بعد أن أصدر الكاتب المكسيكي «خوان رولفو» المجموعة القصصية «السهل يحترق» في عام 1953، أخذ النقاد يطرحونه للقراء باعتباره أحد سادة الواقعية السحرية، وأحد رموز الأدب المكتوب باللاتينية، خاصة بعد نشر عمله الثاني «بيدرو بارامو» التي قيل إنها واحدة من العلامات الخالدة في تاريخ الأدب، إلى درجة أنها ألهمت كتابًا آخرين كتابة أعمالهم اللاحقة كـ«غابرييل ماركيز».

كانت أعماله الشحيحة سببًا في إثارة القلق في الأوساط الأدبية حول هذا الزهد في الكتابة لدى كاتب بمثل هذه البراعة، ولما سئل عن هذا الأمر قال: «لست كاتبًا محترفًا، أكتب فقط عندما تأتيني الهواية، وإذا لم تأتِ لا أكتب».

تقول الكاتبة الأمريكية «سوزان سونتاغ» في مقدمتها للنسخة الإنجليزية من روايته «بيدرو بارمو»:

إن الجميع كانوا يسألون رولفو عن سبب توقفه عن الكتابة، كما لو أن مهمة الكاتب هي الاستمرار في إنجاز ونشر الكتب. لكن في الواقع إن مهمة الكاتب هي أن ينجز كتابًا عظيمًا يستحق القراءة المرة تلو المرة، وهذا ما قام به رولفو.

عندما سأله أحد الصحفيين في مقابلة: لماذا توقفت عن الكتابة؟ رد ساخرًا: «إنني كنت أتلقى كتاباتي عن أحد أقربائي، وهذا الرجل قد رحل».


التواءات الزمن

في «بيدرو بارامو» كما في قصصه يتنقّل رولفو من زمن إلى آخر عن طريق عدة رُواة دون أن ينبه القارئ، الذي ربما قد يحتاج إلى خارطة لفهم مستويات الزمن في نصوصه المتشعبة، فهو يخلق نوعًا من التباري لدى أزمنة النص مقتبسًا تقنية المونتاج السينيمائي، حيث مزج ثلاثة أزمنة – تظهر بوضوح في النصف الأول من الرواية – وتنقل بينها بسلاسة، دون أن يعيق هذا الأمر التقدم الدرامي للقصة، بل يدفعه ويدفعنا نحن لاستكمال القراءة.

لدى رولفو هذا الحس المرهف في التعاطي مع تراكم الزمن، ففي قصة «الرجل» يخلق زمنين يسابق أحدهما الآخر، فيتفوق هذا مرة وذاك مرة، إلى أن تأتي تلك النقطة التي يمسك فيها أحدهما بالآخر. ففي مطلع القصة نقرأ:

غاصت قدما الرجل في الرمال، تاركة آثارًا غير مطبوعةٍ مثل حافر حيوان.
وبعدها مباشرة يقول «مقتفي الأثر» الذي يتكلم في زمن تالٍ:
قدمان مفلطحان، القدم اليسرى ينقصها الإصبع الغليظ. قليلون من بأقدامهم هذه العلامات، من السهل الاهتداء إلى صاحبهما.

من هنا نظن أن عملية المونتاج في القصة ستتم وفقًا لهذا التتالي الزمني من الأقدم إلى الأحدث، لكن يفاجئنا هو بقلب هذا التتالي رأسًا على عقب بعد ذلك. إنها مسألة ثقة لدى الكاتب، في نفسه وفي قارئه! لأن الأمر يحتاج دومًا إلى ذهن متّقد يتابع بدقة ما يجري.


النص كلذّة

يقول الناقد الأدبي «فرانك كيرمود»:

إن الغموض هو ما يجعل الفن أمرًا مثيرًا.

يبدو أنه لا مكان لأحادية المعنى عند رولفو، حيث يقابلها بالغموض الذي يسمح بتعددية التأويل؛ وهو ما يفتح مجالًا أوسع لدخول القارئ إلى عمق النص، ومن ثم استكمال ما بدأه الكاتب، ومشاركته الكتابة بوصفها تخييلًا مستمرًا لا ينتهي عند حد معين، ومن ثم استدراك القارئ للذة النص العميقة. وتتكفل تقنية الإغفال أو الجبل الجليدي – التي يعد رولفو أحد روادها – بتحقيق هذا النمط من القراءات المتخطية للفكرة الكلاسيكية للعلاقة بين الكاتب والقارئ، باعتبار الأخير مستهلكًا لمادة أنتجها الأول ووجهها إليه.

افتتاحيات خوان رولفو تشير إلى تمكنه من الجبل الجليدي رغم وعورته؛ لأنها في المجمل تضعنا في منتصف الأحداث، وكأننا ضيعنا أحداثًا مهمة في بداية فيلم ما، ولا يمكن بأية حال أن نسأل المشاهدين الآخرين: ما الذي فاتنا؟

يبدأ قصة «الليلة التي تركوه فيها وحيدًا» بافتتاحية حوارية:

لم كل هذا البطء؟ سننام على هذا الإيقاع! ألا يهمكما الوصول بسرعة؟ -سنصل فجر الغد، أجاباه.

لمعرفة ميزة ما قام به الكاتب، أعد تفكيك هذا الحوار إلى مادة سردية ثم قارن بين ما توصلت إليه، وما قام به الكاتب.

إن الحوار المقتضب – لو أمكننا اقتطاعه من النص – أسقطنا مباشرة بين ثلاثة رجال متجهين صوب مكان ما، ولدى أحدهم هذه الرغبة في الإسراع، مع ما يرافق هذا من تعليقات: إنه منزعج، ولديه ما يقوم به فور وصوله، الرفيقان – نعرف أنهما في الخلف – لديهما لا مبالاة تزيد من انزعاجه، وربما لديهما نية أو قابلية للتواطؤ ضد الآخر أثناء الرحلة.. إلخ، هذه كلها تفسيرات محتملة تعزز اندماجنا في القصة وتضيف بُعد الممارسة الفعالة لدى الحكاية.

إنه يصطادنا بافتتاحياته الملغّزة نحو الحدث، عبر الشخصية التي تعلن عنه وعن نفسها، وكأنها تحاورنا نحن أيضًا باعتبارنا فاعلين في القصة بطريقة ما، ففي النهاية نحن نقرر أمرًا ما، ونضيف حسب رؤيتنا تعليقًا أو تفسيرًا يساهم في تشكيل الشخصية في أذهاننا، بينما هو في لحظة ما يرفع يديه ويقف بعيدًا كي يراقب ما يحدث.

يبدأ أيضًا قصة «أتسمع نباح الكلب» بجملة حوارية:

هي تقنية تثير الكثير من التساؤلات والشكوك بشأن الأحداث التي تقع، إنها تدور حول إعادة ترتيب أولويات السرد، وتهشم الكلاسيكيات السردية التي تعطي مساحات واسعة للشخصية ومفرداتها على حساب الأحداث.

فبينما تقدس الكلاسيكيات السردية أسماء وصفات الشخصيات وأماكن وظروف نشأتهم، نجد رولفو في إحدى قصصه يغفل اسم الشخصية البطلة، وفي «بيدرو بارامو» لم يعلن عن اسم البطل «خوان بريثيادو» سوى بعد مرور أكثر من 50 صفحة، رغم ازدحام الرواية بأسماء الشخصيات الثانوية.


كومالا: رحلة إلى الأبدية

أنت، يا من تجثم هناك فوقة إجناثيو، أخبرني إذا كنت تسمع شيئًا أو تلمح ضوءًا.

دائمًا هناك تلك الرحلة التي تقودها شخصياته المتحركة نحو وجهةٍ ما، ولا يهدأ لها بال، بعضها في رحلة نحو الآتي، كالموت في مكان مقدس كما في «تالبا»؛ كالرغبة في عيش حياة رغيدة «نقطة العبور إلى الشمال»؛ وبعضها يفتش في الماضي بحثًا عن الثأر أو التوبة أو ربما بحثًا عن الأب: «بيدرو بارامو».

أثناء قراءة «بيدرو بارامو» يتكشف لنا شيء ما، يخصنا ويلمس كلًا منا على حدة بشأن «كومالا»، المكان الذي ننتمي إليه جميعًا. إنه مكان ضبابي، مأهول بالأرواح الهائمة التي ضلت طريقها نحو العالم الآخر، لأنها لم تجد من يستغفر لأجل خلاصها. فالشخصيات تحكي رحلتها نحو وبعد الموت، فكل شخصية كما تقول الرواية: «أقرب إلى الأخرى منه إلى هذه؛ أي الحياة». الناس في «بيدرو بارامو» ينتظرون الموت، ولديهم شك قلق في حياة من يقابلونهم من الناس.

يسأل «خوان بريثيادو»: «هل أنت حية أم ميتة يا داميانا؟ أخبريني يا داميانا». وتقول «سوزانا سان خوان» لـ«خوستينا»: «ما الذي تنتظرينه إذن لتموتي؟» وكأنها مخلوقة كي تتلقى موتها باطمئنان، دون تذمر أو ضغينة، ترد بأنها تنتظر: «الموت يا سوزانا».

حتى عندما يطل الجنس برأسه على استحياء، فإنه يومض من بعيد كهاجس في الأفق، باعثًا للموت وملازمًا له، فأحدهما – في نصوص رولفو بصورة عامة – يقطع الآخر ويستند عليه.

كانت تنام مستكينة، ملتصقة به.. وهي تحس أن لحمها يتشقق، إنه ينفتح مثل ثلم، بينما هو يرتطم بلحمها الطري، ثم يزيد، ويزيد أكثر، حتى التأوه.. لكن موته آلمها كثيرًا.

قبل ذلك قد بدأت روح خوان بريثيادو تعلن عن موتها مباشرة بعد أن طاوع تلك المرأة التي كانت تستحثه أن يشاركها السرير. يقول ببساطة مستسلمًا لموته: «عندئذ ذهبت ونمت معها».

إن «كومالا» لا تعني شيئًا سوى «بيدرو بارامو» الذي يتحكم في كل شيء: الكنيسة، والنساء، والثورة، والقانون؛ لأنه هو الذي أنشأها وزرع في نسائها حياته، وبيديه يمكنه أن ينهي أمرها: «سأبقى مكتوف اليدين، وستموت كومالا جوعًا».

لكن «خوان» ابن «دولوريس» لدى وصوله لم يجد سوى الهمس الذي ينطلق من كل مكان، ويسد فراغات المدينة المقفرة، بعد أن مات الجميع.

لقد أصبح الآن مواطنًا في كومالا، شبحًا من أشباحها، همسة أخرى من همساتها الليلية، ولديه قصته التي يحكيها الآن للزوار القادمين إلى كومالا.

لقد قتلتني الأصوات الهامسة يا دوروتيا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.