محتوى مترجم
المصدر
The Conversation
التاريخ
2019/10/27
الكاتب
Michael Hauskeller

تعيش الديمقراطيات الغربية، مؤخرًا، سلسلة من الأزمات وحالة من عدم الاتزان. العالم الليبرالي الذي شُيّد بعد الحرب العالمية الثانية يتداعى، ونحن لا نستطيع فهم ما الذي يجري تحديدًا، ولا نعرف ما الذي يجب القيام به حيال هذا الأمر.

ولكن من حسن حظنا أننا نمتلك إرثاً من الآداب والفلسفات من الماضي يمكن أن تساعدنا على فهم ذلك الوضع وربما في إيجاد سبيل للخروج من تلك الفوضى العارمة.

في البداية وقبل كل شيء، علينا أن نتخلى تمامًا عن فكرة أن العالم مصمم بشكل منطقي أو عقلاني. إن العالم لم يتحوّل إلى اللاعقلانية، في الواقع إن العالم لطالما كان لاعقلانيًا. وقد تطرّق الفيسلوف الألماني آرثر شوبنهاور إلى تلك الفكرة عن طريق ذهابه إلى أن جوهر كل شيء – وهذا يتضمنّا نحن البشر أيضًا – ليس المنطق ولكن الإرادة العمياء. وهذا ما يفسر تلك الحالة المؤسفة التي لطالما عاشها العالم والتي نستمر فيها بتخريب الأمور من خلال التورّط في حروب ونزاعات بلا داع وإلحاق الأذى والتسبب في المعاناة لأنفسنا وللآخرين.

هيرمان ميلفيل صاحب الرواية الرائعة والمربكة «موبي ديك»، يعتقد أن حياتنا مجرد مزحة ثقيلة تمارسها الآلهة علينا وأفضل ما يمكننا فعله هو الانضمام إليهم في تلك المزحة ومشاركتهم ضحكاتهم. بينما أعلن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه موت الإله وعلى إثرهِ نحن الآن أصبحنا أحرارًا في فعل ما يحلو لنا، وفي جعل إرادتنا هي مقياس كل الأشياء. وفي نفس الإطار يعبر الفيلسوف والروائي ألبير كامو عن رؤيته للعالم بقوله إن هذا العالم مكان موحش لا يأبه مطلقًا باحتياجات البشر ورغباتهم.

الذي يمكن أن نتعلمه من هؤلاء الأدباء والفلاسفة في المقام الأول هو التوقف عن التصديق أن كل ما يحدث في العالم هو مُعدّ بشكل عقلاني أو منظم بأي حالٍ من الأحوال. إن الجنون واللاعقلانية هما القاعدة، وليسا الاستثناء.

الحاجة إلى الفوضى

في عالم غير عقلاني فإنه من الطبيعي التوقع بأن الناس هم أيضًا غير عقلانيين بشكل عام. وتلك تحديدًا هي الفكرة الثانية التي نحن بحاجة إلى التخلي عنها. نحن نميل إلى الاعتقاد بأن الناس يقومون بالأشياء ويرغبون في الأشياء لأغراضٍ مفيدة، ولكن في كثير من الأحيان نرغب في أشياء ضارة بشكل واضح دون أي أسباب وجيهة. ونرى ذلك بوضوح عندما يحاول شخصٌ ما التواصل معنا والإشارة إلى الأخطاء التي نقع بها والمغالطات المنطقية التي نرتكبها، ويكون رد الفعل أننا نقوم بمنتهى البساطة بتجاهل كل ذلك ونواصل المُضيّ قُدمًا في طريقنا وكأن شيئًا لم يكن.

هذا قد يكون محيرًا للغاية إذا كنا حقًا كما يقال حيوانات عاقلة، لكننا لسنا كذلك. نحن بالتأكيد بمقدورنا أن نكون عقلانيين ومنطقيين، لكن المشكلة تكمُن في أننا لا نريد أن نكون عقلانيين ومنطقيين دائمًا. إن المنطق يشعرنا بالضجر. وفي بعض الأحيان نشعر بالرغبة وحتى الاحتياج إلى القليل من الفوضى، أو ربما حتى الكثير منها!

فيودور دوستويفسكي الروائي الروسي صاحب رواية الجريمة والعقاب والعديد من الروايات العظيمة الأخرى التي تتحدث عن عالم قد ضلّ طريقه، أشار في روايته الصادرة عام 1864 «مذكرات قبو» إلى أن البشر بشكل عام هم أغبياء بطبعهم وبغيضون، وهو لم يكن متفاجئاً من هذا الأمر على الإطلاق، حيث كتب يقول:

إذا ظهر فجأة من وسط تلك الحالة العالمية التي تدعو لعقلنة كل شيء رجل حقير وجلس أمامنا وبدأ يقول: «حسنًا أيها السادة، لماذا لا نلقي بكل تلك العقلانية إلى التراب بركلة واحدة حاسمة بغرض إرسال كل تلك الألغاز والتعقيدات إلى الجحيم ونعود للعيش مرة أخرى وفق إرادتنا الغبية!»

لا شك في أن مثل هذا الرجل قد ظهر بالفعل، وربما قد ظهر العديد منه، ولكن تلك ليست هي المشكلة، المشكلة تكمن وفقًا لدوستويفسكي، أن مثل هذا الرجل سوف يحظى بأتباع ومريدين دون أدنى شك، لأن ذلك يتوافق مع تركيبة الإنسان.

المبدعون والممثلون

استطاع فريدريك نيتشه هو الآخر معرفة أن كم هو سهل أن نخطئ ونضل الطريق ونتمنى أشياء لا تستحق التمني، ونعجب بأشخاص غير جديرين بالإعجاب، ففي كتابه «هكذا تكلم زرادشت» أخذ يقول:

في هذا العالم حتى أعظم الأشياء تبقى بلا قيمة إذا ظلّت دون شخص ما يُمثّلها، هؤلاء الممثلون يدعونهم الناس بالأشخاص العظماء، بينما قلائل من الناس من يدركون حقًا من هو عظيم، أولئك الذين يقومون بالخلق وليسوا الممثلين. ولكن الأغلبية دائمًا ما تكن الإعجاب للممثلين.

المشكلة التي يتحدث عنها نيشته هي أننا نصنع أصنامًا من هؤلاء الممثلين على حساب المبدعين، هؤلاء الممثلون الذين يتظاهرون بجعل الأشياء أفضل، وهم فقط ماهرون في إقناع الأشخاص بتلك الأفكار بينما هم في الواقع لا يقومون بأي شيء عظيم على الإطلاق. ويصف نيتشه هؤلاء الممثلين بقوله:

هو يمتلك القليل من الضمير، ويؤمن دائمًا بما سوف يجعل الناس يصدقونه أكثر، وغدًا سوف يكون له إيمان جديد، وبعد غد إيمان آخر، وهكذا. هو شخص سريع التعلم والإدراك والتعاطي مع الواقع بحسب ما يحتاجه الناس. الإثبات المنطقي لديه هو مرادف للانزعاج، والإقناع المنطقي لديه هو مرادف اللاعقلانية، والعنف لديه هو أفضل أساليب الإقناع، والحقيقة التي تأتي عن طريق الفهم العميق والتأمل يدعوها كذبة ولا يعطيها أي قيمة. إنه يؤمن فقط بالآلهة التي تحدث ضجة كبيرة في العالم.

وماذا الآن؟

إذًا هل هناك من شيء يمكننا القيام به حيال ذلك؟ كيف يمكننا التعاطي مع عالم غير واضح وضبابي إلى هذه الدرجة؟ كيف يمكننا الحفاظ على عقولنا في عالم يبدو وكأنه يزداد جنونًا كل لحظة؟ هناك العديد من الاستراتيجيات التي أُعدّت من قبل كُتّابنا العظماء: فقد ظن شوبنهاور أن سبيل الخروج من تلك المعضلة هو في سلب الإرادة وإدارة وجوهنا للعالم.

واقترح ميلفيل أنه علينا الانعزال عن العالم والسخرية منه، بينما وجد الروائي الفرنسي مارسيل بروست أن الحل هو في الهروب إلى عالم الفن، واستطاع تولستوي إيجاد المعنى والعزاء في الإيمان، ودوستويفسكي في المحبة اللامتناهية للعالم بأكمله، والفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد وجد الحل في الارتكاز والتعويل على الله، وذهب نيتشه إلى أنه يجب علينا أن نحب أي شيء يحدث لنا ونتعامل معه كما هو، وآمن لودفيج فيتجنشتاين بأنه يتوجب على البشر العيش من أجل كل ما هو جيد وجميل.

ولكن من أجل تغيير العالم نحن ربما بحاجة إلى نهج أكثر حيوية وعنفوانًا. فبدلًا من محاولة الهروب أو قبول ما يحدث لنا في الحياة، نحن بإمكاننا أيضًا – كما يقترح ألبير كامو – خلق عالم ذي معنى بشكل أكبر من خلال التمرد والنضال ضد الظلم في كل أشكاله. مثل هذا التمرد يمكن أن يكون على نطاق متواضع وفي إطار ضيق، ليس من الضروري أن يحدث ضجيجًا صاخبًا وأضواءً براقة، ربما كل ما يحتاجه العالم هو وجود واستمرار مثل تلك الأشكال من التمرد الخافت، فقط وجود – برغم كل تلك التحديات التي نواجهها اليوم – أشخاص ما زالوا قادرين على التصرف بمعقولية وأمانة.

المقطع التالي هو جزء من خطاب ألقاه ويليام جيمس عام 1896 بمناسبة كشف النقاب عن النصب التذكاري لتمثال روبيرت جولد شاو (عسكري أمريكي) في ذكرى الحرب الأهلية الأمريكية بمدينة بوسطن، وهو يلخص الأمر بشكل جيد للغاية:

إن أعداء الدول الأكثر خطورة ليسوا أعداءهم في الخارج، هم يسكنون دائمًا داخل الحدود، وتكون الدول بحاجة دائمًا إلى النجاة من هؤلاء الأعداء الداخليين. إن الأمة التي تستطيع التفوق على الأمم الأخرى هي الأمة التي يستطيع شعبها من خلال حدسه القيام باختيارات صحيحة دائمًا وباستمرار دون الحاجة إلى أي مساعدة خارجية، وذلك يحدث عن طريق الأساليب التقليدية كالنقاشات والكتابات والتي تساهم في إثراء المجتمعات ثقافيًا وتساعده في اختيار القادة الصالحين وتمييزهم بسهولة عن الانتهازيين والفسدة!