كما لو أن نورمان بيتس بطل «سايكو- psycho» هيتشكوك ضل طريقه إلى أحد أفلام ديزني الخيالية أو أحد ميلودرامات الخمسينيات الملونة؟ هكذا يبدو «بيرل-pearl» تاي ويست لمشاهده، مثل لقاء بين متناقضين، فحكايته القاتمة المربكة تسرد على خلفيات ملونة براقة، كلقاء سايكو هيتشكوك مثلًا مع ساحر أوز لفيكتور فليمنج داخل إطار واحد.

PEARL Mia Goth Photo Credit: Christopher Moss/A24

بيرل الذي يعد أحد الأفلام المميزة جدًا في الموسم السينمائي 2022 تم تجاهله تمامًا في ترشيحات الأوسكار الماضية، لكن ذلك لا يبدو مثيرًا للعجب فتاريخ الأوسكار مع سينما الرعب هو تاريخ طويل من التجاهل. 

بيرل هو في الفيلم الثاني في ثلاثية لم تكتمل بعد، أولها كان (X). اختار ويست أن يحكى كل فيلم عبر جماليات سينمائية مختلفة فبينما (X) يتبع تقاليد أفلام التقطيع أو «Slasher Movies»، بيرل هو أقرب لأفلام دراسة الشخصية (character study movies) حيث يصبح كل شيء تابعًا للشخصية الرئيسية، ويكتسب قيمته من قدرته على إضاءة ملامح الشخصية ورصد الأفكار والمشاعر التي تسيطر عليها.

كل شيء في فيلم بيرل يخدم تقديم بورتريه لسيكولوجيا بيرل/ ميا جوث وعواطفها العنيفة وذروة السرد في الفيلم هو تحول بيرل من الفتاة الحالمة الطفولية والمضطربة إلى وحش مفزع. هذا التناقض بين الشكل والمضمون، بين الحكاية وجمالياتها يناسب تمامًا حالة الفصام التي تستولي على بطلته شيئًا.

تقع أحداث Pearl  قبل 60 عاماً من الفيلم الأول «X» حيث يعود تاي ويست رفقة ميا جوث- التي شاركته هذه المرة في كتابة نص الفيلم- لشخصية بيرل التي ظهرت كمسخ متوحش في فيلمه الأول. نشاهدها هنا في بداية المسار ونرى كيف انزلقت شيئاً فشيئاً نحو هاوية الجنون.

تعيش «بيرل» مع عائلتها بإحدى المزارع الريفية المنعزلة قرب نهاية الحرب العالمية وتفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية. زوجها غائب في الحرب، والدها مقعد ووالدتها شديدة القسوة والصرامة. تهرب من إحباطها وواقعها البائس عبر الحلم، حيث تحلم أن تصير نجمة من نجمات السينما وبخاصة الأفلام الراقصة. بين متاهات هذه الحلم والدروب الملتوية لرغبتها المستحوذة تبدأ في فقدان صلتها بالواقع وينفجر الجنون. ماذا حدث لبيرل إذا وكيف صارت إلى ما صارت إليه؟ من أين ينبع الرعب؟ 

احذروا، هناك فتاة تحلم!

 

في محاضرة له، يستعرض جيل دولوز أفكاره عن السينما عند عدة مخرجين مثل بريسون، وكوراساوا وفينسنت مينيللي. يتحدث دولوز عن فكرة مينيللي المبهرة عن الحلم. مفاد هذه الفكرة هو أن الحلم يخص قبل أي شيء من لا يحلمون.  فحلم الذين يحلمون يخص أيضًا من لا يحلمون.

لكن لماذا يخص من لا يحلمون؟ لأنه بمجرد وجود حلم للآخر فهناك خطر، لأن حلم الآخر هو حلم مفترس من الممكن أن يؤدي إلى التهامنا. عندما يحلم الآخرون فهذا خطر بالغ! حتى وإن كانت أكثر الفتيات لطفًا، لكن كونها حالمة يجعلها ملتهمة وبشعة ليس عن طريق روحها بل عن طريق حلمها.

 ضحايا بيرل الذين شاهدناهم سواء في (X) أو (pearl) هم ضحايا حلمها. ضحايا في البداية لأنهم يشكلون عقبة في طريق الحلم الاستحواذي بالشهرة ثم تاليا لأنها لم تحقق حلمها. قبل أن تقتل عارض الأفلام تصرخ في وجهه: «لن أبقى في هذه المزرعة، لا شيء سيبقيني هنا، لا أنت، لا هواورد، لا أمي أو أبى، لا أحد». هوارد هو زوجها الغائب في الحرب، الذي نعرف من خلال الفيلم أنها أحبته في البداية لأنها رأت  فيه فرصتها للخروج من حياتها البائسة في المزرعة، ثم تكرهه لاحقاً لرغبته في البقاء في المزرعة. نشاهدها تفجره في خيالها لأنه صار عقبة الآن أمام حلمها. لكن مع تداعي حلمها تخرج الفانتازيات العنيفة من رأسها إلى الواقع.

من فيلم Pearl – إخراج تاي ويست

يفتتح ويست فيلمه بمشهديات من حلم بيرل وهي مستغرقة تماماً فيه، ترقص أمام جمهور خفي قبل أن تقتحم أمها عليها غرفتها وتخرجها من الحلم للواقع فتأمرها أن تذهب لإطعام حيوانات المزرعة. أنها غاضبة الآن لكنها لا تظهر ذلك أمام الأم. تواصل انغماسها في الحلم أمام الحيوانات المسماة بأسماء نجوم سينما ذلك الزمن.  يقاطع حلمها  مجدداً ذكر من الإوز فتقوم غاضبة بقتله. أنه غضبها تجاه الأم مزاحاً نحو ذكر الإوز، الذي تقوم بإطعامه لأنثى تمساح تعيش في بحيرة تحيط بالمزرعة تسميها  “ثيدا” على اسم إحدى نجمات السينما آنذاك. يثبت ويست الكادر على ثيدا وهي تلتقم ذكر الإوز ثم يطبع عنوان فيلمه عليها. تقتل بيرل ضحاياها ثم تطعمهم ثيدا فيما يشبه الطقس. تصير ثيدا مجاز حلمها المفترس.

فرويد وعودة المكبوت

من فيلم Pearl – إخراج تاي ويست

تظهر بيرل في (X)  كعجوز تمتلك رغبة جنسية هائلة وخارجة عن السيطرة رغم تقدمها في العمر وذبول جسدها.  تتحول هذه الرغبة إلى غضب قاتل حين تقابل بالرفض. لتفسير ذلك سنعود إلى فرويد الذي تتغذى سينما الرعب على أفكاره. 

يكتب فرويد في كتابه «مدخل إلى التحليل النفسي» أن المشاعر غير المعبر عنها لا تموت أبداً، إنها تدفن حية بداخلك وحين تعود لاحقاً تعود على نحو أكثر قبحاً. هذه الرغبة الجنسية لدى بيرل العجوز وغضبها القاتل هو مكبوت رغبتها في أن تصير محبوبة ومرغوبة وقد وجد طريقه للخارج في فورة العنف والدم. الوحش في سينما الرعب في الغالب هو عودة المكبوت.

حين تلتقي بيرل ماكسين الشخصية الرئيسية في (X) التي تؤديها ميا جوث أيضاً الراغبة في أن تكون نجمة هي الأخرى وكأنها النسخة الشابة ، تحدق  فيها وترغبها جنسياً كما لو كانت ترغب أن تلمس الحلم مرة أخرى.

 تقول بيرل لماكسين: «نحن سواء، أنت أيضاً سينتهي بك الحال مثلي تماماً. لست بريئة ولست مميزة كل شيء سيسلب منك في النهاية مثلما حدث معي». هذه الكلمات هي نفس فحوى ما كانت تقوله الأم لبيرل في شبابها. كأن شبح الأم يتحدث عبرها الآن.

أؤمن دائماً أن في قلب كل فيلم رعب جيد جرح ما ينبع منه فائض العنف والرعب. إذا استطعت أن تضع يدك على هذا الجرح يمكنك أن تفهم جيداً طبيعة وملامح الرعب مهما كان غريباً أو منفراً. الجرح في فيلم تيد ويست هو جرح في قلب بيرل وينبع من علاقتها بأمها.

الأم السيئة وميلاد الوحش

 

التصور الذي ترسمه سينما الرعب للأمومة تصور مظلم، حيث تجسد الأم في هذه الأفلام ما يسمى الأم السيئة أو الأم المتوحشة. واحدة من الموتيفات المتكررة في سينما الرعب أن الطفل المتوحش يولد في الظلال الشائكة للأم السيئة. في أفلام مثل (psycho)، (carrie) وHalloween،  هناك صلة مباشرة بين السلوك العنيف والمتوحش للابن وانحراف أو توحش الأمومة.

تبدو بيرل كشقيقة ثالثة لنورمان بيتس بطل هيتشكوك وكاري بطلة دي بالما. كما لو أن ثلاثتهم نشأوا تحت سقف واحد وارتشفوا من ثدي ذات الأم السيئة. والأم السيئة هو مصطلح صاغه عالم النفس كارل أبراهام، وطورته ميلاني كلاين للتعبير عن تحول الأم بالنسبة للطفل لمصدر للخوف والأذى والدمار.  

تشترك سايكو، كاري وبيرل في غياب الأب والحضور المهيمن والخانق للأم. حضور وحيد ومتسلط للسلطة. يد مفردة تشكل وحدها ملامح طفلها ونظرته لنفسه وتصوره لها. الحضور الخانق يولد في ذات الطفل نزوعات عنيفة ورغبات مشوهة تنفجر في النهاية تحت وطأة ضغط الإساءة والاستغلال النفسي من قبل الأم.

وجود الأم في بيرل هو وجود قمعي متسلط أو خصائي بالمصطلح الفرويدي وجوهر الخصاء هو امتناع الطفل عن التعبير عن حقيقة نفسه ورغباته خوفاً من عقاب الأب. في بيرل الأب المقعد خارج المعادلة بينما الأم بملامحها وطبعها الذكوري هي المهدد.

 

هناك مشهد يبدع فيه ويست باختيار زاوية تصوير معينة لخلق صورة تعكس طبيعة العلام بين بيرل وأمها. تقوم الأم بتقطيع الخشب في مقدمة الكادر بينما تدخل بيرل الكادر من بعيد لتختفي للحظة وراء قطعة الخشب كأنها تصير هي قطعة الخشب التي تهوى الأم بالفأس عليها. 

في واحد من أفضل مشاهد الفيلم تواجه بيرل أمها أخيراً برغبتها في الاشتراك في مسابقة للرقص في الكنيسة. ترفض الأم بانفعال عنيف صارخة بصوت كالنبوءات: إذا أردتي أن ترحلي ارحلي، لكن حين تفشلين وسوف تفشلين، أريدك أن تتذكري جيداً ما ستشعرين به، لأنه نفس ما أشعر به كل مرة أتطلع إليك فيها.

يتصاعد الصراع بينهما الى ذروة عنيفة حتى تشتعل النيران في جسد الأم. وفي مشهد تال بينما تلفظ الأم أنفاسها الأخيرة في قبو البيت كجثة محترقة تخبرها بيرل، أريدك أن تتذكري ما تشعرين به الآن لأنه نفس ما شعرت به في كل مرة نظرت إلي فيها.

من أين ينبع إذا هذا الحلم المستحوذ لدي بيرل بأن تصير نجمة؟ من كراهية الأم أو على الأقل من إحساسها بذلك. حلمها هو دفاعها ضد تصور الأم عنها المزروع داخلها أنها  لا شيء أو  مجرد خيبة أمل. أنها تحاول أن تعوض ذلك الحب لها المنزوع من نظرة الأم  لها وتحلم أن تستعيده في عيون الجمهور.

 

في النهاية وبعد أن فشلت مساعي بيرل سريعاً ورأيناها تتحول إلى قاتلة عنيفة نشاهدها في فانتازيا أخيرة تتخيل فيها أمها تحتضنها وتخبرها أنها تحبها. بعد أن فشل حلمها بعد رحلة قصيرة في أرض الواقع تنكص نحو الفانتازيا لينتهي الفيلم بابتسامة (فصامية) تعلن انفصالها عن الواقع. ابتسامتها الممتدة بطول عناوين النهاية هي محاولة أخيرة لمقاومة واقعها المتفسخ داخلياً وخارجياً. ابتسامة جروتسكية مخيفة أشبه بابتسامة نورمان بيتس في نهاية سايكو.

تحمل ميا جوث عبء الفيلم كله على كاهلها،  لتقدم هنا واحداً من أفضل أداءات العام بلا شك. يمتلك فيلم تاي ويست طاقة إبداعية كبيرة تحركها تحركها محبة نقية للسينما التي يجعلها مرجعية أصيلة لفيلمه. تاي ويست نجم صاعد بقوة في سماء سينما الرعب.