حكى الوزير الحكيم نظام الـمُلك الطوسي قائلًا:

غضب كسرى على أحد خاصّته فحبسه ولم يجرؤ أحد على الدنو منه سوى باربد المغني الذي كان يأتيه بالطعام والشراب يوميًا، فلما أُخبِرَ الملكُ كسرى بذلك قال لباربد: كيف تجرؤ على الاعتناء بشخص في حبسنا ومساعدته؟! هلا علمتَ أنه لا يجوز الاهتمامُ بمن نغضب عليه ونسجنه؟ قال باربد: يا مولاي إن ما وهبْتَه أنت إياه أهم مما أفعله من أجله! قال كسرى وماذا وهبتُه؟! قال: حياته؛ فهي أحسن مما كنتُ أرسلُه إليه. قال الملكُ: أحسنتَ! لقد قلتَ شيئا حسنًا، اذهب فإنني عفوتُ عنه إكرامًا لك!


بين الهضاب!

لقد كانت آسيا ولا تزال محط الثقل العالمي البشري والثقافي؛ هذا الثقل الذي شهد حركات نزوح وهجرات وقيام إمبراطوريات وسقوط أخرى كانت إيران فيه على مدار تاريخها قبل الإسلام وبعده نقطة ارتكاز أساسية في تشكيله وربما نقطة الانطلاق منه.

تقعُ إيران في موقع وسط بين أفغانستان وباكستان في الشرق، وتركمانستان وبحر قزوين وأذربيجان وأرمينيا في الشمال والشمال الغربي والشرقي، والعراق وتركيا والخليج العربي في الغرب والجنوب الغربي، وخليج عُمان في الجنوب، وهي مجموعة من الدول ذات الأعراق المختلفة بين السند والترك والعرب والقوقاز، فضلًا عن العنصر الفارسي الذي تتكئ عليه إيران منذ القدم.

ويمكن أن توصف إيران بصفة عامة بأنها هضبة مرتفعة، يبلغ ارتفاعها حوالي 4000 قدم فوق سطح البحر، مملوءة بالجبال، وتوجد فيها أربع مناطق طبوغرافية مهمة، كل منها واضحة في مميزاتها، وانبساطها إلى ما وراء الحدود الإيرانية، وهي:

1. سلاسل جبار زاجروس وألبرز الضخمة وهي تُشبه حرف «V» كبيرة منقوشة على سطح البلاد، وتقع رأس هذا الحرف في شمال غربي إيران وتمتد داخل حدود تركيا، وفي القوقاز ، وتمثل سلسلة زاجروس التي تندفع نحو الجنوب الشرقي، الذراع الجنوبي لهذا الحرف، وهي توازي الحدود العراقية والخليج العربي موازاة شديدة، في حين أن الذراع العلوي – وهو سلسلة ألبرز – يبدو كحائط عبر شمالي البلاد، وهو يتكسّر إلى سلاسل أخرى تندفع إلى أفغانستان وتركمانستان.

2. المنطقة التي داخل الـ «V»، وتبدأ –كالهضبة العليا– بسلاسل جبالها الفرعية، ثم تنبسطُ تدريجيًا حتى تصير الصحراء الخالية التي تستمرُّ في الامتداد جنوبي أفغانستان وباكستان.

3. إقليم خوزستان، تحت الذراع الأسفل للحرف «V»، وهو امتداد للسهل المنخفض الموجود في العراق.

4. ساحل بحر قزوين – فوق الذراع العلوي للحرف «V»، وهو أقل ارتفاعًا من سطح البحر، ويكون منطقة مناخية مستقلة.

إن هذه التكوينات الطبوغرافية تمتدُّ إلى ما وراء حدودِ إيران، ولكن ليس معنى ذلك أن البلاد سهلة الدخول؛ لأن حدودها الحالية تحرسها حواجز طبيعية هائلة؛ فالحدود الغربية كلها، والبلاد الداخلية التي يحتضنها الخليج العربي؛ محمية بحواجز مرتفعة من الصخور، حيث تصل الممرات المرتفعة إلى ارتفاع يزيد على 7000 قدم فوق سطح البحر، ثم تنحدرُ ثانية إلى مستوى الهضبة؛ وبمثل هذه الحال تَعزل الممرات المنيعة السهلَ الساحلي لبحر قزوين عن باقي إيران. أما الحدود الشمالية الشرقية، والشرقية فإن النفاذ إليها يكون عبر أرض ذات تلال أو عبر مساحات واسعة من الصحراء الخالية.

هذه الحواجز الطبيعية المحيطة بالهضبة الإيرانية ساعدت على حماية الداخل الإيراني من المحتل، وساهمت كذلك في استقرار الحياة الاجتماعية فيها، وتوافد الإنسان الإيراني الأول من الهند إليها منذ القرن التاسع قبل الميلاد؛ متخذًا من اتحاد القرى نواة لكيان سياسي أولي.


فارس من قديم الزمان!

على أن الإيرانيين اشتملوا على طوائف الميديين والفرس والبارثيين والباكتريين والسغديين والسيذيين، وقد استقرَّ الميديون في غربي إيران، وأصبحوا هم والفرس في الجنوب خاضعين في البداية للدولة الآشورية في العراق، ثم ما لبثوا أن استقلوا واشتد ساعدهم، ثم استقرت طوائفُ أخرى وثيقة الصلة بالميديين في إقليم فارس، وأصبح رؤساء هذه الطائفة التي تُعرف باسم الأكمينيين السادة المسيطرين على هذا الإقليم الذي كان يُعرف باسم فارس، وقد أثبت الأكمينيون قوة وصلابة، ولأول مرة تنبعثُ في أثناء حكمهم حركة توسعية في العراق والشام والأناضول وحتى اليونان ثم مصر في جنوب المتوسط، واشتُهر منهم قورش العظيم وقمبيز في القرن السادس قبل الميلاد.


عصر ما قبل الساسانيين

وما لبث الأكمينيون «الأخمينيون» أن سقطوا أمام جحافل الإسكندر المقدوني العظيم في القرن الرابع قبل الميلاد، ودخلت إيرانُ منذئذٍ في العصر السلوقي، غير أن الإسكندر تأثّر بالحضارة الفارسية، فتزوج من ابنة الملك دار الثالث آخر ملوك الأكمينيين، وشجع آلافًا من جنوده على اتخاذ زوجات إيرانيات، لكن وفاة الإسكندر صغيرًا في الثالثة والثلاثين من عُمره وتقسيم المملكة السلوقية بعد وفاته، أهل شئون إيران، وغطت في نوم النسيان، حتى بدأت بوادر الثورة تلوح في الأفق على حكم اليونان.

لقد قام أرشك الأول في القرن الثالث قبل الميلاد بثورة ناجحة ضد الحاكم السلوقي، وظل أبناؤه من بعده على هذا النهج الثوري حتى تمكنوا من فرض الحكم البارثي على كافة أنحاء الهضبة الإيرانية، وفي عهد فرايتس الثالث في القرن الأول قبل الميلاد بدأت سلسلة من الحروب المتواصلة مع روما على طول الحدود المشتركة، وظلت هذه الحروب قائمة بصفة متقطعة حوالي ثلاثة قرون؛ لأن المشروع الروماني كان مصممًا على التوسع شرقًا، والاستفادة من توسيع نطاق التجارة، والسيطرة على طريق تجارة الحرير الذي كان طرفه الغربي في أيدي البارثيين.


كيف جاء كسرى؟!

كان استقرار البارثيين في الحكم، واستيعابهم لنموذج الأكمينيين والسلوقيين اليونان، مع توسعهم السياسي في كافة أرجاء الهضبة الإيرانية، واحتكاكهم بالشعوب المجاورة قد أدى بهم إلى الارتقاء الحضاري من الثقافة الضحلة إلى الحضارة والمدنية والعُمران الذي لا تزال بعض آثاره وحفائره ونقوشه ولغته حتى اليوم.

وبالرغم من استمرار الوجود السياسي للمملكة البارثية حتى مطلع القرن الثالث الميلادي، إلا أن المظالم السياسية الداخلية عملت على شحن الثورة في نفوس الفارسيين، وكان مُشعل هذه الثورة أردشير في بداية القرن الثالث الميلادي في إقليم فارس وسط إيران، وبعد سنوات من القتال، تمكن في عام 224م من قتل آخر ملك بارثي في خوزستان في جنوب غربي إيران، وسُرعان ما سيطر أردشير على جميع إيران ما عدا ولايتي أرمينية وبلخ.

وبانتصار قوات أردشير على البارثيين، بدأ العهد الساساني الشهير، أهم وأشهر عهود إيران التي تتكئ عليها في بعث المجد القومي المغلف بالدعاية الدينية. إن هذا العهد شديد الأهمية في فهم كيف يفكر العقل الإيراني حتى اليوم، وكيف تم سبك الديني والقومي لتقوم نظرية جديدة كانت ولا تزال أساس توليد النموذج التفسيري الذي لا يزال يحكم إيران لليوم؛ ذلك أن إيران الساسانية تمكنت من أن تخطو خطوات الإمبراطوريات الكبرى بالإصلاحات الداخلية، والعلاقات الدولية، وهي العلاقات التي كانت لا تعرف إلا الصدام العسكري مع الإمبراطورية الرومانية ثم البيزنطية، والتي كانت سجالًا بين الفريقين، تمكن الفرس فيها من أسر إمبراطور روما فاليريان في عهد سابور الأول ابن أردشير (241 – 271م)؛ إذ ظل في الأسر حتى قضى نحبه بين الفرس مهزومًا.

وعلى الرغم من الصدام العسكري الذي استمر لقرون بين الروم والفرس، إلا أن الساسانيين كانوا أعظم إمبراطورية حكمت إيران في القرون الأخيرة قبل دخول الإسلام لإيران؛ فقد شجعوا التعليم، وترجمة الكتب من الثقافات المختلفة، وانفتحوا على العالم، وظهر فيهم الأكاسرة العظام، وعرفوا التنظيم الإداري والسياسي، وأيضًا الاجتماعي؛ فقد كانت الطبقات الاجتماعية واضحة المعالم في ذلك العصر؛ حيث قُسِّم الشعبُ إلى أربع فئات هي: رجال الدين، ورجال الجيش، والموظفون، والعوام من الفلاحين والتجار وأصحاب الحرف. وكونت الفئات الثلاث الأولى طبقة الأشراف، وقُسّمت بدورها إلى أقسام أربعة لها ألقابها وشعاراتها.

على أية حال، فإن العصر الساساني يحتاج إلى وقفة خاصة نستعرض من خلاله تاريخ إيران قبل الإسلام مباشرة، من حيث عاداته وأديانه ونُظمه والثقافة الغالبة عليه، وأهم الأكاسرة الذين خلدت مؤلفات التاريخ بطولاتهم وملاحمهم العسكرية؛ لأن الثقافات والأديان التي غلبت في ذلك العهد ظهرت آثارها واضحة في بعض الأفكار التي سادت في العصور الإسلامية اللاحقة؛ من ناحيتي محاولات بعث القومية الفارسية «الشعوبية»، ومن ناحية العقيدة والأفكار التي دخلت في إطار «الزندقة» من المنظور الإسلامي في بعض العصور، ثم في المحاولات المتكررة للتأكيد على «الفارسية الإيرانية» لا من المنظور القومي التاريخي، وإنما من المنظور الثقافي الـمُشكّل للمشروع المتجدد!

المراجع
  1. نظام الملك الطوسي: سياست نامه «سير الملوك»، تحقيق يوسف حسين بكار، دار الثقافة، الطبعة الثانية، 1407هـ.
  2. دونالد ولبر: إيران؛ ماضيها وحاضرها، ترجمة عبد النعيم محمد حسين، دار الكتاب المصري، الطبعة الثانية – القاهرة، 1985م.
  3. أرثر كريستنسن: تاريخ إيران في عهد الساسانيين، ترجمة يحيى الخشاب، دار النهضة العربية، بدون تاريخ.
  4. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود وآخرون، دار الجيل – بيروت، 1988م.
  5. أحمد أمين سليم: تاريخ العراق – إيران – آسيا الصغرى، دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية، 2000م.