عام 2009م، اختار بابا الفاتيكان -وقتها- البابا بندكتس الـ16 أن يتحدّث في خطبة لبعض أبناء رعيته في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، عن «ضرورة الحوار والتسامح بين البشر»، وللتأكيد على هذا المعنى ضرب المثل براهب فرنسي عاش بين القرنين الـ11 والـ12، اعتبر البابا أنه «نموذج للمثابرة في الاهتمام بمن هم خارج الكنيسة (يعني المسلمين واليهود)».

بالفعل، مثّل ذلك الراهب الفرنسي المنشود نموذجًا جديدًا في تعامل المسيحيين مع الإسلام، بعدما رعى حركة فكرية قامت على محاولة فهم الإسلام بعمق أولاً حتى يتثنى للاهوتيين مواجهته وتدعيم قيم المسيحية أمامه.

هو بطرس فنرابيليس (Peter Venerable)، المعروف ببطرس الموقّر. يُعرِّفه قاموس أكسفورد بأنه «بدأ حركة هدفت إلى فهم مسيحي أفضل للإسلام»، وذلك من خلال التعمّق في دراسة علوم الإسلام وعلى رأسها القرآن، ومحاولة توضيحها وتبسيطها لعموم المسيحيين في أوروبا.

من أهم ثمار ذلك التوجه هو رعايته لأول ترجمة لاتينية للقرآن، بسببها تمكّن الأوروبيون من قراءته لأول مرة بعد عقود من التعامل معه كـ«نص مُبهم» يجب عدم المساس به ومحاربة أهله، لكن هل أدّت هذه الترجمة إلى «التسامح والحوار» فعلاً كما اعتقد بابا الفاتيكان؟

صاحب الترجمة

وُلد بطرس عام 1092م في فرنسا، نذره أهله للرهبنة منذ صغره، وفي عُمر الثلاثين ترأّس دير كلوني (Cluny) الواقع جنوب فرنسا، ومن خلال هذا المنصب بدأ تطبيق رؤياه لإعادة تجديد المسيحية في مواجهة المنافسة الحامية التي تواجهها في العالم مع الإسلام.

أسهمت هذه الحركة في تقوية نفوذ دير كلوني ونشر فروعٍ له في أوروبا، رغم أنها مثّلت نشازًا لسابق مجهودات رهبان ذلك الدير في الدعوة للحروب الصليبية لطرد المسلمين من الأندلس ولاقتناص القدس لاحقًا، وهي مجهودات لم تقف على بث الروح القتالية في نفوس الجنود بل شارك الرهبان بأنفسهم في بعض المعارك، بحسبما عرض الباحث محمود علي في أطروحته «دير كلوني ودوره في الحروب الصليبية».

بحسب الجزء الأول من كتاب «تراث الإسلام» لجوزي شاخت، برّر بطرس هذه الخطوة بقوله:

إذا كان عملي يبدو عديم الفائدة لأن العدو (يقصد المسلمين) يبقى منيعًا ضد مثل هذه الأسلحة، فإني أجيب بأنه في بلاد ملك عظيم تكون بعض الأشياء من أجل لحماية وأخرى للزينة، وأخرى للغرضين معًا. لقد صنع سليمان المُسالم أسلحة للحماية لم يكن هناك حاجة إليها في أيامه. وقام داود بإعداد الزينة للمعبد، وكان استعمالها متعذرًا في أيام.. وهذا العمل، كما أراه، لا يُمكن أن يقال إنه عديم الفائدة. فإذا تعذّر هداية المسلمين الضالين به، فإن العلماء الذين يغارون على العدالة يجب ألا يفوتهم تحذير أولئك الضعفاء من أفراد الكنيسة الذين يروّعون بتلك القضايا التافهة.

كيف ظهرت الترجمة اللاتينية الأولى؟

عقب سقوط دولة المسلمين في الأندلس خضعت كنائس إسبانيا لسُلطة بابا الفاتيكان الذي كلّف دير كلوني برئاسة بطرس المبجل بالإشراف عليها.

في عام 1141م، زار بطرس إسبانيا للقيام ببعض المهام الرعوية، وهناك قرر رعاية مشروع كامل لترجمة عددٍ من أمهات الكتب الإسلامية، نبعت الفكرة من وحي أرض تمازج فيها الإسلام مع المسيحية لقرونٍ مضت.

المشروع الأول والأقل شهرة هو تكليف الراهب هيرمان الدالماتي بترجمة عددٍ من كتب التاريخ الإسلامي، مثل: كتاب منسوب للصحابي ذي الأصل اليهودي عبدالله بن سلام، ونبذة مختصرة عن السيرة النبوية، وأيضًا نبذة تاريخية لتاريخ السلام حتى وفاة الحسين بن علي حفيد الرسول.

أما المشروع الثاني، فهو وضع ترجمة «كاملة» للقرآن بلغة اللاتين. لتحقيق غرضه انصرف فكر بطرس الموقر إلى مدرسة المترجمين التي أنشأها ريمووند أسقف طليطلة وأتقن أعضاؤها العربية واللاتينية. كلّف 4 أفراد بتلك المهمة الفريدة، هم: هرمن الدلماشي Hermann de Dalmatie، والقسيس الإنجليزي روبرت كِنِت Robert kennet، وبمعاونة بطرس الطليطلي Pedro de Toledo الذي ساعد في التدوين باللاتينية وشخص آخر مسلم يُدعى «محمد» لا نعرف عنه أي معلومة إضافية ولا طبيعة دوره في هذه المهمة.

انتهى العمل بهذه الترجمة سنة 1143م أي قبل 4 سنوات فقط من اندلاع الحرب الصليبية الثانية (1147م-1149م).

تقول الباحثة مولاي سميرة في أطروحتها «الترجمة اللاتينية الأولى للقرآن قراءة في الجذور والخلفيات»، إن هذه الخطوة تعدُّ بمثابة تحول استراتيجي في العلاقة بين الغرب والإسلام، فمن خلال تلك الترجمات تغيّرت العلاقة من المصادمات العسكرية إلى المصادمات الفكرية الجدلية.

ورغم أهمية هذه الخطوة، فإن هذه الترجمة لم تظهر إلى النور بعد إتمامها، وإنما بقيت طيَّ الكتمان قرابة 4 قرون، ولم تُنشر الطبعة الأولى منها إلا عام 1509م بشكلٍ محدود ثم طُبعت مرة أخرى في يناير 1543م في بازل السويسرية بتوجيه من الكاهن الشهير مارتن لوثر، تحت رعاية المستشرق والناشر تيـودور بيبلياندر (Bbibliander. T)، لذا سُميت في الأسواق بـ«ترجمة بيبلياندر» وحرص لوثر على تقديمها بنفسه.

تصفُّح ذلك العمل يكشف أنه أقرب إلى التلخيص الواسع منه إلى الترجمة الحرفية، فهو لم يلتزم كثيرًا بدقة النص القرآني، وإنما منح المترجمون أنفسهم الحق في تغيير صياغات الآيات والتعبير عنها بلغة المترجم.

حملت الترجمة توجهًا تبشيريًا صرفًا لم يخفه بطرس المبجل راعي الترجمة، والذي بادر وقدّمها بدراسة حملت عنوان «ملخص البدعة الكاملة التي أتت بها طائفة الشرقيين الشيطانية»، وخلال عمل «لجنة الترجمة» اعتمدت نهجًا متربصًا بمعاني الآيات كشف عنه أحد أعضائها روبرت الكيتوني، الذي قال:

«لقد كشفت بيدي قانون محمد، ويسّرت فهمه وضممته إلى كنوز اللغة الرومانية لمعرفة أُسس هذا القانون حتى تنجلي أنوار الرب على البشرية ويعرف الناس فجر يسوع»

وبحسب دراسة «الترجمات الأوروبية لمعاني القرآن الكريم في القرون الوسطى وما بعدها» لدكتور عبدالعزيز الحميدي، فلقد وقع أصحاب تلك الترجمة في أخطاء جسيمة خلال إعدادهم لها، مثل حذفهم لسورة الفاتحة من القرآن بسبب اعتقادهم أنه دعاء شبّهوه بدعاء «أبانا الذي في السماوات»، كما جرى تقسيم سور القرآن الست الأولى على نحوٍ أقصر، وهو ما نتج عنه احتواء النسخة المترجمة على 123 سورة على الرغم من أن القرآن لا يضم بين جنباته إلا 114 سورة.

استمرّت هذه الترجمة معتمدة في أوروبا حتى نهاية القرن الـ17، كما اعتُبرت عُمدة لكل محاولات الترجمة التي جرت لاحقًا للقرآن باللغات الأوروبية الهولندية والألمانية والإيطالية.

من تلك الترجمة خرجت أول ترجمة إيطالية للقرآن صدرت عام 1547م، ومن الترجمة الإيطالية ترجم سالمون شفايجر القرآن إلى الألمانية سنة 1616م وهكذا استمرّت السلسلة.

أسباب الظهور، ونتائجه المفزعة

في كتابه «الإسلام في أوروبا خلال العصور الوسطى»، أكد سكوت جروس أستاذ التاريخ في جامعة فوردهام الأمريكية، أن البعض استغرب الاهتمام الكبير الذي أبداه بطرس بالإسلام، والذي لم يكن له نظير في العالم اللاتيني وقتها، الذي اعتبر المسلمين مجرد همج أصحاب «بدعة دينية».

ويرفض جروس التبريرات التي ظهرت باعتبار أن هذا الاهتمام نبع فقط من عقلية الرجل المتسامحة، وإنما يؤكد أن بطرس لم يلجأ لهذه الوسيلة لمواجهة المسلمين إلا بعد أن أثبتت كافة الحملات الصليبية فشلها في هذا الهدف.

وهو ذات المعنى الذي أكّد عليه المستشرق يوهان فوك حين أكد أن «فكرة التبشير هل الدفاع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن»، مضيفًا «اقتنع بطرس المبجل بأنه لا سبيل لمكافحة «هرطقة المحمديين» بعنف السلاح الأعمى وإنما بقوة الكلمة، وتحقيق ذلك يشترط المعرفة المتعمقة في رأي الخصم أولاً، وهكذا وضع خطة العمل على ترجمة القرآن إلى اللاتينية».

فيما أضاف ريتشارد سوذرن (Richard Southern)، صاحب كتاب «صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى»:

رأى بطرس في الإسلام هرطقة مسيحية، هي آخر الهرطقات وأشدها ضررًا واعتقد بطرس أن التحدّي الإسلامي لم يجد إجابة مسيحية مناسبة حتى أيامه، ولهذا أرى أن من الضروري مواجهة هذه الهرطقة التي شكلت المنبع لكل الهرطقات التي غزت المسيحية الأوروبية التقليدية آنذاك، فإذا كان الإسلام لا يُشكل خطرًا عسكريًا مباشرًا فلا شك أنه شديد الخطورة فكريًا، لذا لابد من التعرّف عليه للتمكن من مكافحته.

بذور الحروب الصليبية

لا يُمكن استغراب تلك الأعمال الفكرية الاستقطابية عند قراءة الملابسات الاجتماعية التي خرجت فيها تلك الترجمة، مشهد احتدم فيه الصراع بين المسيحيين والإسلاميين عبر حروبٍ متتالية تساقطت فيها الدماء أنهارًا، عمّقت تلك الحروب العداوة في نفوس كلا الطرفين.

الراهب بطرس مهما حاول ادّعاء التمسّك بالموضوعية خلال إعداد الترجمة فهو نفسه اعتبر سابقًا أنه سيكون «أسوأ من الحمار والماشية إذا ثبت صِدق الإسلام»، ووضع العديد من المصنّفات عمّا سماه «بدعة المسلمين».

وفي حُمى الرسومات الكاريكاتيرية المسيئة للنبي التي خرجت للنور في الدنمارك وفرنسا، تذكّر أحدهم أن أول رسم كاريكاتيري أوروبي سخر من المسلمين إنما ظهر ضمن أحد مؤلفات بطرس المبجل التي وصف النبي فيها بأنه «التلميذ المختار للشيطان».

مثل هذه الكتابات، وغيرها لعبت دورًا كبيرًا في تسطيح النظرة الأوروبية المسيحية للمسلمين الذين نظروا للعرب على أنهم وثنيون مثل قبائل الفايكنج، وأن محمدًا ليس اسم نبيهم وإنما هو اسم معبودهم! لذا أشير إلى المسلمين لعقودٍ في الكتابات الأوروبية بالمحمّديين.

وهو ما دفع جون تولان في كتابه «وجوه محمد: التصورات الغربية لنبي الإسلام من العصور الوسطى إلى اليوم» إلى اعتبار أن هذه الجهود أسهمت بدورٍ كبير في إفساد صورة المسلمين في العقلية الأوروبية حتى اليوم، وكانت التربة الخصبة التي أنشأت ما نعرفه اليوم بــ«الإسلاموفوبيا».