البلاط العثماني في المقام الأول.لم تتفلت مناهج هذه المدارس من تبعات ما بعد «تهافت الفلاسفة» للغزالي واقتصرت دراسة وتعليم الفلسفة على ما يمكن أن يقدم تأسيسا عقليا لعلم الكلام الأشعري، في المقابل توسّع العثمانيون في دراسة الفلك والجغرافيا والتاريخ وعلوم الإدارة والرياضيات.

ومن اللافت أن دعوة للإحياء السلفي في تركيا العثمانية قامت على يد الشيخ «برگوي محمد أفندي» عالم الدين والواعظ العثماني الذي تأثّر بشكلٍ كبير بدعوة «ابن تيمية» وتلميذه «ابن القيم»، فأقام دعوته على المطالبة بوقف انتشار الطرق الصوفية وإزالة البدع.

وقدتلقف «القاضي محمد زادة أفندي» أفكار الشيخ «البرگوي»، وقام بتأسيس حركة تتكون في قوامها من الوعاظ وأئمة المساجد تدعو إلى «محاربة البدع التي تم استحداثها في الدين خاصة من الصوفية مثل الحج إلى قبور الأولياء، محاربة انتشار شرب القهوة والدخان [وكانت أمورًا حديثة نسبيًا]، والرقص الصوفي، وحلقات الذكر، والغناء، والموسيقى، مع دعوة الناس للعودة إلى نقاء الدين مرة أخرى كما جاء به النبي [عليه الصلاة والسلام]».انتشرت دعوة «القاضي زاده» انتشارًا واسعًا، ووصلت أصداؤها إلى القصر السلطاني، واستجاب لها السلطان «مراد الرابع» (حكم من 1623- 1640م)، وأمر بإغلاق المقاهي والخمارات، وذكرَ كاتب جلبي أنه قام بإعدام 20 جنديًا من الإنكشارية، ضُبطوا متلبسين يدخّنون السجائر قبل معركة استعادة بغداد من قبضة الصفويين. من جانب آخر لم تكتفِ الحركة بمهاجمة الطرق الصوفية، إنما انتقدت كذلك طبقة العلماء التي استشرى فيها الفساد والتوريث والمحسوبية، ونبع هذا النقد بالأساس من رؤية الحركة بأن استعادة قوة الدولة تكمن في العودة إلى الدين المحمدي الصحيح، لكن الأمر لم يخلُ من منافسة مذهبية تقليدية بين الأشاعرة والسلفية. وقد شهدت الحركة بعد وفاة مؤسسها موجات صعود وانحسار بحسب قبول السلاطين لأرائها، وكذلك مدى قوة وكارزمية ممثليها، ولكنها انتهت بشكلٍ كبير بعد هزيمة الجيش العثماني على مشارف فيينا بسبب دعم الحركة للحملة الفاشلة، ثم معاقبة السلطان لكل من دعى للحملة وأيدها.


التحديث المستعار

قامت نظرية الدولة في الإمبراطورية العثمانية على عمودين رئيسيين مستمدينِ من الثقافة الأفرو- أوراسية؛ هما السلطان الحاكم الفرد الذي يضمن تحقق الاجتماع البشري، والحكم بين المصالح المتضاربة في المجتمع.والعمود الثاني؛ العدالة الاقتصادية التي تضمن رعية غنية مما يعني ضرائب أكثر، الأمر الذي يترتب عليه وجود جيش ودولة راسخة. بالإضافة إلى هذه الأركان كانت الدولة العثمانية تستمدُّ مصدر مشروعيتها الأصلي من قدرتها على حفظ وصيانة وتطبيق الشريعة؛ أي أنها في حالة عدم قدرتها على الاضطلاع بهذه المهمة تفقد مشروعيتها بالتبعية.لقد احتفظت الإمبراطورية العثمانية بهيبتها وقوتها طالما استمرت على هذه المعادلة، ثم لما تزايد استبداد الولاة والانكشارية وجُباة الضرائب، وتزعزعت قوة السلطان؛ تفكّك الرابط الاجتماعي والمشروعية التي قامت عليها الدولة، وكان لابد من قيام حركة إصلاحية أو تجديدية جديدة من بطن الإمبراطورية مترامية الأطراف متعددة اللغات والثقافات.الحقيقة أن أيٍّ من التيارات الفكرية المرتبطة بمركز الحكم في اسطنبول لم تمتلك القدرة، ولا الخيال اللازم على القيام بهذه الحركة؛ لذا جاءت الإصلاحات من الخارج مرتبطة بمشاريع استعمارية واقتصادية ركّزت بشكل كبير على استغلال قضايا التنوع الطائفي، وصعود حركات التحرّر القومي. على الرغم من محاولات الإصلاح المختلفة التي تمثلت في ما يسمى «بالتنظيمات» أو تصفية الإنكشارية، وفترة قصيرة من الحكم بطريقة الملكية الدستورية التي سمحت بوصول حركة الاتحاد والترقي إلى الحكومة قبل الحرب العالمية الأولى، فإن الإصلاح المستعار من الخارج المحكوم بأجندات غير بريئة لم ينجح في إنقاذ الدولة المفككة من السقوط، ناهيك عن المسارعة في إسقاطها.


فلسفة الحواشي

أيًا ما كان من محاولات استعادة قوة الدولة العثمانية، فإن كتاب «تهافت الفلاسفة» لـ«أبي حامد الغزالي» (ت 505هـ/1111م) على الدوام عتبة مرتفعة في تاريخ الفلسفة الإسلامية الشرقية. أي أن تفلسف ما بعد «الغزالي» كان مرهونا بتجاوز عقبة التهافت.

ربما إدراكًا منه لهذه الحقيقة استدعى السلطان «محمد الفاتح» الذي كان حاكمًا مثقفًا متعلمًا اثنين من أكبر رؤوس المدارس النظامية في عهده هما؛ «مصطفى بن الخليل البرسوي» الملقب «خوجه زاده»، و«علاء الدين علي الطوسي»، وعقد بينهما منافسة يفوز فيها من يقدم أفضل نقد لمشروعي «الغزالي، وابن رشد».

كتب كلٌّ من العالمينِ نسخته الخاصّة من «تهافت الفلاسفة» وانتهى الأمر بفوز خوجه زاده؛ لذا قلّده السلطان وشاحًا فاخرًا كجائزة له. وعلى الرغم من أن كلا العالمينِ أعادا طرح المسائل التي طرحها الغزالي في مؤلفه الأصلي؛ إلا أنهما لم يشتبكا مع نصه اشتباكا مباشرا.لكن مع ذلك إذا تطرقنا لمسألة «أبدية الكون» على سبيل المثال نجدُ أن خوجه زاده على الرغم من اتفاقه مع الغزالي في القول بأن الكون مخلوق وليس أبديا، إلا أنه يرفض الحُجج التي قدمها الغزالي ويقدم حججه الخاصة. بعيدًا عن الاشتباك المباشر بين الفلسفة وعلم الكلام، استمر التقليد العثماني الذي يقضي بطرح العلماء والفلاسفة أفكارهم الخاصة ضمن تعليقاتهم وحواشيهم على أعمال من سبقوهم. لم ينجُ من هذا التقليد حتى أولئك الفلاسفة الذين تتلمذوا خارج الإمبراطورية في شيراز والهند، وحملوا معهم إرث سلسلة متصلة من الفلاسفة الشرقيين مثل «الدعواني» و«صدر المتألهين».ويأتي «مصلح الدين اللاري» على رأس هؤلاء الفلاسفة الذين فروا من الاضطهاد الصفوي إلى المدارس النظامية العثمانية، وكذلك «علاء الدين الكشجي». أسهم هؤلاء العلماء إسهامات واسعة في علوم الفلك ووضعوا مؤلفات ضخمة في التاريخ والجغرافيا.وبهذا نرى أن حياة الفكر في الدولة العثمانية نحت منحى بيروقراطيًا بعض الشيء، فلم يكن التفلسف منتشرًا على نطاق واسع كما كان في المشرق قبل العثماني، وقد لعب العلماء دورًا بارزًا في تقعيد وتأطير نمط الحياة الفكرية الجديدة!

المراجع
  1. التأثير الصوفي في الدولة العثمانية، اسلام اوزكان
  2. السلفية العثمانية: إحيائية إسلامية في مواجهة البدع الصوفية
  3. Turkish Delights – Philosophy under the Ottomans
  4. “Freeing Astronomy from Philosophy: an Aspect of Islamic Influence on Science,” Osiris 16 (2001), 49-71