يورجن هابرماس (Habermas) الفيلسوف الألماني الأكثر تأثيراً في عصره، ليس فلسفياً فحسب، ولكن سياسياً أيضاً. ولكن للأسف فإن الجانب السياسي لهابرماس غير معروف بشكل واضح خارج المنطقة الألمانية رغم أنه يمثل نشاطاً أساسياً للرجل، وهذا ما سأحاول أن أعرض له في هذه العجالة، التي أكتبها بمناسبة احتفال هابرماس بعيد ميلاده التسعين.

هابرماس السياسي

ومن الجوانب الملهمة في تفكير هابرماس السياسي معاركه التي لا تنتهي، والتي جعلت هانز جورج جدامر (Gadamer) يجزم في كتابه الحواري «درس القرن» أن هابرماس «سياسي يعمل بالفلسفة».

ورغم أن أطول معارك هابرماس كانت ضد مارتن هيدجر (Heidegger) والخط الفلسفي الذي يمثله، وهذا ما سأشرحه بعد قليل، فإنه تأثر وبعمق بفكرة هيدجر عن عدم إمكانية فصل الفلسفي عن السياسي، وأن أي كاتب أو مفكر لا بد وأن يكون له موقفه السياسي الواضح.

وخلال النصف قرن الأخير، حرص هابرماس على إصدار سلسلة كتب بعنوان: (Kleine politische Schriften) أي «كتابات سياسية موجزة» بلغت حتى الآن ثلاثة عشرة مجلداً. وهو يجمع في هذه المجلدات كتاباته السياسية ويؤرخ بالتالي لكل معاركه ونضالاته ضد من يخالف الخط الفكري الذي يمثله.

وأي مراجعة ببليوجرافية لهذه المجلدات السياسية توقفنا – كما يقول هابرماس نفسه – على احترامه طقس اللحظة السياسية الذي يميز هذه الكتابات. فهو يلاحظ الرأي العام السياسي واتجاهاته ويلتقط أسئلته، ثم يعكف على كل ذلك ليفلسفه ويتجاوب معه.

ورغم أن بعض المفكرين يأخذ على هابرماس هذا الاهتمام اللحظي بالسياسة، فإن مفكرين آخرين مثل ريتشارد رورتي على سبيل المثال، يثمنون هذا الفعل السياسي لهابرماس، ويرونه كما يقول رورتي: «الأستاذ الوحيد الذي حمل عِبء إعادة الروح للفلسفة، خاصة ما كانت قد خسرته من معنى سياسي وفائدة اجتماعية».

خلفية تاريخية

بعد استسلام ألمانيا دون شرط أو قيد في مايو/آيار 1945، سيطر الحلفاء على السلطة فيها وقسموها فيما بينهم، وبدأوا، خاصة في القطاعات الغربية الثلاثة، تنفيذ خطة لألمانيا المستقبلية، وكان لديهم عدة أهداف أهمها: تحطيم الروح العسكرية البروسية، ومحاكمة الطبقة الحاكمة الألمانية ومعاقبتها، وإعادة تربية الألمان على المفاهيم الديمقراطية.

دون فهم هذا السياق التاريخي سيكون من الصعب فهم الفلسفة الألمانية بعد سنة 1945.

وقد سيطر الحلفاء سيطرة كاملة على الأمور التعليمية وقاموا بعملية تطهير كبرى، فأوقفوا وحاكموا كل المفكرين والأساتذة الجامعيين الذين أيدوا النازية وعلى رأسهم مفكرون وكتاب كبار مثل كارل شميت وإرنست يونجر. وكذلك منعوا من التدريس من مالوا إلى النازية لفترة ثم ارتدوا عنها إبان سطوتها، مثل مارتن هيدجر الذي لم يحاكم ولم تمنع كتبه ولكنه منع من التدريس لفترة.

كما تم إحياء فكر ماكس فيبر، وكان معجباً بالتجربة الأمريكية، ودرسها بتمعن في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» الذي وصل فيه لأفكار أعجبت الأمريكان وما زالت.

وقد وجد الأمريكان في ماكس فيبر ضالتهم فعمدوا إلى إحياء الخط الثقافي الذي يمثله وتسييده، مع محاولة إماتة الخط الذي يمثله هيدجر ونيتشه ومن شابههما، ومن ثمّ تحول ماكس فيبر إبان الخمسينيات والستينيات إلى أيقونة ثقافية ورمز فكري للقطيعة الثقافية الألمانية مع الخط الثقافي والتربوي للأفكار القومية النازية.

وفي الوقت نفسه، أعاد الحلفاء الفلاسفة المهجرين مثل أدورنو وهوركهايمر وكارل لوفيث وأعطوهم وظائف جامعية مرموقة ومؤثرة، وأُعيد تأسيس معهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية (سنة 1950) لكنه لم يصل قط لما كان عليه من قبل.

ورغم أن مدرسة فرانكفورت الأولى كانت تعلن أنها ذات اتجاه ماركسي غربي، فإن الثانية تعد بشكل ما امتداداً لأفكار ماكس فيبر عن العقلانية والعلمانية ومشروع الحداثة. المهم أن كل هذا بدأ بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية وتبعاً لخطة منظمة.

ولهذا كله بدأت في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات مرحلة فلسفية ألمانية جديدة سيطر فيها اتجاه فلسفي موجَّه هدفه التركيز على المشاكل الاجتماعية المحلية، ومحاربة الأفكار الفاشية وتأكيد ضرورة التطهر منها، والإبقاء على شعور الإحساس بالذنب متقدًا، وإعلاء قيمة الاعتذار وأخلاقيات الحوار، والمحافظة على البيئة ومقاومة التسلح والأبحاث النووية… الخ.

وفي هذا السياق تحديداً، أفهم اتجاه هابرماس ودوره الفلسفي بوصفه ماركسيًا غربيًا ليبرالي الميول، أخذ الماركسية عن أستاذيه أدورنو وهوركهايمر، ولكنه صبغها بأفكار ماكس فيبر وببراجماتية أمريكية واضحة، مما ساعد – كما يزعم هابرماس نفسه – على معالجة الضعف الديمقراطي في الماركسية[1]. وكذلك أفهم لماذا دارت معظم أعماله الفلسفية حول ضرورة التنوير والعقلانية والتحديث، فهي حسب رأيه مشروعات لم تكتمل نجاحاتها بعد. ولو كانت قد اكتملت لما سيطرت النازية على ألمانيا وما حولها.

معارك تنويرية

من هذه الثوابت السياسية التي تم ترسيخها بعد 1945، ينطلق هابرماس في عمله الفلسفي الذي يقف فيه دائماً موقف المدافع عن هذه الثوابت ويخوض المعارك بسببها. وهنا يمكن الإشارة لجملته التي يقول فيها: «من حسن حظنا أننا نعيش في المجتمعات الغربية»[2].

وهذه الجملة في السياق الهابرماسي تعني أن المجتمعات الغربية تتميز بالعقلانية، وأنه لا يوجد نظام أفضل من الديمقراطية الليبرالية، وأنه ينبغي علينا كعقلاء ألا نطالب بإزالة هذه الأنظمة الديمقراطية الليبرالية وإنما تأكيد ثوابتها وتحسين فاعلياتها. وعلى هذا الأساس، فإنه يقف ضد أي حركة راديكالية ضد النظم الديمقراطية الغربية. وهذا هو الخط العام الذي تنتظم فيه كل معاركه السياسية.

ولهذا السبب تحديداً، كان رأيي أن خير طريقة لفهم التطور الفكري لهابرماس هو أن نتابع معاركه السياسية ومناظراته التنويرية، ويمكن أن نذكر هنا: معركته (من طرف واحد) مع مارتن هيدجر (1953)، وجداله مع هانز ألبرت (1960)، ومع رودي دوتشكه (1967)، ومناظراته مع نيكلاس لومان (1971)، ومع دعاة ما بعد الحداثة (1985)، ومع ديتر هاينرش (1985)، وجدالاته مغ إرنست نولتا إبان معركة المؤرخين (1988)، ومع بيتر سلوتردايك (1999).

هابرماس والثورة الطلابية

والغريب في الأمر أن مواقفه السياسية عادة ما تقابل بداية بالغضب وعدم الفهم، ولكن سرعان ما يظهر أنها آراء نيرة وصائبة. على سبيل المثال موقفه من الثورة الطلابية التي رأى أنها ثورة خاطئة وتحدث في الوقت الخاطئ.

ففي يونيو 1967، وفي أحد المؤتمرات عن «الجامعة والديمقراطية» (في مدينة هانوفر)، صاغ هابرماس الشاب أول انتقاداته القوية ضد مجاميع الطلاب الثائرة، خاصة وأن أغلبها – كما قال هابرماس – يثور لمجرد الثورة، ويضج بنغمة مازوخية تهدف إلى العنف وتنتهجه كسبيل لنيل التقدير وإثارة الانتباه.

وفي حواره مع زعيم الطلاب آنذاك رودي دوتشكه (Dutschke)، قال له هابرماس: «إن ما تدعو إليه سبق وأن سُمي عام 1840 بأوتوبيا اشتراكية، وأنا لا أجد ما يمنعني من أن أسمي ما تهدفون إليه فاشية يسارية»[3].

وقد أثار هذا الرأي غضباً عارماً بين اليسار الألماني حتى أنه أدى في النهاية إلى استقالة هابرماس من عمله الجامعي. ورغم أن هابرماس تراجع عن المصطلح الذي استخدمه فإنه يصر حتى الآن على أن قصده كان صحيحاً، وأنه فقط أساء التعبير بأن أقحم اليسار في التشبيه.

بالطبع مثل هذا الموقف الصارم خدم هابرماس فيما بعد كثيراً، خاصة بعد أن أخذت الأمور منحنى عنيفاً وظهرت منظمة الجيش الأحمر (RAF)، فحينها آمن حتى ناقدي هابرماس بأن رأيه كان صحيحاً، بل أكثر ذكاءً وحنكة، حتى أن البعض اعتذر له علناً – الفيلسوف أوسكار ناجت (Negt) على سبيل المثال.

معركة المؤرخين

وفي عام 1986، كانت «معركة المؤرخين» مع كل من أرنست نولتا (Nolte) وأندرياس هيلجروبر (Hillgruber).

وبداية أشار هابرماس إلى خوفه من وجود ميل خفي لدى الطبقة المثقفة الألمانية، خاصة المؤرخين، إلى أفكار الحزب النازي، وإلى أن كثيرين من جيله يخشون هذا الميل الذي قد يقود ألمانيا مرة أخرى إلى المنحدر.

واتهم هابرماس المؤرخين بأنهم يحاولون إظهار عدم أهمية الرايخ الثالث (فترة الحكم النازي)، وذلك عندما يكتفون بأن يطلقوا عليه اسم «الدولة القومية الألمانية». وطالبهم صراحة بأن تُبقي كتاباتهم ذكرى أوشفيتز حاضرة ولا بد، وأن تدين بوضوح المانوخوليا الجماعية التي شملت ألمانيا والألمان آنذاك، وذلك لأن هذا، كما قال، «مهم للذاكرة الجمعية الألمانية»[4].

ورأى هابرماس أن ألمانيا نجحت في الاندماج في الغرب اقتصادياً وديمقراطياً وعسكرياً، وأن الشعب الألماني أصبح معجباً بتقاليد الديمقراطية الغربية. ولكن السؤال المهم بالنسبة لهابرماس كان: هل حدث هذا عن اقتناع وتجذر أم أنه رضى بالأمر الواقع[5].

وهو يتمنى بالطبع أن تكون الحالة الأولى وأن هنا تحديدًا يأتي دور المؤرخين والمفكرين الألمان. وعن هذه النقطة تحديدًا علق الفيلسوف الألماني رالف داهرندورف (Dahrendorf) بأن هذا هو الطبيعي والمنتظر من هابرماس لأنه ببساطة «حفيد لأديناور»[6]. وكما نعرف فإن السياسي الألماني المحنك كونراد أديناور (Adenauer) كان أول مستشار منتخب لألمانيا سنة 1949، وكان بالتالي مسؤولاً عن خطة إعادة تربية الألمان على الديمقراطية وإدماج ألمانيا مع الديمقراطيات الغربية، وأنه لهذا كان يطلق علي أحياناً «مستشار الحلفاء».

مع نيكلاس لومان

وأشير في النهاية إلى أن هابرماس نادراً ما كان يخسر إحدى معاركه السياسية، وذلك لأسباب كثيرة منها التفوق الثقافي الذي يتمتع به والمتانة الأخلاقية والاندفاع الفكري المهول المؤيد سياسياً بالطبع. ولكن هذا ما حدث مرة عندما قابل نده نيكلاس لومان (Luhmann) الذي يوصف عادة بهيجل القرن العشرين.

وكانت هذه المناظرة حاسمة في تطور هابرماس الفكري؛ حيث بدأ يعيد النظر في نظريته الاجتماعية ويطور معتقداته الفلسفية ليدخل في مرحلة ما بعد ماركسية، ويبدأ الخطوات الأولى والحاسمة في التمهيد لنظريته في «الفعل التواصلي»[7]. وهذا ما يحتاج لمقالات أخرى.

المراجع
  1. Jürgen Habermas: Die neue Unübersichtlichkeit. Kleine Politische Schriften V, Frankfurt/Main 1985. P. 215.
  2. Jürgen Habermas: Erläuterungen zur Diskursethik. Frankfurt 1991, p. 11.
  3. Jürgen Habermas: Protestbewegung und Hochschulreform, Frankfurt/Main 1969. P. 147.
  4. Jürgen Habermas: Eine Art Schadensabwicklung. Kleine Politische Schriften VI, Frankfurt/Main 1987, P. 165.
  5. Jürgen Habermas: Ebd. P. 176.
  6. Ralf Dahrendorf: Zeitgenosse Habermas. In: Merkur, 43. Jahrgang, Juni 1989, 6/478-487.
  7. Walter Reese-Schäfer: Jürgen Habermas. Frankfurt/Main 2001, P. 13.