يذكرُ المؤرخ الأمريكي الشهير «ول ديورانت» أن المسلمين كانوا أول من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشئوا أول مدرسة للصيدلة، وكتبوا الرسائل العظيمة في علم الأقرباذين. وكان الأطباء المسلمون عظيمي التحمس في دعوتهم إلى الاستحمام، وخاصة عن الإصابة بالحميات، وإلى استخدام حمَّام البخار؛ ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئاً على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة.

المسلمون هم أول من أنشأوا المستشفيات، وبلغ عددها في البلاد الإسلامية 34 مستشفي في القرن الثامن الميلادي

ولدينا أسماء 34 بيمارستانا كانت قائمة في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت، ويلوح أنها أنشئت فيها 5 أخرى في القرن العاشر الميلادي، ويحدثنا المؤرخون في عام 918 عن مدير لها في بغداد. وكان أعظم بيمارستانات بلاد الإسلام على بكرة أبيها هو البيمارستان الذي أنشئ في دمشق عام 706؛ وفي عام 978م كان به 24 طبيبا.

وكان البيمارستانات أهم الأماكن التي يدرس فيها الطب؛ ولم يكن القانون يجيزُ لإنسانٍ أن يمارس هذه الصناعة إلا إذا تقدَّم إلى امتحان يُعقد لهذا الغرض ونال إجازة من الدولة. كذلك كان الصيادلة، والخلاقون، والمجبرون يخضعون لأنظمة تضعها الدولة وللتفتيش على أعمالِهم [1].

كان ذلك في القرنين الثالث والرابع الهجري، وحالما أهلَّ القرنُ السادسُ الهجري رأينا اهتمامًا متزايدًا بقضية الصحة العامة والنظافة في الحضارة الإسلامية، برغم انشغال المسلمين بمحاربة الصليبيين والاستنزاف الكبير الذي سببته هذه الحروب في المالية العامة للدولة.

لقد اهتم «نور الدين محمود» بقضية الصحة العامة، وارتأى أن المصلحة تستوجب أن يُكثر من بناء البيمارستانات «المستشفيات» بكافة تخصصاتها؛ حتى إن الناظر للتاريخ الإسلامي يجد أن نور الدين محمود، ومن خلفه سلاطين الدولة الأيوبية، قد أكثروا من بناء المستشفيات، واهتموا بدراسة الطب وممارسته اهتمامًا بالغًا؛ وقايةً لبلادهم من الأوبئة والأمراض.

وكانت حلب في عهد الملك نور الدين محمود إحدى مراكز تدريس الطب في بلاد الشام، وكان ميدان ذلك البيمارستان النوري الذي كان يؤدي رسالة علمية لها أهميتها في تدريس الطب، إضافةً إلى قيامه بوظيفته الأساسية في علاج المرضى ومتابعتهم [2].

وقد كان اختيار موقع البيمارستان النوري في حلب وفق اعتبارات صحية وبيئية؛ فقد ذكر ابن الشحنة أن الملك نور الدين حينما أراد بناء هذه البيمارستان طلب من الأطباء أن يختاروا من حلب أفضل بقعة، صحيحة الهواء صالحة لإقامة البيمارستان بها، وذبحوا خروفًا وقطّعوه أربعة أرباع، وعلّقوها بأرباع المدينة ليلاً، فلمّا أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة الرّبع الذي كان في هذا الموقع، فبنوا البيمارستان فيه.

وهذه خطة حكيمة في اختيار المكان الصالح لبناء البيمارستان، في وقت تنعدم فيه آلات قياس الأبعاد ودرجات الحرارة واختبارات الأجواء، كما أنها تذكرنا بما فعله الطبيب الرازي في اختيار موقع البيمارستان العضدي في بغداد [3].

أكثرت الدولة الزنكية من بناء الحمامات العامة ودور الوضوء، لذلك تميزت مدن الشام بنظافتها وترتيبها ونظامها

وكذلك أنشأ نور الدين محمود البيمارستان النوري في دمشق الذي عُدَّ من عجائب الحضارة الطبية في الإسلام؛ ومما يُدلل على ذلك أن هذا البيمارستان ظل يعمل حتى عام (1317هـ=1899م)، وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن 20 رجلاً، حتى قامت بلدية دمشق بإنشاء مستشفى للغرباء في الجانب الغربي من التكيَّة السليمانية المطّلة على المرج الأخضر، وجمعت له إعانات وأخذ مبلغ من واردات البلدية وأوقاف المستشفى النوري، واحتفل في 15 من ذي القعدة 1317هـ بافتتاح المستشفى الجديد [4].

ولقد استثمرت الدولة الزنكية المياه الموجودة في المدن الكبرى كحلب ودمشق والموصل بتوزيع هذه المياه على الحمامات العامة، بل وأكثرت من بناء الحمَّامات العامة ودور الوضوء؛ خدمةً للعامة ونظافة للبيئة، لذلك تميزت مدن الشام بكثرتها وترتيبها ونظامها، وقد وصف «ابن جبير الأندلسي» دمشق أثناء رحلته في عام 579هـ بقوله؛

وبهذه البلدة أيضًا قرب مائة حمام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين دارًا للوضوء يجري الماء فيها كلّها، وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ لأن المرافق بها كثيرة وأسواق هذه البلدة من أفضل أسواق البلاد وأحسنها انتظامًا، وأبدعها وصفًا ولا سيما قيسارياتها، وهي مرتفعة كأنها الفنادق مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور[5].

وامتازت أقاليم الدولة النورية بخصوبة التربة بصفة عامة وتوافر مصادر الري، سواء من الأنهار أو الأمطار أو الينابيع والآبار، وحرصت الدولة على تشييد شبكة محكمة من القنوات لإيصال مياه الأنهار إلى المناطق المزروعة، وقد أنتج القطاع الفلاحي العديد من المحاصيل الزراعية التي دخل بعضها في نطاق التصنيع مثل القطن، وقصب السكر، والسمسم، والزيتون وغيرها [6].

وفي عهد «صلاح الدين الأيوبي» اهتمت الدولة بكل ما من شأنه تحسين الأوضاع البيئية، وتنمية الثروات، فقد وصف الرحَّالة «ناصر خسرو» مدينة طرابلس الشام في عهد صلاح الدين بقوله:

إنها بلد جميل، حوله المزارع والبساتين، وكثير من قصب السكر، وأشجار النارنج والموز والليمون، وبها مغازل ذات أربع طبقات أو خمس أو ست، وشوارعها وأسواقها جميلة نظيفة، حتى لتظن أن كل سوقٍ قصر مزيَّن، وفي وسط المدينة جامع عظيم، نظيف جميل النقش حصين، وفي ساحته قبة كبيرة تحتها حوض من الرخام في وسطه فوارة من النحاس الأصفر، وفي السوق مشرعة[7] ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير، يأخذ منه الناس حاجتهم.

وقد اهتم صلاح الدين باستثمار المياه الموجودة في أغلب المناطق الواقعة تحت حكمه؛ ففي مصر أكثرَ من شق القنوات، وتطهير مياه النيل، وحينما بنى قلعة الجبل كانت مياه النيل العذبة تصل إليها عن طريق قناة على ظهر السور الممتد من الفسطاط، وكانت هذه القناة هي المصدر الخاص بالمياه في الظروف العادية، ويتم رفع المياه إليها بواسطة سواقي.

وقد حرص صلاح الدين على تنفيذ مصدر آخر للمياه يسد احتياجات القلعة في الظروف الاستثنائية عند حصارها، وكان هذا المصدر هو «بئر يوسف» الذي يتخذ شكلاً حلزونيًّا، وقد حفرت البئر في الصخر على عمق حوالي تسعين مترًا، وينزل إليها بثلاثين درجة، وتتكون من طابقين لكل منهما ساقية ترفع المياه منها بواسطة الدواب المخصص لها منحدر لتسهيل النزول والصعود، ويبلغ عمق الطابق الأول 50 مترًا، وعمق البئر السفلي 40 مترًا.

كما اهتم صلاح الدين بالصحة العامة، والقضاء على الأمراض والأوبئة المنتشرة في عصره؛ فأكثر من بناء المستشفيات: كالبيمارستان الناصري في القاهرة، حيث اختار أحد القصور الفخمة وحوّله إلى مستشفى ضخم كبير، وانتقى في اختياره ذاك قصرًا بعيدًا عن الضوضاء؛ قال القاضي الفاضل في متجددات سنة (577هـ=1181م):

أمر السلطانُ صلاح الدين يوسف بن أيوب بفتح مارستان للمرضى والضعفاء فاختير مكانًا بالقصر، وأفرد برسم من جملة الرّباع الديوانية، مشاهرة مبلغها مائتا دينار وغلاَّت جهتها الفيوم، واستخدم له أطباء وكحَّالين وجرائحيين وشارفًا وعاملاً وخدّامًا، ووجد الناس به رفقًا وبه نفعًا[8]، وانتشرت هذه البيمارستانات في المدن الإسلامية الأخرى: كالإسكندرية والقدس وعكا ودمشق.

وقد اهتمت الدولة بمؤسسة الحسبة، وظهرت العديد من المؤلفات الناجعة التي ترسم الملامح العامة لوظيفة المحتسب، كما تضع الضوابط المهمة لحركة المجتمع الإسلامي، بما في ذلك نظافة البيئة، وحمايتها من الأوبئة؛ فهذا «عبد الرحمن الشيزري» (ت 590هـ) -أحد الفقهاء والعلماء المقربين من السلطان صلاح الدين- يتحدث عن الحمامات العامة والأسواق والتعاملات الإنسانية من منظور النظافة في كتابه المهم «نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة»؛ فيقول عن نظافة الحمامات:

وينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل الحمَّام وكنسها وتنظيفها بالماء الطَّاهر، غير ماء الغسَّالة، يفعلون ذلك مرارًا في اليوم، ويدلِّكون البلاط بالأشياء الخشنة؛ لئلاَّ يتعلَّق به السِّدر والخطميُّ والصَّابون، فتزلق أرجل النَّاس عليها، ويغسلون الخزانة من الأوساخ المجتمعة في مجاريها، والعكر الرَّاكد في أسفلها في كلِّ شهرٍ مرَّةً؛ لأنَّها إن تركت أكثر من ذلك تغيَّر الماء فيها في الطَّعم والرَّائحة. وإذا أراد القيِّم الصُّعود إلى الخزانة لفتح الماء إلى الأحواض، فينبغي أن يغسل رجليه بالماء ثمَّ يصعد؛ لئلاَّ يكون قد خاض في الغسَّالات، ولا يسدُّ الأنابيب بشعر المشَّاطة، بل يسدُّها باللِّيف والخرق الطَّاهرة، ليخرج من الخلاف، ويشعل فيها البخور في كلِّ يومٍ مرَّتين، سيَّما إذا شرع في غسلها وكنسها، ومتى بردت الحمَّام، فينبغي أن يبخِّرها القيم بالخزامى، فإنَّ دخانها يحمِّي هواءها، ويطيِّب رائحتها. ولا يحبس ماء الغسَّالات في مسيل الحمَّام؛ لئلاَّ تفوح رائحتها، ولا يدع الأساكفة وغيرهم يصبغون الجلود في الحمَّام، فإنَّ النَّاس يتضرَّرون برائحة الدِّباغة؛ ولا يجوز أن يدخل المجذوم والأبرص إلى الحمَّام. وينبغي أن يكون للحمَّاميِّ ميازر يؤجِّرها للنَّاس، أو يعيرها لهم، فإنَّ الغرباء والضُّعفاء قد يحتاجون إلى ذلك”[9].

ويُعدّ هذا النص المهم من الشيزري المتوفى منذ 850 عامًا دليلاً على أولية قضية الوقاية عند المسلمين، وإفراد مؤسسة خاصة بها، والحق أن دراسة مؤلفات الحسبة في تاريخ التراث الإسلامي جديرة بالنظر؛ إذ تكشف كيف نظر المسلمون إلى أنفسهم، وكيف كانت كرامتهم وصحتهم وتعليمهم وثقافتهم أرفع وأرقى!

المراجع
  1. قصة الحضارة 13/ 189، 190.
  2. إبراهيم بن محمد المزيني: الحياة العلمية في العهد الزنكي ص412
  3. ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب
  4. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات ص213.
  5. ابن جبير: رحلة ابن جبير ص235، 236.
  6. محمد مؤنس: فن الصراع الإسلامي الصليبي السياسة الخارجية للدولة النورية ص43
  7. مورد الشاربة من الماء.
  8. عبد الله عبد الرازق: المستشفيات الإسلامية ص236.
  9. الشيزري: نهاية الرتبة ص79.