الحب، الموت، الجنس، التضحية، القتل، المواد الإباحيّة، الجسد المثير، الإرادة، قد لا نتوقع أن هذه الكلمات هي المباحث الرئيسيّة لكتاب يتناول الليبرالية. عوضًا عنها، قد يتوقع المرء كلمات مثل: العدل، المساواة، الإنصاف، تقسيم الحصص، المجال العام، النزاهة، المنطق، الخصوصية، التسامح! وهذه هي مشكلة النظرية الليبرالية، حسب «بول دبليو كاهن Paul W. Kahn»، في كتابه المدهش «وضع الليبراليّة في سياقها الصحيح Putting liberalism in its place».

بالنسبة لليبرالية، يرى «كاهن»، أنها «فلسفة سياسية لعالم بلا حب» (ص141). يهدف «كاهن»، انطلاقًا مِن هذا التعريف، إلى إعادة الحب والتضحية إلى نِصَابهم الصحيح في حيواتنا السياسية، بالمثل إعادة وضع الليبرالية في سياقها المناسب، كتابعة ومرؤوسة! عمومًا، فإنّ الكتاب قد نجح بشكل مثير للإعجاب في تلك المهام. فالكتاب يقدم تحديًا كبيرًا ليس أمام مضمون النظريّة الليبرالية فحسب، بل أمام الخيال الليبرالي أيضًا.


الليبراليون كمحبين حمقى

يقسم «كاهن» الليبرالية إلى قسمين رئيسيين، الأول والأكبر نقديّ، الثاني استدلاليّ، وكلا القسمين مكون من ثلاث أجزاء. يستخدم «كاهن» النقاش الليبرالي المجتمعي لتأطير الأجزاء النقديّة. حيث أن النقاش قد وقف عند معضلة لا يمكن معالجتها دون الرجوع للمفاهيم التي يسوقها «كاهن».

فالليبراليون يتجردون من السياق التاريخي ويسعون لتأسيس نظام أخلاقي جديد مبني على العقلانية. أما الاجتماعيون فيربطون بين الهوية وعالم اجتماعي، ويسعون لمَرْكَزته على أسس التواريخ الجماعية collective histories. ومع ذلك، يرى «كاهن»، أنَّ كلا التوجهين لا يستطيع إدراك تجارب كالتضحية الجماعية والوفاء والتي يؤسس لها مجتمع سياسي بعينه كدعامة بين أعضائه. فتلك التجارب هي ما سبق وشكلت التاريخ المجتمعي والتجرد الليبرالي: فكلا من الليبرالية والجماعانية «تفشلا في اللحظة التي تبدأ فيها السياسة» (ص61).

لسد تلك الثغرة، يعطي «كاهن» نبذة عن أصل الليبرالية الأمريكية وفصلها كتجربة سياسية. هذه النبذة رغم أنها دسمة ومعقدة إلا أن كاهن يحاول تقدميها في أقل من 50 صفحة، يروي في تلك الصفحات تاريخ الليبرالية السياسية الأمريكية في ظل الشد والجذب بين نوعين من التجارب الليبرالية: واحدة تركز على حرية الفكر والخطابة العامة (حرية التعبير)، والأخرى تؤكد على الحرية المطلقة للمعتقدات الدينية (حرية الاعتقاد).

مِن الصعب جدًا اختزال الاثنين بالحديث عنهما هنا، لكنّ هدف «كاهن» جليّ بما يكفي. يريد أن يوضح أنه بالرغم من أن الليبرالية تبدو عالمية السياق وأنها تسعى لتأسيس أخوة عالمية على أساس العقل، إلا أن تبني الليبرالية كتوجه سياسي لا يمكن فهمه إلا مِن خلال تضحيات سياسية معينة مستمرة مثل القتال والقتل والموت، تلك التضحيات هي ما جعلت ولا زالت تجعل الممارسات الليبرالية مُستحِقة للحب والإيمان. مِن ثمَّ، يكتب كاهن، «نحتاج من الليبرالية أكثر مما تعنيه الليبرالية» (ص111).

ما نحتاجه هو مقاومات حياة ذات معنى، الليبرالية في حد ذاتها لا تستطيع أن توفر هذه المقاومات، يدّعي كاهن، لأنها تفصل الرغبة عن الأخلاق. ذلك لأن الخطاب الليبرالي يشجع بشكل متواصل على عقلنة كافة نواحي الحياة. فلا حدود أمام تمتد هذه العقلنة، مِن ثمَّ، فملكة «العقل النقدي التي لا تهدأ» تستمر في الضغط حتى تُحدِث انشطارا حادا بين العقل العملي الخالص وتلك الوشوشة الخاصة الصامتة التي يوعز لنا به الجسد.

وهكذا، يصبح العقل والمصلحة هم الأداتان الوحيدتان المتاحتان لنا في البنية الليبرالية لاتخاذ قرارات ذات مغزى – وهذا لا يكاد حتى يكفي لتشييد حياة ذات معنى. فلا احترام الوازع الأخلاقي بمفرده ولا احترام رغبات الجسد بمفردها يستطيع تأسيس علاقة ذات طابع أخلاقي. فلابد أن يكون هناك ما هو أكثر مِن مجرد «حياة مسلية».


قوة الحب

يسعى الليبراليون لتأسيس نظام أخلاقي جديد مبني علي العقلانية، أما الاجتماعيون فيربطون بين الهوية وعالم اجتماعي
يرى «كاهن» أن الحب هو ما يرسي قواعد النظام العام، علي خلاف ما تدعيه الليبرالية من أنه مجرد شأن خاص

الشيء الذي يقصده كاهن بـ«ما هو أكثر مِن مجرد حياة مسلية»، هو الحب. والحب، خلافًا لما تدعيه الليبرالية، ليس مجرد شأن خاص. يرى كاهن أن الحب «هو ما يرسي قواعد النظام العام» (ص141). يهدف ما تبقى مِن الكتاب إلى رأب الصدع بين تلك الإشكاليّات المتعلقة بالحب، المعنى والسياسة.

يدافع كاهن عن ادعاءين مرتبطين ببعضهما البعض لكن لا أحد يلاحظهما: الأول، الاشتهاء الجنسي (ما يُعرِّفه كاهن بـ«الرغبة») والذي يعالج «أزمة المعنى» المذكورة سالفًا، الثاني، أن الانتباه لمدى قوة الحب يوضح العناصر التي تفتقر لها التجارب السياسية والتي تغفل عنها النظرية الليبرالية.

بالنسبة لكاهن، فقد وضع التراث الغربي ثلاث مصادر أساسية للمعنى السياسي: العقل، والمصلحة، والإرادة. وكل واحد من تلك المصادر يشير لأفق مختلف من المعنى المطلق: العقل لأفق العدالة في محيطها العالمي، المصلحة لإشباع وتنظيم الرغبات المُلحة، والإرادة نحو تاريخ جليّ لمجتمع ذا نظام طائفي. ومع ذلك، فإن النظرية الليبرالية منغمسة تماما في أفق الإرادة في السياسة، حيث تطمس تمامًا تواريخ معينة لصالح مستقبل أخلاقي، و«وضع إبتدائيّ» ما قبل اجتماعي خيالي.

ومع ذلك، وبالنظر لأفق الإرادة، فإن الحياة السياسية تعتمد دائمًا على فعل إلهامي ما يعبر عن هوية المجتمع. في عصرنا هذا، هذا الفعل هو الثورة. والثورة ليست مجرد نتيجة لتطبيق مجموعة من المعايير المجردة بشكل صحيح. الثورة، عوضًا عن ذلك، تندلع من عمق العالم الحالي مؤسسة لنظام رمزي جديد. وبقدر ما تشوش الليبرالية على هذه الأفق المعبر والثوري في السياسة الحديثة، سيستمر النظر لمطالب مثل التضحية الجماعية، الولاء لرموز الثورة (الدستور، إعلان الاستقلال، وما إلى ذلك) على أنها لا عقلانية عفا عليها الزمن.

لذلك، قد يكون طرح كاهن تلقى دعمًا قويًا بالطرح الحديث الذي قدمته النظرية الاجتماعية والسياسية في الثقافة السياسية. فطرح كاهن حول (العقل، والمصلحة، والإرادة) يتوافق تمامًا مع طرح «دانيال العازر» الذي حدد فيه الثقافات الفرعية الثلاث لأمريكا: البروتستانتينية الأخلاقية، التقليدية الجنوبية، والفردانية النصف أطلسية.

في الفترة الأخيرة، تسعى العديد من أفضل الأطروحات في النظرية الاجتماعية والسياسية لفهم الجدال السياسي الأمريكي من زواية تلك الفروع الثقافية. الأكثر من ذلك، أن القلق المتعلق بالدعائم الجنسية لّليبرالية يعتبر حديث نسبيًا حتى عند كُتَّاب الليبرالية الكلاسيكين مثل «مونتسكيو»، كما وضحت «ديانا شَوَب» في كتابها «الليبرالية الجنسية Erotic Liberalism».

يجادل كاهن بأن أكثر الملفات الجنسية أساسية هما ملفا الدولة والأسرة، حيث أن كلاهما يتحرر من أنظمة رمزية أكبر منه.

يكتب كاهن أحيانًا ويكأنه أول مَن يرى طبيعة الليبرالية عديمة الحب، إلا أنه كاهن هناك لبعض الوقت مناقشات عديدة حيوية جرت حول الظروف السياسية والثقافية والعاطفية للممارسات الليبرالية. مهمة كاهن الأخيرة هي أن يوضح كيف تبدو المعضلات السياسية عند تناولها من زاوية الحب. يجادل كاهن، أن أكثر الملفات الجنسية أساسية هما ملفا الدولة والأسرة. ومع ذلك، يهدد الحب بعدم تسييس تلك الملفات: فالغرائز الجنسية تزيد من حالات النشوة المؤقتة –مثل قصص الحب الشخصية الرومانسية الدسمة والمواد الإباحية– فيما وراء الدولة والأسرة. كلاهما يتحرر من أنظمة رمزية أكبر منه.

فقصص الحب الشخصية تجعل الحب خافتًا مقتصرًا على ملكوت آخر، والمواد الإباحية تجرد النشاط الجنسي مِن معناه بحصره في أجساد متصادمة عييّة لا معنى لها. فالدولة تقاوم الإباحية ليس مِن منطلق أن الإباحية «مقززة»، بل أنها شكل من أشكال التمرد السياسي. وفقًا لذلك، ومن منظور جنسي، مهمة السياسة هي تدجين الحب وتوجيه طاقاته إلى التناسل الاجتماعي والأسري.

قد تكون مناقشة كاهن للحب قد تحسنت بالانخراط الواضح في، «ما بعد هاري فرانكفورت» والذي استشهد كاهن به مرة كـ«فرانكفورتي»، الطرح المتنامي حول المسألة في الفلسفة. وبعض المناقشات التي حاولت توضيح ما الذي يعنيه فهم الفشل السياسي وكأنه فشل في الوقوع في الحب، ونفور المرء من حبيبه، سيبدو أنه طرح هام بالنسبة لـكاهن. ستكون مقالة جورج شتاينر عن استياء ما بعد الثورة «في قلعة بلوبيرد» مكان كلاسيكي لطرح مثل تلك القضايا.

يختتم كاهن حديثه بفقرة مخصصة لأسباب «أرسطو» الأربع لاعتماده هيكل السياسة الليبرالية. هذا القسم بديع للغاية، إلا أنه لا يقدم جديد لطرح كاهن السابق، ويخدم بشكل فعال مسعى كاهن في تصوير المشروع بأكمله.

أخيرًا، يتكهن «كاهن» بمستقبل الدولة القومية. حيث يرى أن العولمة والقومية كلاهما يضعف من مشروع الدولة القومية، لكن هناك آفاق لا نهائية من المعنى قائمة وراء المنطق الليبرالي: الملفات العاجلة بين الآباء والأبناء، الأصولية الدينية، والتعددية الثقافية كلها تتفاعل ضد النظام العالمي الجديد للإنترنت. ومع ذلك، فإن أيا مِن هذه، من وجه نظر كاهن، لن يكون بديلا عن الدولة القومية كمصدر نهائي للمعنى.

لكن التكهن بمستقبل بلا هذا المصدر النهائي عقيم، فـكاهن يعلن في جملة أخيرة يشوبها الشك ما يمحو ما عرفه الكِتاب مِن علاقة بين «السياسي»، و«الدولة القومية»، لأنَّ «بقية العالم سيستمروا في استثمار معان مطلقة في بُناهم السياسية. وإذا كاهن الأمر كذلك، فإن عصر الدولة القومية قد يكون على وشك الانتهاء، لكن السياسة مع ذلك لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه» (ص313).

إذا نحينا جانيًا الأسئلة الصعبة عن كيف ستبدو الحياة السياسية بدون الدولة القومية، فإن كتاب «وضع الليبرالية في مسارها الصحيح» يعد نجاحًا حقيقيًا. فالطرح علمي، واضح، قوي وجدير بأن يُقتبس عنه. الأهم من ذلك، أنه يجتاز شوطا كبيرا في النظرية الليبرالية الأكاديمية. ويأمل المرء أن يلقى هذا الشوط الاستجابة التي يستحقها على نفس مستوى القوة والإيروتيكية.


* «بول كاهن»، أستاذ القانون والإنسانيات في كلية القانون بجامعة Yale، وله العديد من الأعمال الهامة منها: وضع الليبرالية في سياقها الصحيح، العنف المقدس، اللاهوت السياسي.