لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل..

أحد الأحاديث المنسوبة للنبي والتي تحذر من اقتناء الكلب، ولكن في المقابل هناك حديث آخر يبين أن رجلًا دخل الجنة لأنه سقى كلبًا، حسبما جاء في البخاري ومسلم.

خلاف كبير بين الفقهاء وتضارب في الفتاوى حول جواز اقتناء الكلب، وبين كونه طاهرًا أو نجسًا، لكن بعيدًا عن هذا الجدل الشائع والمستمر دائمًا بين الفقهاء التقليديين نجد الصوفية المسلمين يتعاملون مع الكلب بطريقة أخرى، فهو بالنسبة إلى بعضهم مصدر إلهام، بل إن هذا الكلب قد يكون وليًّا من أولياء الله، ويلبس خرقة التصوف، بل يدفن في قبر، وقد يصبح هذا القبر مزارًا.

قصص كثيرة تعكس تصورات غير تقليدية عن الكلاب في بطون كتب التصوف، نقدم بعضها في هذا المقال، مع محاولة لتفسير دوافع هذه التصورات.

الكلاب تعلم البشر الأخلاق الحميدة

استخدم الصوفية سلوك الكلاب لضرب المثل بهم، وتعليم البشر الأخلاق الحميدة من خلالها، ومنهم أبو حامد الغزالي في كتابه الأشهر «إحياء علوم الدين»، حيث جاء في أحد فصول الكتاب تحت عنوان «بيان الإيثار وفضله» حكاية يرويها عن بعض الصوفية أنهم كانوا بمدينة طرسوس السورية، وخرجوا إلى باب الجهاد، فتبعهم كلب من البلد، فلما بلغوا ظاهر الباب وجدوا حيوانًا ميتًا، فلما رأى الكلب الحيوان الميت رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه حوالي عشرين كلبًا.

بعد أن وصلوا جلس الكلب بعيدًا وترك رفاقه من الكلاب يأكلون الحيوان الميت وهو ينظر إليهم، وبعد أن انتهت الكلاب من الأكل ذهب الكلب الذي كان قد دعاهم وأكل ما تبقى من زملائه، ثم انصرف.

هنا يُبيِّن الغزالي كيف أن الكلب قطع مسافة طويلة ليحضر زملاءه ليشاركوه طعامه، بل آثرهم على نفسه ولم يأكل إلا بعد اطمئنانه أنهم شبعوا، ضاربًا المثل بذلك على فضيلة الإيثار.

وفي كتابه «الوحيد في سلوك أهل التوحيد»، يمدح الصوفي المصري ابن نوح القوصي (توفي 1308هـ) الكلاب، ويقول إن لديها من الوفاء والمحافظة ما يُخجِل الآدميين.

 

ثم يسرد حكاية مفادها أن تاجرًا كان يُلبِس كلبه رداءً من الحرير، ويُجلسه بجانبه على نفس الطراحة التي يجلس عليها، فسُئل الرجل عن مكانة الكلب التي جعلت صاحبه يعامله بهذا الشكل. فقال إنه تزوج من ابنة عمه، وسباها المغول، فذهب إلى معسكرهم ليهربها، وبالفعل نجح في ذلك، ولكن جنديا مغوليا تبعه، واتضح أن زوجته أحبت هذا المغولي، وحرضته على قتل زوجها، ولم ينقذه من القتل إلا كلبه الذي هجم على الجندي، وساعده على قتل المغولي وزوجته الخائنة.

بعض الكلاب أولياء مُقرَّبة من الله

ينقل ابن نوح عن أستاذه عبد العزيز المنوفي أنه في مرة رأى كلبًا يعض كلبًا آخر، فالتفت له الكلب المعضوض وقال (للكلب الآخر): اتق الله تعالى!

وعن المنوفي أيضًا ما يفيد أن الكلاب تفهم الأولياء وتتصل بهم، حيث يحكي أن كلبًا وقف بجوار مجموعة من الناس وكان المنوفي منهم، فحاولوا طرده فلم يمشِ، إلا بعد أن (زَيَّق) أحد الزهاد الذي كان حاضرًا، وبعدها قال للكلب: رُح، فجرى الكلب!

والتزييق شعيرة صوفية كانت شائعة في القرون الوسطى، حيث يجلس الصوفي في وضعية معينة، ويمارس طقسًا تعبديًّا، من خلاله يتصل بالسر الأعظم، ويدخل في حال روحاني معروف لديهم.

كما ينقل الصوفي الشهير عبد الوهاب الشعراني في «الطبقات الكبرى» – وجاءت نفس القصة في مصادر أخرى مثل «جامع كرامات الأولياء» للنبهاني – عن الولي المصري الشهير عبد الرحيم القنائي، أنه رأى كلبًا فوقف له، تبجيلًا واحترامًا، فقال له من كانوا معه باستنكار: أتقوم للكلب؟ فقال لهم إن هذا الكلب يرتدي خرقة التصوف، وقد قام له إجلالًا للخرقة الصوف التي لا يرتديها إلا الأولياء!

ويحكي الشعراني أيضًا أن الشيخ يوسف العجمي الكوراني، كان له خلوة وسط المقابر (القرافة) في القاهرة، وهذه الخلوة كانت تكسبه قوة روحانية عظيمة، حتى إن عينيه كانت مثل الجمر المتقد، فلا تقع على شيء إلا انقلب ذهبًا خالصًا، حتى وقعت عيناه على كلب فأصبح الكلب وليًّا بعدها!

فبعد نظرة الكوراني إلى الكلب انقادت إليه جميع الكلاب وصار الناس يهرعون إليه في قضاء حوائجهم، فلما مرض الكلب اجتمعت حوله الكلاب يبكون ويظهرون الحزن عليه، فلما مات زاد عويلهم، و«ألهم الله تعالى بعض الناس فدفنوه، فكانت الكلاب تزور قبره (الكلب) حتى ماتوا».

قصة شبيهة بذلك تنسب إلى نجم الدين كبرى، الصوفي الفارسي المعروف، صاحب «فواتح الجمال وفواتح الجلال»، الشهير بلقب «صانع الأولياء»، والذي اشتهر بأنه كان باستطاعته أن ينظر إلى شخص فيحوله إلى وليٍّ.

ونفس الأمر فعله كبرى مع كلب، نظر إليه فانقلب وليًّا، وبعدها التفت الكلاب حوله واتبعوه، وحين مات الكلب، بنى له (كبرى) ضريحًا وأصبح مزارًا للصوفية.

 ويحكي الشعراني أيضًا عن أبي الخير الكليباتي، الولي، صاحب الزاوية الشهيرة في شارع المعز بالقاهرة، أنه كان يمشي ومعه كلاب، وكانت هذه الكلاب تقضي حوائج الناس، تمامًا كالأولياء الذين يدعون للناس فتقضى حاجاتهم.

وكان الكليباتي يأمر صاحب الحاجة أن يحضر رطلًا من اللحمة للكلب الذي سيقضي له حاجته.

وكان الكليباتي يدخل المسجد بالكلاب، فاعترض بعض القضاة على ذلك، فرد عليهم متهكمًا: هؤلاء لا يحكمون باطلًا ولا يشهدون زورًا.

 

كيف تعامل الصوفية مع النصوص الدينية الخاصة بالكلاب؟

القرآن هو الكتاب المقدس الذي ليس على نصوصه خلاف بين المسلمين، وإن اختلفوا في تفسير هذه النصوص، على خلاف الأحاديث المنسوبة للنبي، والتي يدب الخلاف كثيرًا على صحة نصوصها.

وفي القرآن أكثر من آية تتعلق بالكلاب قدم الصوفية لها تفسيرات إيجابية جدًّا لصالح الكلاب؛ وأشهرها آيات سورة الكهف:

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ، وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، و«َكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا. (الآية 18)
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا. (الآية 22).

وفي تفسير الإمام القشيري لآيات الكهف، يقول إن الله: «كما ذكرهم ذكر كلبهم»، لأن «من صدق في محبة أحد أحبَّ من انتسب إليه وما ينسب إليه»، أي إن هذا الكلب محبوب من الله.

كما ذكر الصوفي اللامع ما يفيد بأن هذا الكلب كان له كرامة عند الله، حيث أوضح أن أصحاب الكهف ضربوا الكلب، فنطق الكلب وقال: لمَ تضربونني؟ فردوا: لتنصرف عنا. فقال الكلب: لا يمكنني أن أنصرف.. لأنه ربَّاني (يقصد الكلب صاحبه الراعي الذي صحب أهل الكهف).

كذلك يذكر القشيري أن الكلب حين رفض الانصراف وأصر على أن يتبعهم، قرروا أن يحملوه حتى لا يستدل عليهم بآثار أقدامه، ويعلق القشيري: «صاروا في الانتهاء مطاياه.. كذا من اقتفى أثر الأحباب». أي إن إصرار الكلب على المحبة جعل من كانوا يضيقون به ركائب له؛ كمكافأة على حبه.

وفي تفسير الصوفي المغربي ابن عجيبة (ت 1224 هـ – 1809 م) تأكيد على نطق الكلب، وإن كان بصيغة أخرى، حيث قال الكلب حين أرادوا أن يطردوه: يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي؛ فإني أُحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم.

ثم يأخذنا ابن عجيبة إلى نقطة أبعد من ذلك بكثير، حيث أورد: «وقيل: هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم على دينهم». أي إن الكلب اعتنق دين أهل الكهف لما مروا به.

أما آية سورة الأعراف، رقم 176:

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث، ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

فالمتفق عليه هنا أن الهدف من وصف «إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث» ليس تحقير الكلب أو تحقير الكافرين كبشر، وإنما بيان أن الكلاب لا تكترث بشيء ولا تغير طبعها لأجل أحد، ففي كل الأحوال هي تلهث لأن هذه طبيعتها الجسمانية، وكذلك الكفار لا يبالون ولا يكترثون بالإسلام في كل الحالات لأن هذا طبعهم.

أما بالنسبة لحديث «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب»، فقد حاول البعض الالتفاف على معناه الظاهر وتقديم تفسير روحاني له، لا يحقر أبدًا من الكلب، حيث أورد الغزالي في «مشكاة الأنوار» أن البعض يفسر الحديث على أن المقصود هو «النفس السبعية الكلبية» التي من طبعها الشراسة والغضب، وليس الكلب نفسه.

فالمقصود هو تخلية «بيت القلب عن كلب الغضب، لأنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة، إذ الغضب غول العقل».