ليلة ثقيلة مروعة عاشها سكان مدينة غزة الفلسطينية، السماء تحولت لمصدر نيران، المنازل انهارت فوق الرؤوس، والأرض أٌميدت تحت الأقدام. مشهد اعتاده «جواد الحرازين» على مدار السنوات القليلة الماضية، فسرعان ما عزم أمره رفقة أسرته لمغادرة حيهم المُتاخم لمخيم جباليا شمالي القطاع؛ باحثين عن ملاذٍ آمنٍ؛ علّه يقيهم الصواريخ الإسرائيلية التي تحتل سماء غزة منذ أربعة أيام.

قبل ثلاثة أيام استيقظ «جواد» لتوه صباحًا كل شيء في القطاع يبدو اعتياديًا، حتى سمع صليل رصاص لم يعرف موقعه، إلى أن تابع الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي «فجأة الصور والفيديوهات عبّت تويتر للفصائل وهي في قلب المستوطنات الإسرائيلية.. ماكنت مصدق حالي.. قولت يمكن متفبركة»، لكن الخبر أصبح حقيقة في غزة برمتها.

العالم في صدمة لما رآه

مشاهد غير مألوفة وأحداث مباغتة، فاجأت العالم برمته، لاقتحام الفصائل الفلسطينية لعديد من المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، عن طريق عملية عُرفت بـ«طوفان الأقصى»، حيث قاموا بقتل وأسر مئات من الإسرائيليين «كنا كتير مبسوطين»، غير أن سعادة الشاب العشريني شابها الكثير من القلق والتوتر «إحنا بنعرف أن الإسرائيلي كان بده يرد بعنف أكبر هذه المرة»، إلاّ أن أسرته آثرت البقاء بمنزلهم الذي افترشته الشقوق من جانب، بفعل الهجمات الإسرائيلية السابقة على القطاع.

تطورت الأحداث سريعًا، أوغلت الفصائل الفلسطينية داخل المستوطنات الإسرائيلية، ارتفع عدد القتلى وكذا المصابون، فهبت الحكومة الإسرائيلية تتوعد الفلسطينيين، وتعلن حالة الحرب في «تل أبيب». تأكدت مخاوف جواد. خصوصًا بقصف أحياء غزة «نحنا عنا 20 طفل في عيلتي.. ماكنت فكر غير فيهم»، فأخذ يُلح على والديه لترك منزلهم «كان بدنا نروح حي الرمال.. كان آمن كتير سابقًا»، استقر الرأي على التفرق على مناطق عدة «حتى ما نموت سويًا.. كل حدا فينا راح مكان عند أصحابنا وأقاربنا».

إلى حي الرمال بوسط غزة، توجه «جواد» بمفرده، تاركًا أسرته وأطفالهم في أماكن أخرى. ظن أنه بمأمن عن كل ما يحدث، حتى خيم ليل الإثنين؛ فتحلقت الطائرات الإسرائيلية في السماء، فما هي إلاّ دقائق حتى تحول الحي إلى رماد صباح الثلاثاء «كتير ناس ماتوا وانجرحوا»، غير أن الشاب فرّ بحياته هذه المرة «ما بعرف إذا ممكن أنجو المرة الجاية.. لكن إحنا باقين لهلا».

غزة تحت الحصار

على القاعدة نفسها، يساير «محمد الجادوم» أيامه الثقيلة في شرق غزة. يحسب الساعات يومًا حتى تأتيهم الكهرباء في منطقتهم، بعدما انقطعت المياه نهائيًا «الكهرباء انقطعت منذ 28 ساعة بالضبط، ولا نعلم هل ستأتي أم لا، ونعتمد على الآبار للحصول على المياه»، واقع ازداد قتامة، عقب القرار الذي اتخذه جيش الاحتلال بقطع الكهرباء والمياه والوقود عن القطاع «نحنا محاصرين من سنين.. مافي إيشي جديد».

دروس علمته الحرب للجادوم، حتى وإن انقطعت كل وسائل الاتصال بالعالم عنه، مثلما يحدث في الوقت الراهن «ما في إنترنت منذ أيام.. نعتمد على الباقات الخاصة»، لكن ذلك لن يدوم أيضًا «شحن الهواتف بينتهي كمان وحتى بطاريات الكهربا أوشكت على النفاد»، مأساة أخرى يعيشها «الجادوم» وجميع سكان منطقته بغزة، زاد من وطأتها قلة السلع الغذائية وارتفاع أسعارها «يعني السلع إذا لاقيناها بيكون سعرها زاد النص تقريبًا».

لا يقض مضجع الشاب الثلاثيني سوى أطفاله وأطفال إخوته الذي يسارع للسيطرة على مخاوفهم من خلال ملاعبتهم، لإشغالهم عن أصوات الانفجارات العالية «الأصوات بترعب الأطفال.. ما في غير حضن أمهاتهم اللي بتأويهم»، لتبقى الأيام المقبلة أكثر قلقًا وسط القتل الذي يحاصر سكان القطاع من كل اتجاه «السلع قليلة لكن موجودة.. الأيام الجاية ماحدا بيعرف شو ممكن يصير».

رام الله.. القدس: ماذا يجري هناك؟

المخاوف عابرة لحدود غزة، هذه المرة في مدينة «رام الله»، حيث تعيش «فداء البرغوثي» ما بين براثن الترقب مما يحدث والقلق على أبنائها الأربعة الذين يتابعون ما يحدث بمزيد من الحماس والتحفز «أنا فلسطينية مواطنة وأم.. هذه الهويات الثلاثة تتصارع داخلي لحماية أبنائي»، وفي سبيل ذلك تحرص فداء على منع أبنائها من الخروج إلى الشوارع «بسبب خطورة التنقل بين القرى والمدن.. قوات الاحتلال والمستوطنين بالمرصاد لإلنا»، ساعدها في ذلك إغلاق الجامعات والمدارس هناك، عقب الإضراب الذي دخل فيه الفلسطينيون دعمًا لعملية «طوفان الأقصى».

مخاوف تنهش قلب الأم الفلسطينية، في ظل تصاعد الأحداث في فلسطين برمتها، زاد من الأمر وجود ابنتها عالقة في معبر الكرامة بالأردن «بتدرس بالأردن، وبعد ما الاحتلال قفل المعبر ضلت عالقة هناك»، لا يبقى للأم سوى أن تظل على تواصل مع ابنتها، تتابع تحركاتها، تنصحها بالوجود في مكان آمن، في الوقت الذي لا تعلم إن كانت هي نفسها وبقية أبنائها بمكان آمن أم لا «نحنا مستعدين لكل الاحتمالات.. ومهما يحصل ما راح يصير غير اللي ربنا كاتبه لإلنا».

من أمام الشاشات تتابع السيدة الأربعينية ما يحدث في غزة وباقي المستوطنات الإسرائيلية، بعدما امتنعت عن الذهاب لعملها. يتملكها إحساس بالزهو مما يحدث، لكن يطغى عليه إحساسٌ آخر بالانكسار مما يحدث في غزة، من دمار وقتل للنساء والأطفال، بينما تضع أبناءها ومصائرهم نصب عينيها «يمكن احنا وصلنا لمرحلة ما عاد فيها نتوقع الأحداث، وهاد بأثر على استقرارك النفسي».

القلق نفسه ينتاب «سامي الرجبي» في قرية «أبو قوش» بمدينة القدس؛ حيث لم يراوح منزله منذ أربعة أيام «بعمل في محل سمك، ما بفتحه لأن الوضع متوتر في الشمال فما بقي تجي بضاعة من هناك»، فرحة ممزوجة بتوتر كبير يتملك الرجل الأربعيني «كتير فرحانين بنتائج عملية طوفان الأقصى، لكن بالوقت نفسه نحنا معرضين لأي استهداف من الاحتلال أو المستوطنين كوننا عرب».

يقتصر وجود «الرجبي» وأبنائه على الشوارع التي يسكنها العرب بالقدس، لقضاء أهم حوائجهم «ما بدنا نحتك فيهم، لأنهم غضبانين جدًا حاليًا»، يتابع الأخبار لحظة بلحظة، يحسب الخسائر هنا وهناك، ويُمني نفسه بالنصر، علّه يسهم في الإفراج عن شقيقه الذي يقبع في سجون الاحتلال منذ أشهر «حٌكم عليه بالسجن 15 شهرًا لأنه حصل مشادة بينه وبين جندي من جيشهم».

مدن مختلفة يعيش بها الفلسطينيون الأربعة، يتابعون هجمات الفصائل الفلسطينية غير المألوفة والقصف الإسرائيلي على غزة، لكن إحساس النصر يتملكهم جميعًا، يرونه قريبًا، يمنون أنفسهم يوميًا به؛ علّه يسهم في تغيير ولو جزء من واقعهم «الموت جاي جاي ماحدا، هيضله عايش.. لكن بدنا نموت بشرف وكرامة».