وإذا استطاع المرء أن يشعر بأن بقاءه إنسانًا هو أمر يستحق التضحية من أجله، حتى لو لم يُؤدِّ ذلك إلى نتيجة، فإنه يكون قد ألحق بهم الهزيمة.
جورج أورويل

لكن لا أحد يهتم!


وقال مارك: فليكن عالمًا جديدًا

Jeff Jarvis, What Would Google Do, p 49

كان حلمًا يداعب مخيلّة مدمني الألعاب الإلكترونية، ماذا لو أنّهم يمارسون ألعابهم داخل «واقعٍ افتراضي» يجعلهم وكأنهم يعيشون داخل تلك الألعاب لحظة ممارستها! حتى كان هذا الخبر في مارس/آذار 2014، الذي يُبشر بقيام شركة sony بالإعلان عن نظارة تُمكن من توفير هذا الحلم.

لكنه كان حدَثًا مفاجئًا للجميع، حين أعلنت شركة فيسبوك في الشهر نفسه عن استحواذها على شركة Oculus VR المختصة في تطوير تقنيات «الواقع الافتراضي» والمنتجة لخوذة الرأس «أوكولوس ريفت» Oculus Rift التي تقدم تجربة الواقع الافتراضي لألعاب الفيديو الإلكترونية، وذلك في صفقةٍ بلغت ملياري دولار.

في ذلك الوقت، كشفت فيسبوك عن نيّتها فتح آفاق جديدة لتقنيات الواقع الافتراضي التي تطورها الشركة، تتجاوز حدود الألعاب إلى مجالات جديدة، مثل الاتصالات والوسائط المتعددة والترفيه والتعليم. بينما أعلن مارك زوكربيرج، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، عبر صفحته أن «لدى شركة Oculus الفرصة لخلق المنصة الاجتماعية الأفضل على الإطلاق، ولتغيير الطريقة التي نعمل ونلعب ونتواصل من خلالها».

هنا لم يعد الأمر يقتصر على الألعاب التي لها مدمنوها فقط، وإنما بات يمتدّ إلى نطاقاتٍ أوسع في الحياة يحتاج إليها عددٌ أكبر بكثير ممّا يمكن توقّعه من المستخدمين.

في أكتوبر/تشرين الأول 2017،صرّح مارك زوكربيرج في أحد الاجتماعات الخاصة بشركة Oculus بأنه يريد إدخال مليار شخص إلى العوالم الافتراضية، موضحًا أن أغلبهم سيلجئون إلى هذا العالم هربًا مما يعيقهم عن زيارة أماكن تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، ليكتشفوا أماكن لم يسبق لهم اكتشافها.

إن حاولنا هنا تجاوُز حقيقة أن شخصًا واحدًا يتحدث عن واحدة من خطواته الفعلية في الحياة، هي أن يتحكم في مصير مليار شخص، فيمكننا ببساطة تخيّل أنّ: كل مكالماتنا الهاتفية التي كانت تستمر بالساعات أحيانًا، بينما نحن نعد شيئًا نستمتع به ونحاول جاهدين وصفه لمن يسمعنا على الطرف الآخر بصوت مختلف عما نسمع به أنفسنا، وأن مكالماتنا المرئية والرسائل النصية التي نرسلها لبعضنا البعض والحالات التي نكتبها على الشاشة الزرقاء الفيسبوك.. كل ذلك سيختفي وسيكون التواصل بصورة مباشرة عبر نماذج ثلاثية الأبعاد «أفاتار».

إن ما تراه شركة فيسبوك ومارك زوكربيرج أنّ هذه العوالم ستدفع الناس إلى الترابط أكثر مع عائلاتهم وأسرهم الذين يعيشون بعيدين عن بعضهم، وكذلك يمكن لبعض مواطني الدول الذهاب لأفراد في دول أخرى للاطمئنان عليهم بعد وقوع حوادث كبرى كالزلزال أو الأعاصير وما إلى ذلك.

لم يكن زوكربيرج أوّل من فكّر في استثمار هذه التقنية وتوظيفها، لكنه كان أوّل مَن يقوم بتوسِعة مجالاتها ونطاقات مستخدميها إلى هذا المدى المذهل، متفوّقًا على عوالم افتراضية محدودة مثل: (Prius) و (Second Life) و (Club Penguin) التي أنشأتها ديزني للأطفال، ومتجاوزًا بذلك مشروعات «الواقع المختلط» المختصّة بإيجاد الوسيلة المناسبة لدمج الإنسان بالعالم الافتراضي بينما هو في حياته الحقيقية، من خلال أجهزة متطورة ونظارات خاصة لهذا الدمج.

يأتي على رأس هذه المشروعات مشروعان. الأول منهما (MR Project) الذي أطلقته الحكومة اليابانية عام 1997 بالاشتراك مع شركة Canon، ويضم هذا المشروع القومي جامعات كبرى باليابان مثل جامعة (طوكيو-هوكايدو)، مستهدفًا التخلص من الحدود والقيود المتعلقة بالعالم الافتراضي التقليدي، ولا مانع من إمداده في الوقت نفسه ببياناتٍ من العالم الحقيقي. والمشروع الثاني أطلقته كلية علوم الكمبيوتر بجامعة نوتينجهام الإنجليزية من خلال معمل الواقع المختلط الخاص بالجامعة، ومن أهدافه أن يقوم بإنشاء بيئات افتراضية يستطيع الإنسان أن يعيش فيها من خلال دمجها بالحياة الحقيقية.

وبينما يطالع القارئ هذه الكلمات تستعد شركة (Linden Lab) المؤسسة للعالم الافتراضي (Second Life) لتطوير عالم جديد أكثر دقة وأجود من Second Life اسمه Sansar، وهو الذي من خلاله يتمكّن المستخدم ليس فقط من إنشاء ومشاركة خبراته الاجتماعية وإبداعاته العملية في الواقع الافتراضي، وإنما أيضًا، من ترويج وبيع هذه الخبرات والإبداعات، وبالتالي طفرةٌ جديدة في مجال التسويق والإعلان والمبادلات التجارية، ربّما نفرد لها مقالًا مستقلًا. (هنا يمكنك أن تخلق أي شيء، في الألعاب، في التعليم، يمكنك أن تبني مدينةً من العدَم، كما في الفيديو التالي)

إن وجود «واقع افتراضي» يمهّد الطريق لتشكّل «عالَم افتراضيّ» مكتمل التكوين يصعب تجنبّه أو الفكاك منه، وهو ما نناقشه في المحور التالي.


بين الواقع الافتراضي والعالم الافتراضي

عادةً يبرز هذا الخاطر «عالم افتراضي وواقع افتراضي.. أنت تتحدّث عن فيسبوك وتويتر مجدّدًا؟». الخطأ نفسه الذي يقع فيه كثيرون، بينهم مفكّرون لا يتحرّون دقّة معاني الكلمات التي يستخدمونها. فيسبوك وتويتر وأمثالهما هي شبكات للتواصل الاجتماعي «الافتراضي»، وبتعبير أكثر اختصارًا: مجتمعات افتراضية. لا ترقى لأن تكون عالمًا افتراضيًا.

العالم الافتراضي أعم وأشمل من المجتمع الافتراضي. ففي العالم الافتراضي هناك حياة كاملة.. بالضبط «حياة كاملة» بأنشطتها وتفاعلاتها وتراتبيتها، بداية من مرحلة الطفولة مرورًا بالدراسة والعمل وامتلاك المنشآت و الاستثمار والبيع والشراء والارتباط و الزواج والحمل والولادة والرعاية والتربية والتعليم والانتخابات و الصلاة والعبادة حتى للمسلمين… إلخ.

في هذا الفيديو، أفاتار امرأة حامل أثناء عملية الولادة.

الأمر هنا يتجاوز تمامًا مصطلحات فيسبوك وتويتر إلى مصطلحات أخرى شديدة الدلالة، مثل (الواقع المعزّز Augmented reality) الذي هو دمج بين الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي بدون الخروج أو الانعزال عن العالم الحقيقي، ومثل (الواقع الافتراضي Virtual Reality) الذي تمثّله الحواس البديلة المؤثرة على المدركات الحسية، ومثل (العالم الافتراضي Virtual World) وهو أي عالم يكون للشخص الحقيقي فيه بديل افتراضي يطلق عليه اسم الأفاتار، ومثل (IRL – in real life) الذي يشير إلى الواقع الحقيقي للحياة خارج العوالم الافتراضية.

الفرق بين العالم الافتراضي والواقع الافتراضي أن الأول هو مساحة افتراضية، حيث يستطيع الناس ممارسة حياتهم كما يفعلون في العالم الحقيقي، أما الواقع الافتراضي فهو الطريقة التي يختبر بها الناس هذا العالم الافتراضي.

يمكنك اعتبار العالم الافتراضي مثل الحروف التي تريد كتابتها، بينما الواقع الافتراضي هو الشيء الذي ستكتب عليه هذه الحروف، وبالتالي فكل طريقة تستخدمها تختلف درجة وضوحها وإمكانيات حفظها والحفاظ عليها وقراءتها ومراجعتها… إلخ.

فيما قبل، كان يمكنك مشاهدة العالم الافتراضي عبر شاشة الكمبيوتر، حيث تشعر أنك تلعب إحدى الألعاب المعتادة، أو يمكنك مشاهدته عبر شاشة عملاقة تقحمك في كل تفاصيله. وهكذا كان يظل العالم الافتراضيّ – مهما كانت جودته – بعيدًا نسبيًا عن عين المستخدم ووجدانه خاصّة في وجود مشتّتات بيئية أو حسّية من حوله. كان عالَمًا افتراضيًا بلا واقع افتراضيّ.

لن يعود الأمر كما كان. صارت لديكَ الآن نظارة الواقع الافتراضي VR، التي توفّر للفرد شعورًا بالاندماج الكامل داخل التجربة التي يمر بها، سواء كانت التنزه في أحد الحدائق أو خوض مغامرة ترفيهية أو خوض أحد الحروب أو حتى ممارسة الجنس.

مع وضع هذه النظارة لن تكون هناك مشتتات، ولن يكون هنالك ما يصرف انتباه المستخدم، وهو ما يصل به إلى أهم خصائص الواقع الافتراضي، وهي دفع المرء إلى«العزلة» الكاملة عن الواقع الحقيقي.

في الواقع الافتراضي لا يمكنك أن تنفصل عن العالم الافتراضي. على عكس المرحلة التي سبقته، فباستخدام الـVR لو كنت تشاهد في أحد العوالم المرعبة الافتراضية لن تستطيع أن تنظر حولك في الغرفة للتأكد من عدم وجود أحد هذه الكائنات لو كنت طفلًا ولو كنت بالغًا ومع علمك أن ما تراه افتراضي فإن المسيطر عليك هو شعورك بالخوف وهو من المشاعر البدائية بالإنسان، حيث لا يمكن للمكان الذي تحدث فيه معالجة البيانات المعطاة للعقل أن يكون هو المسيطر على التفكير، حيث إن الخوف أحد المشاعر التي تسيطر على الإنسان تمامًا.

يمكنك إضافة عدد من العوالم الأخرى لهذه الصورة نفسها، فالعوالم الجنسية والترفيهية التي تدفع الأدرينالين في الجسد، والعوالم الأخرى التي تُحرك في الإنسان مشاعره البدائية أو التي تدفعه إليها دوافعه النفسية الأعمق والأكثر بدائية، كل هذه العوالم بسبب الواقع الافتراضي ستكون لها سيطرة قوية على الإنسان لم تُختبر فيما سبق، ولا يدري أحد كيف ستصبح الصورة التي سيصير عليها الإنسان حينما يصبح الوجود بالعالم الحقيقي يعرف بـ ـIRL (في العالم الحقيقي)، وسرعان ما تنسى الأجيال القادمة أصل كلمة IRL وستكون كلمة مُقلِقة لهم أو مخيفة أن تقابل جدك IRL الذي لن يكون بحال يلبس هذه النظارة ربما لأنه غريب الأطوار!

تقنيًا، العالم الافتراضي ليس بهذا التعقيد إنما هو صور بانورامية بزاوية 360 درجة، والعديد من النماذج ثلاثية الأبعاد وأنظمة تحديث أوتوماتيكية، لكن الأصعب من ذلك ويعتبر محيرًا كذلك هو الطريقة التي ستتشارك هذه النماذج بياناتها وتتعامل بها في معاملاتها المادية المختلفة. فعندما تعرف أن IBM فتحت مكاتب ومنافذ بيع هنالك، وأنّ رويترز قامت بتغطية أحد الأحداث المهمة هنالك أيضًا، وأنّ كوكاكولا تقوم بالدعاية لمنتجاتها.. ستصابُ بحدٍ أدنى من الحيرة والارتباك.

الحقيقة أن العالم الافتراضي يتطور تطورًا مريبًا ومزعجًا إلى حد بعيد جدًا، ولا أحد يشعر – ولا أحد يبدو مهتمًا – أننا الآن في مرحلة تشهد تحولًا ليس في شكل المجتمع فحسب، بل في العالم نفسه.


الهروب إلى العوالم الأخرى

ولكن هكذا شأن غريبي الأطوار وعلى المرء أن يعتاد هذا، فعندما يسيطر غريبو الأطوار على العالم التكنولوجي، وسيفعلون، سيكون التحديق الصامت والكلمات غير المفهومة ظاهرة مجتمعية.

وبينما قد يثير هذا الموضوع اعتراض البعض وتهكّم البعض الآخر، سيكون هناك فريق ثالث يسرع للبحث عن العوالم الافتراضية متعلّقًا بالأمل في أنه يستطيع الهروب. من المثير للاهتمام أنه بينما أتصفح أخبار العالم الافتراضي والتحذير منه أو نقده أجد بالفعل أن الدعاية له قد ملأت الصفحة التي أقرأ فيها، فأدرك أن الكل لا محالة سيذهب إلى هناك. ستذهب إن كنت من المعترضين أو كنت من المتهكمين. فلا جدل حول ذلك، ولا قدرة لنا على التصدي له.

هناك في العالم الافتراضي، حيث كل شيء ممكن.. حتى المستحيل يكون هنالك، في الافتراضي، ممكنًا.. يمكنك أن تبني قصرًا بين السحاب في عالم فنتازيا، أو أن تعيش بين أثرياء بيفرلي هيلز، أو تكون ممن اختاروا الحياة تحت سطح البحار في عالم خيالي. يمكنك فعل ما تشاء، فأنت هناك تخلق عالمك الخاص. عالمٌ لا يحكم فيه أحد على الآخر، ولا يكدح فيه أحد للحصول على الاعتراف من الآخر، فالكل معترف به وسط الجماعات التي تشبهه والتي سيستطيع بسهولة البحث عنها وإيجادها بمحركات البحث شديدة التطور التي سرعان ما تجمع كل من لهم صفات وميول مشتركة مع بعضهم.

هناك يمكنهم القيام بعملية استبدال كاملة لعالمهم الحقيقي بهذا العالم، أغلبهم يعيش في غرفته المظلمة غير مكترث بشيء في حياته سوى الشاشة أو نظّارة الـVR، قد لا يأبه له أحد في العالم الحقيقي، إلا أنه في العالم الافتراضيّ نجم حفلات تتجه إليه أنظار الفتيات كلما أتى أو ذهب، أو تكون امرأة أصابت التعاسة حياتها فحطمتها تمامًا إلّا أنها إذا ولجت إلى عالمها الافتراضي تحولت إلى تلك المرأة المثيرة التي حيرت عقول الآلاف ليأخذوا منها ولو موعدًا واحدًا.

المهم ألا تتحرك من أمام الشاشة أو تنزع من عن عينيك نظارة الـ VR، فالشاشة هي النافذة التي تتخلص بها من كل ما يسبب لك الإزعاج في العالم الحقيقي، أو ربما تخلّصت بها من العالم الحقيقي نفسه، والنظّارة هي نافذة إدراكك ووجدانك وتذكرة ولوجك إلى عالَمك الجديد. لا معنى هنا إذن للاعتراض أو التهكّم أو الاستنكار؛ فكلنا مدفوعون بفعل التطور الذي خرج عن سيطرة الإنسان إلى هذا الجحيم الذي يوشك أن يكون نعيمًا لعدد مهول من البشر.

أما إذا كنت ممن سيتمسكون بالحياة في IRL، فستكون محكومًا عليك بالنبذ وبالأحرى الإعدام، لأن كسب الرزق والتعارف والوجود بين الناس سيكون في الـ VR، والوحدة ستقتلك، وستتخلص منك التكنولوجيا.

إن التطور الذي نمر به يتخطّف الأفكار الإنسانية، وبينما هو يفعل ذلك، لا نزال نجد أفرادًا متمسكين بأفكار خوَت من معانيها، ويدافعون عنها ويُفرّغون لأجلها أوقاتهم في مساحات اجتماعية افتراضية،تعبّر أعداد المتابعين لهم فيها عن قيمة وهمية،وسواءً كانوا يساريين أو يمينيين، فقهاء أو فلاسفة، فقد انتصبوا داخل مواقع التواصل الاجتماعية، وفضّلوا الوجود فيها محاربين ومتصدين لخيالات وأوهام يحرّكون فيها جماعاتٍ ترتحلُ منحدرةً من صورةٍ مصنّعةٍ إلى أخرى. ولا أستبعدُ أن يأتي اليوم الذي تستمع فيه لخلاف واقع على مسألة شديدة الأهمية في جواز تصميم أفاتار – نموذج ثلاثي الأبعاد- على غير الصورة التي خُلق عليها الإنسان، أو تجدُ شيخًا يعيب على غيره أنه من خوارم المروءة أن يكون أفاتاره على صورة أحد الممثلين الغربيين،بينما يتهكّم الآخر على الشيخ بأنه جاهل لأنه حول صورة ثلاثية الأبعاد لتكون بملامحه الحقيقية وغطرته وبطنه الممتلئة.