محتوى مترجم
المصدر
Newyorker
التاريخ
2017/05/17
الكاتب
Peter Hessler

عندما ينتقل شخص بالغ إلى بلد أجنبي عنه، تنساب اللغة كالنهر من حوله. ربما كان الطفل سيستسلم لتياره، لكن الناضجين، على العكس، سيبدأون في انتقاء الكلمات والعبارات التي تبدو لهم أكثر أهمية. هذا هو ما فعلته تماماً عندما انتقلت مع عائلتي إلى القاهرة، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2011، أول خريف بعد الربيع العربي. كان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، قد أُجبر على التنحي، في فبراير/شباط من نفس العام.

اعتدت على الذهاب بصحبة زوجتي (ليزلي) إلى مدرسة اسمها (كلمات) لتعلّم اللغة، حيث ندرس العربية على يد معلّم، لمدة ساعتين، كل يوم من أيام الأسبوع، ونقوم بعمل قائمة للمصطلحات، في نهاية كل حصة.

في أوائل ديسمبر/كانون الأول، بعد أول جولة للانتخابات البرلمانية، والتي سيطر عليها الإخوان المسلمون، كانت قائمة المفردات في دفتري كالآتي:

مسجد سجود صلاة شيخ ذقن سجادة حرام.

كنت أذهب لميدان التحرير بشكل متكرر، للكتابة عن الثورة الجارية، وبعدها أجلب معي إلى الحصة، الكلمات والعبارات الغريبة التي صادفتها في الميدان.

في يناير/كانون الثاني، بعد أن شكّ بعض المتظاهرين في دوافعي كصحفي، كانت الكلمات الجديدة في دفتري هي:

عميل، سفارة، جاسوس، إسرائيل، إسرائيلي، يهود.

تعلّمت في الشهر التالي، عبارات «غاز مسيّل للدموع» و«مذبحة» و«هل يمكنك التحدث بإيقاع أبطأ؟». ظهرت عبارة «نظرية المؤامرة»، في نفس اليوم الذي ظهرت فيه عبارة «بطاطس محمرة».

كثيراً ما تأملت غرابة محادثات ميدان التحرير، وكيف كانت لغتي العربية لتتغير لو كنت وصلت القاهرة قبل الثورة بعشر سنوات.. لكن في الواقع فإن لغتي كانت لتصبح مختلفة لو تغيّر الوقت، أي وقت، ولو تغيّر المكان، أي مكان. لا يمكنك وضع قدمك في نفس اللغة مرتين[1]. حتى الكلمات البعيدة عن الأحداث، اكتسبت بنية جديدة تحت ضوء الثورة.

بعد أن استطعت فهم بعض أحاديث الراديو في سيارات التاكسي، لاحظت أن المتصلين والمضيفين يتبادلون التحيات الإسلامية الطابع، لمدة نصف دقيقة كاملة، قبل الانتهاء إلى جدال حاد حول النظام الجديد.

كان اسم الكتاب الذي ندرس منه: «دردشة»، وهو يحتوي على بعض المحادثات، التي سرعان ما بدأت في تبادلها مع العمال، مستعملاً عبارات لم أكن أقترب منها في التحرير: «السلام عليكم»، «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته»، «كيف حالك؟»، «يرحمكم الله، هل أنت بخير؟»، «الحمد لله»، «وعليكم السلام»، «في رعاية الله».

أعدّ أحد المدرسين، واسمه (رفعت أمين)، مذكرة من خمس صفحات، عنوانها: (تعبيرات اللغة العربية الخاصة بالآداب الاجتماعية)، كملحق لكتاب (دردشة). احتوت المذكرة على بعض الدروس حول العادات الاجتماعية، مثل الحسد أو «العين الشريرة»، وهو اعتقاد بقدرة كلام بعينه على التسبب بالحظ السيئ. كانت هناك أيقونة على شكل قنبلة بجوار عبارات تعتبر، حتى أثناء الثورة، غير مقبولة اجتماعياً، مثل: «ابنك ذكي جداً يا مدام فتحية»، لكن لحسن الحظ يمكن تعطيل فعالية هذه الجملة، والتغلّب على ما تحمله من خطر بإضافة: «ما شاء الله يا مدام فتحية، ابنك ذكي جداً».

كثيراً ما سمعت عبارة «ما شاء الله»، وهي تعني: «هذه إرادة الله»، عندما كنت أخرج مع ابنتي التوأم. مرة ابتسم رجل كبير للصغيرتين، وقال: «وِحشة، وِحشة»، مما أثار استغرابي، حتى شرح لي شخص ما أن المجاملات العكسية هي طريقة أخرى لإبطال مفعول العين الشريرة هذه. علّمنا دليل (رفعت) ما نقوله حين يعود شخص ما من السفر، وماذا نقول حين يتعافى من مرض، أو حين نسمع اسم شخص ميت في الحديث، (نقول ساعتها: «الله يرحمه»، دعوة أن يريح الله روحه).

كما يمكن إبعاد المتسولين بلطف، بجملة ترفع المسئولية عن الشخص: «الله يسهلّك» (دعوة بأن يجعل الله الأمور أسهل بالنسبة له). هنالك حتى عبارة مخصصة للشخص الذي حظي بقصة شعر جديدة، نقول: «نعيماً». يقول لي الحلاق هذه العبارة كلما أنتهي من قص شعري، لكنني لم أكن أفهم هذا، حتى بدأت في دروسي مع (رفعت)، بعدها صرت أحفظ دوري في الحوار جيدّاً: «نعيماً»، فأقول: «الله ينعم عليك». أول مرة استطعت قولها بشكل صحيح، ابتسم لي الحلاق.

(رفعت) رجل رفيع انفعالي، له شعر أبيض كثيف، وبشرة غامقة صعيدية، وعينان تلمعان حين يتحرك. كان أبوه مقاولاً نشأ في مدينة (أبيدوس)، التي تعتبر موطن أول أسرة ملوك حكمت مصر، منذ 5 آلاف سنة. كان (رفعت) فخوراً بتراثه، ومثل كثير من أبناء الجنوب، الذين تنتمي عائلاتهم إلى الطبقة المتوسطة فترة حكم (جمال عبد الناصر)، فـ(رفعت) كان ناصرياً. قاد (عبد الناصر) الثورة في عام 1952، وكان صعيدياً هو الآخر.

كل يوم، عند العاشرة مساء، يجلس (رفعت) ليستمع إلى حفلة مُسجّلة في الخمسينات أو الستينات، لـ(أم كلثوم)، تذاع على قناة (روتانا).

للقاهرة سمعة سيئة فيما يتعلق بالتحرش الجنسي، لكن رد فعل الذكور في حضور النساء المباشر هو على النقيض تماماً

مرة كتب (رفعت) في أحد الدروس عبارة تقول: «لا يوجد مصري حقيقي لا يحب أم كلثوم». لـ(رفعت) كذلك بعض الطباع التي تبدو غريبة على مصر. كان مسلماً، لكنه يشرب الكحوليات، ولا يذهب للمسجد، كما أنه لا يصوم حتى في شهر رمضان. قال لي مرة إنه يرى أن الحج تضييع للمال الذي كان يمكن إنفاقه على الفقراء. وكان يتبّع، منذ سنوات مراهقته، حمية غذائية شبه نباتية، وهو أمر نادر بين المصريين. أخبرني إخوته أن والدهم كان يحتدّ عليه عندما يرفض تناول اللحوم، لكن (رفعت) أصر على موقفه، حتى بعدما كبر.

واحدة من الأطباق القليلة التي يتناولها وتحتوي على اللحم، هو طبق تعده (وردية)، أخته الكبرى، كان لها طريقة معينة في إزالة الجلد عن اللحم، وكانت تجلب الطعام أحياناً إلى شقة (رفعت)، لأنه لم يكن متزوجاً.

خاض (رفعت) صراعاً مع مرض الـ(ليمفوما)، قبل عشر سنوات، وكانت (وردية) تطبخ له مرة كل أسبوع. ارتبط (رفعت)، لفترة قصيرة، بامرأة أجنبية، وتطورت علاقتهما للخطوبة، لكنه بدا سعيداً أن الزيجة لم تكتمل. كان يعيش وحده، وهو ما يعتبر أمراً غريباً في مصر. أخبرتني (وردية) أنها تختلف مع أخيها في أمرين أساسيين: الدين، ورأي أخيها في أن المرأة والرجل متساويان. لكنه أقنعها على كل حال بأهمية تعليم بناتها، كان هذا «سلاحاً» حسبما قال لها، «لو حصل حاجة بينها وبين جوزها، يبقى معاها سلاح»، شرحت لي (وردية)، ثم أكملت: «تقدر تعتمد على نفسها».

كان (رفعت) يتعامل بشكل طبيعي في حضور النساء، وهو أحد الأسباب التي جعلتنا –أنا وليزلي- نحضر دروسه. للقاهرة سمعة سيئة فيما يتعلق بالتحرش الجنسي، لكن رد فعل الذكور في حضور النساء المباشر هو على النقيض تماماً، يتوجه لي الجيران الذكور بالكلام دائماً، ويتحاشون أي تواصل بصري مع زوجتي. لم يكن لرفعت تناقضات كهذه، ربما بحكم تدريسه لعدد كبير من الأجانب، بمن فيهم الممثلة (إيما ثومبسون)، في أواخر الثمانينات، والتي كانت تصور فيلماً في القاهرة.

أعدّ (رفعت) دروسه عادة بشكل يعكس انتقاداته الاجتماعية، حتى أنه في بعض الأحيان كان يحرم الرجال عديمي الذوق من الأسماء، مثلما فعل في هذا الحوار:

هدى: لماذا أنت متعب؟ أنت لم تقم بفعل أي شيء في المنزل؟! زوجها: ماذا تقصدين؟ هدى: أعني أن عليك مساعدتي قليلاً في أعمال البيت. زوجها: اسمعيني جيداً، عملك غير مهم أصلاً، أنت تنفقين نصف الراتب على المواصلات، والنصف الآخر على مساحيق التجميل.

أشار (رفعت) أكثر من مرة إلى أن (أم كلثوم)، التي تزوجت متأخرة، ولم يكن لها أي أطفال، ربما كانت مثلية الجنس. كان يحترم هذه الأمور، ويقدّر الحريات الشخصية بعمق. لكنه كذلك كان يحترم (جمال عبد الناصر)، الذي ألقى بكثير من المعارضين والمثقفين في السجون. أيد (رفعت) تظاهرات التحرير، وكان يؤمن أن مصر بحاجة إلى تغيير اجتماعي جاد، لكنه كذلك اهتم بمحاضرتنا عن «قواعد الذوق العام».

بمرور الوقت استطعت تمييز تناقضات شخصيته الجوهرية كمصري. كان لمصر دين مسيطر وقومية لها حضور قوي، ونظام عائلي يعاني من رهاب العالم. لكن هنالك أيضاً تيار مضاد من الحس الشخصي بالذات، وكذلك بعض الشخصيات التي يسهل تمييز تفردها.

بدت نزعات رفعت وتناقضاته فطرية للغاية، للدرجة التي جعلت أشقاءه يختارون -بحكمة- أن يتقبلوها كلها.

كان (رفعت) يستمتع بالعامية المصرية، والتي تشترك مع الحس العام المصري، في قابليتها للجمع بين المتناقضات: التراث والحداثة، النظام والفوضى.

قبل الانتقال إلى مصر، بدأت أنا و(ليزلي) في حضور البرنامج الصيفي لجامعة (ميدلبوري)، حيث قضينا شهرين في دراسة الـ«فصحى»، أو العربية التقليدية التي تستخدم في الأدبيات وتعتبر اللغة الرسمية في العالم العربي.

في القاهرة انتقلنا إلى العامية المصرية، والتي تمتلك تقاليدَ أدبية أضعف، لكن لها شخصية نابضة بالحياة. وبينما يفخر علماء اللغة العربية دائماً بنقائها، فإن للعامية المصرية عددا كبيرا من المساهمين في تشكيلها على ما هي عليه الآن. أتت بعض الكلمات من أصول قبطية، وهي اللغة التي انحدرت من مصر الفرعونية، وهنالك كلمات عديدة دخلت إلى اللغة من اللغات اليونانية، والفارسية، والتركية، والفرنسية والإنجليزية.

يحب (رفعت) المصطلحات الجديدة، مثل «يُشَيّر»، وهي كلمة Share من عالم الـ«فيسبوك»، بعد تصريفها كما لو كانت فعلاً باللغة العربية، ولكنه كذلك ما يستخدم اللغة الفصحى ليشرح لي معاني ما أسمعه في التحرير. أخبرنا مرة أن الكلمة العربية «دبابة»، مشتقة من جذر لغوي يعني «دبّ»، أو خطا على الأرض بكل ثقله. كلمات مثل «غرب» و «غريب» تشتركان في نفس الجذر، ونظرية (رفعت) التي تفسر هذا: «ليس لأن الغربي غريب الأطوار، لكن بسبب أن الغرب هو المكان الذي تغرب منه الشمس، وكان التفكير في مكان ذهابها بمثابة اللغز».

اللغة مساحة للعجائب. أخذ العرب كلمة «الشاة» من الفرس، ثم تم تصدير كلمة «الشاة مات» إلى الإنجليزية كـCheckmate. في أحد الدروس، علّمنا (رفعت) الكلمة المستخدمة لقالب الطوب، كانت «جيبيت»، والتي تحولت إلى «توبي» في القبطية، ثم جاء العرب ليضيفوا أداة تعريف لتتحول إلى «الطوب»، ثم سافرت الكلمة إلى أسبانيا، لتصبح Adobar، ثم استعملها الأميركيون في الغرب وحوّلوها إلى «Adobe» (والتي تشير إلى مبنى لين من الطين)، لتنتهي الكلمة بحملها الثقيل عبر أربعة آلاف سنة، وأكثر من سبعة آلاف ميل.

للغرابة لم تنج كلمات كثيرة من اللغة القبطية إلى اللهجة العامية الحالية، وهي حقيقة تعكس السرعة التي تبنّى بها المصريون القدماءُ اللغة العربية، على العكس من سمعة المصريين المعتادة في مقاومة الثقافات الأجنبية.

بدأ المصريون في التحوّل إلى المسيحية بعد المسيح بفترة قليلة، لكن غالبية الناس لم يهتموا وقتها بتعلّم لغات الملوك اللاحقين على هذه الفترة: البطالمة، والرومان، والبيزنطيين.

وصل أول جيش عربي، قوامه 4 آلاف جندي فقط، إلى مصر، في عام 640 بعد الميلاد. كانت مصر وقتها مقاطعة تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية. استغرق فتح البلاد عامين فقط، بالرغم من قلة عدد الجنود. بحلول عام 700 بعد الميلاد، كانت السجلات الحكومية المصرية تستخدم اللغة العربية، وبعد 150 سنة أخرى، كانت اللغة القبطية قد اختفت من مصر العليا. اشتكى أسقف مصري يُدعى (سفيروس) من أن المسيحيين المصريين لا يستطيعون التواصل إلا باللغة العربية.

أسست اللغة العربية عبر شمال إفريقيا، الرابطة الأقوى للإمبراطورية الجديدة، على عكس الدين أو القوة العسكرية. أدرك المصريون وقتها أهمية التحدث بلسان العرب الذين نادراً ما كانوا يتعلمون لغة أخرى، وامتازوا بمرونة أكبر من حُكام مصر السابقين.

في وقت لاحق، أخبرني (كييس فاشتيج) ، عالم العربيات الألماني، ومؤلف كتاب (اللغة العربية)، أن قاطني الأقاليم الشرقية، كانوا يرون الإمبراطورية البيزنطية مصدرا لجمع الضرائب، وإعدام الزنادقة. لم يكن المصريون يحبون حكامهم على الإطلاق، وكانت الميزة الأساسية للعرب كحكامٍ، هي في عدم اكتراثهم بديانات المصريين، لم يكن لديهم أدنى اهتمام إذا ما كان الشخص نسطورياً أو آريوسياً[2]، أو أي شيء آخر. طالما يدفع الشخص الجزية، فإنه يُترك في سلام.

أعاد الدارسون الغربيون اكتشاف أصول الأعمال الكلاسيكية في بيزنطة، وتعلموا اليونانية، وادعوا أن العديد من الترجمات العربية كانت مغلوطة.

بفضل هذه الديناميكية، انتشرت العربية أسرع بكثير مما انتشر الإسلام. لعبت اللغة العربية كذلك دوراً محورياً في النهضة العلمية الغربيّة. قدّم المعتزلة، إحدى مدارس علوم الإلهيات، طرحاً عقلانياً للإيمان، وعددا آخر من المواضيع، في بدايات القرن التاسع الميلادي، كما بحث العرب عن أعمال اليونانيين القدامى، والتي كان يصعب الحصول عليها في الغرب، لأن الرومان –الذين كانوا يقرأون اليونانية بسهولة، لم يترجموا أغلب الكتب إلى اللاتينية.

بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، انهارت معها القدرة على التحدث باليونانية في الحضارة الأوروبية الغربية، وبقيت هذه المعارف حبيسة داخل هذه الكلاسيكيات لعدة قرون.

حتى في العهد البيزنطي، لم تكن الأعمال هذه تحظى بتقدير واسع. كتب العرب أنهم وجدوا كتب اليونانيين في حالة سيئة، ومن وجهة نظرهم، لم يحترم البيزنطيون تراثهم. ترجم المسلمون الأعمال الكلاسيكية الأهم في التراث اليوناني، والتي أصبحت متاحة لغرب أوروبا في أواخر القرن الحادي عشر، وذلك بعد أن عاد المسيحيون إلى استعادة شبه الجزيرة الإيبرية. لاحقاً أصبحت العربية هي اللغة التي أعاد الغرب بها اكتشاف الأعمال اليونانية في الطب، والعلوم، والفلسفة.

يطلق علماء الطب في جامعة باريس على أنفسهم لقب الـ«آرابيزانتس»، كما أن كثيراً من مصطلحاتنا المعاصرة تمت فلترتها من خلال اللغة. Retina (شبكية) وCornea (قرنية)، تأتيان من ترجمتين عن اللاتينية لكلمتين عربيتين، أتيا بدورهما من ترجمة العرب للكتب اليونانية أصلاً.

عندما تمر الأفكار عبر هذا العدد من عدسات اللغة، يصبح التشتت أمراً حتمياً. أعاد الدارسون الغربيون اكتشاف أصول الأعمال الكلاسيكية في بيزنطة، وتعلموا اليونانية، وادعوا أن العديد من الترجمات العربية كانت مغلوطة. في نفس الوقت، كانت عقلانية المعتزلة تُمنع وتحارب بواسطة تفسيرات أكثر دوغمائية للإسلام، ثم جاء علماء النهضة في أوروبا، ونظروا إلى العرب كملوثين للنصوص الكلاسيكية، وليس كحافظين لها من الضياع. تغيرت أسباب تعلّم اللغة العربية، وأصبح الهدف الأهم من تعلّم العربية بالنسبة للغرب هو، بشكل أساسي، الجدال مع المسلمين، ومحاولة إقناعهم بالتحوّل إلى المسيحية.

في العديد من الصباحات، لا يحضر سوانا، أنا وليزلي، في قاعة درس (كلمات).

تزايد الاهتمام الغربي باللغة العربية بعد الربيع العربي. كانت المدرسة ممتلئة في عامنا الأول، لكن المناخ السياسي في مصر ساء بعد ذلك، وأُلغيت برامج التبادل الأجنبي، وبحلول ربيع عام 2013، تصاعد ضيق (رفعت). كان قد أسس (كلمات) بالشراكة مع أحد إخوته، وكان يحتقر الإخوان المسلمين، الذين فاز مرشحهم، (د.محمد مرسي) بأول انتخابات رئاسية ديموقراطية في تاريخ مصر، وكشخص ناصري، اعتاد (رفعت) أن يلقي اللوم على (أنور السادات) فيما يتعلق بصعود التيار الإسلامي.

اعتاد (رفعت) على القول إن عدد النساء اللواتي كن يرتدين الحجاب أيام ناصر، كان قليلاً جداً. كان يعاني من مشاعر نوستالجيا لا تنتهي للحقبة الكوزموبوليتانية في الخمسينات والستينات، ولم يكن يمانع من الإجراءات الصارمة التي اتخذها ناصر ضد الإسلاميين.

قامت الحكومة، تحت حكم (جمال عبد الناصر) بإعدام (سيد قطب)، أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وأحد المنظرين للجهاد، والذي ألهم موته أجيالاً من المتطرفين. حاول (السادات)، بعد تولّيه للحكم، في عام 1970، بطريقة أخرى، أن يستوعب الإخوان المسلمين، والتيارات الإسلامية عموماً. ولكن (رفعت) يرى أن هذا لم يتسبب إلا في المزيد من الأصولية ضيقة العقل.

في ربيع عام 2013، في الوقت الذي كان (محمد مرسي) يصطدم فيه بالعديد من مؤسسات الدولة، كان (رفعت) يأتي إلى قاعة الدرس، وفي جعبته مجموعة من الكلمات الغاضبة، والتي يكلفنا بترجمتها:

مزاجي سيئ، تسبب في تعكير مزاجي، أرني الحقيبة الجديدة التي اشتريتها بالأمس، هل أنت غبي؟ أم أنك تتظاهر بالغباء؟

كان (رفعت) يفضّل أن يبتكر مواد جديدة للدرس، لكنني كنت أصر على أن ننهي (دردشة) أولاً. لطالما أعجبتني كتب تعليم اللغات. إحدى ميزات دراسة اللغات كشخص بالغ، هي أنك تستطيع فهم وتقدير السياق، وما يتضمنه أكثر.

حين بدأت الإصلاحات الاقتصادية في الصين، في منتصف التسعينات، كنت أعمل في مقاطعة (شيشوان)، حيث بدأت في دراسة كتاب حكومي لتعلم اللغة يُدعى (التحدث عن الصين بالصينية). تظهر جملة أساسية في الفصل الثالث من الكتاب: «كان يعمل بجدٍ في وظيفته»، تحولت هذه الجملة إلى شكل أكثر تعقيداً في الفصل الرابع: «كل الناس يعملون بجدٍ، ولهذا تضاعف الإنتاج». ثم تصاعد الأمر إلى درجة جديدة من التعقيد في الفصل الخامس: «نلاحظ أن الوسيلة الوحيدة لرفع مستوى معيشة الناس، هي بزيادة الإنتاج».

كانت هذه واحدة من أكثر ملاحظاتي المفيدة عن الصين: من الممكن استخدام تعبيرات شديدة التعقيد للتعبير عن أفكار شديدة البساطة. كذلك يمكن استخدام القواعد النحوية كنوع من البهارات، تماماً كما يفعل المطبخ (السيتشواني) حين يستخدم نكهات زاعقة لصنع وجبات شهية تحتوي، في الواقع، على القليل من اللحم.

بعد هذا بخمس عشرة سنة، دخلت عالم (دردشة)، الكتاب الذي ألّفه عالم لغات مصري يُدعى (مصطفى مغازي)، يعمل في جامعة غرب ميتشجين.

بدا كتاب اللغة المصري غير مهتم بالتنمية مقارنة بنظيره الصيني، لم يحتو على أي اقتباسات تنموية، لا خطط اقتصادية، ولا مشاريع تحتية. لم تُذكر كلمة «مصنع» ولا مرة في الكتاب. وكان الناس في الكتاب يقولون أشياء مثل: «يا حاج، أنا مهندس، وبعد 5 سنوات من الجامعة، أعمل كنادل في مطعم».

على العكس كان الكتاب الصيني حذراً من قرائه الأجانب أثناء حديثه عن الصين، متجنباً أي تعليق سلبي. الكتاب المصري لم يكن خجولاً فيما يتعلق بالسلوك السيئ، حتى أنه تضمن محادثة تليفونية غريبة عن شخص اتصل برقم هاتف خطأ.

من منظوري الخاص، كانت المكالمات التليفونية وما يتعلق بها من سلوكيات، أحد الغرائب اللانهائية فيما يتعلق بالمدينة المصرية. تلقيت و(ليزلي)، مكالمات لا تنتهي من أشخاص يسألون عن أغراب، أو يطلبون أشياء غريبة، أو لا يقولون شيئاً على الإطلاق.

لكن (دردشة) كان مليئاً بعائلات تتحدث، وتضحك، وبجوانب من المشاحنات والمزاح بينهم. يظهرهم الكتاب وهم كرماء،، وكذلك وهم يتصرفون بسخف، أو تظهر الأزواج أحياناً وهو يتصرفون بطريقة أسوأ من الأطفال:

علي: ماذا سنأكل على الغداء اليوم؟ فاطمة: دجاج محشو، بالطريقة التي تحبها. علي: لكنني لا أحب الدجاج، كل يوم نأكل نفس الشيء. فاطمة: حسناً، ماذا تريد أن تأكل يا علي؟ علي: لا أعرف، لكنني لا أرغب في تناول الدجاج. فاطمة: غداً، بإذن الله، سأطبخ لك ما تريد.

لم يكن الكتاب متحفظاً في ما يتعلق بالحياة في القاهرة. عرضَ التوتر العام الذي تعاني منه المدينة، بأمثلة تتكون من جمل مفتوحة النهايات:

لو أنني فقط عرفت من يتصل بالهاتف كل يوم..

لو أنني فقط أعرف من هو الطفل الذي يدق جرس الباب ويجري..

لو أنني فقط أعرف من هو الجار الذي يستمع إلى الموسيقى، بصوت عالٍ، طيلة الليل..

أحد التمارين كان بعنوان: «أنت عصبي»، وكان كالتالي: «أنت في باريس، اسأل شريكك الأسئلة التالية لتعرف ما إذا كان شخصية عصبية أم لا»:

لديك موعد مع صديق في الخامسة. عند السادسة، لم يكن صديقك قد حضر بعد. هل ستغضب وتترك المكان؟
أنت تعمل على الإنترنت، وكل مرة يتصل نفس الشخص برقم خطأ، هل تفقد أعصابك عليه؟

بالنسبة لـ(رفعت)، كانت الإجابات دائماً بـ «نعم». كان أكثر شخص «عصبي» عرفته. بالرغم من صعوبة ترجمة تعبير «عصبي» بكل ما تحمله من خصوصية في الحياة اليومية المصرية. يُستخدم تعبير Irritable في الإنجليزية، لكن ما ينقصه هنا هو السياق. يبدو متجنياً أن تصف شخصاً بأنه «عصبي»، دون أن تنقل كذلك كل ما يجعل هذا الشخص عصبياً في بلد كمصر. ربما يكون أفضل استخدام للكلمة، هو وصف شخص يُدّرس اللغة العربية للأجانب، وأحد اختباراته لطلبته هو أن يطلب منهم ترجمة القطعة الآتية: «يبدو أنه لا أحد يعرف كيف يحتفل في هذا البلد، دون ميكروفون، وخمس مكبرات للصوت».

كان إعداد مواد الحصص فعلاً تطهرياً بالنسبة لـ(رفعت). يصل كل يوم وهو ينتفض غضباً لدرس جديد حول الفقر، أو الاغتصاب، أو الأطفال الذين يدخلون عالم الجريمة. كان يكتب أحياناً سكيتشات لشخصيات تبدأ بجمل مثل: «فريد شخص كسول، لا يلتزم بمواعيده، وهو دائماً متأخر».

مرة درسنا مقطعاً من حوار مع (سوزان مبارك)، زوجة رئيس الجمهورية السابق قبل الثورة. سألها الصحفي عمّا تأكله في الغداء، فأجابت: «في الحقيقة مباكلش حاجة على الغداء، ممكن آكل أحياناً طبق فاكهة صغير»، وعلى العشاء: «ممكن أشرب عصير فاكهة بس» بمجرد انتهائنا من هذه الحوار غير المعقول، كان من السهولة رؤية عيني رفعت تلمعان بغضب: «هؤلاء الأشخاص سرقوا الملايين من الدولارات، وكل ما تأكله هو الفاكهة!».


هوامش[1] تنويع على عبارة الفيلسوف الإغريقي (هرقليطس): لا يمكنك أن تضع قدمك في نفس النهر مرتين، للدلالة على التغيّر المستمر الذي يصيب كل شيء حتى مياه النهر[2] الآريوسية: مذهب مسيحي قديم، ااعتبر هرطقة في مجمع نيقية عام 325 بعد الميلاد. قالت الآريوسية إن الابن يختلف عن الآب في الجوهر والأزلية.النسطورية: مذهب مسيحي قديم، يُعتبر هرطقة بالنسبة لغالبية المذاهب المسيحية. ترى النسطورية أن يسوع المسيح، مكوّن من شخصين، إلهي وبشري، ولا يوجد اتحاد بينهما.