منذ عهد طفولتنا الأول ونحن نبحث في الأشياء التي تدور من حولنا، نحاول أن نتتبع حقيقة وأصل كل حركة، ومع كل مرحلة من عمرنا وبتطور معارفنا يزيد إدراكنا للأمور، ويصبح لكل منّا عقيدة وإيمان يرى من خلالهما الحياة، وربما يكون هذا الفضول الفطري هو ذات الدافع الذي كان لدى أجدادنا – المصريين القدماء – عندما سّعوا جاهدين نحو تفسير حقيقة الكون، ومحاولة التطلع إلى القوة الخفية التي تقف وراء حركته الدقيقة، التي تهبهم النعم لسنوات، وتمسكها عنهم أحيانًا.


الطبيعة ترشد القدماء

لقد كان من أعظم الظواهر التي كونت وجدان المصري القديم ودارت حولها حضارته؛ ظاهرتا الشمس والنيل، فكان في قدوم فيضان النيل الخير الوفير، وفي غيابه السنين العجاف، وكانت قوة الشمس وجلالها منبتًا لأفكار فلسفية تفسر ما وراء تلك القوة النابعة من حرارة ذاك النجم البعيد، فصارت العلاقة التي قوامها المحبة والهيبة – محبة الخير وهيبة منعه – هي الحاكمة في تعامل المصري القديم مع كل الظواهر الكبرى التي ترتبط بسير حياته اليومية.

أضحى المصري القديم لذلك يقدس النيل؛ فكان الإله «أوزير» – إله الخضرة والخصوبة – رمزًا له – أما فيضان النيل فقد كَرسَّ له الإله «حالي» الذي عامله بتوقير يليق بواهب الخير، وتقديس يوائم مانعه؛ فخُصص له يوم من كل عام، اعتاد خلاله أن يقذف أجدادنا الكعك وحيوانات الضحية، والفاكهة والتمائم؛ لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليه، وكذلك تماثيل الإناث لتثير إخصاب النيل، وتعددت الآلهة على شاكلة الطرح السابق، فنرى الإله حورس على هيئة «صقر» إلهًا للشمس؛ رمز القوة والسلطة، فيبدو أن خيال سكان وادي النيل نصَّب الصقر القوي إلهًا بعدما شاهدوه يحلق بعيدًا في عنان السماء؛ حيث بدى لهم رفيقًا للشمس.


آلهة في هيئة حيوانية

ظهرت عبادة الأشكال الحيوانية ابتداءً منذ عهد ما قبل الأسرات، وارتبط وجودها في البيئة المصرية بنظرة الهيبة والاحترام؛ نظرًا لضراوتها وقوتها، فعلى صلاية الملك «نعرمر» – الأسرة الأولى – نجد صورًا للأسود والثيران المتوحشة، بينما نجد الرمز الحيواني للمعبود “ست” الذي فشلت جهود علماء المصريات في الوصول للأصل الحيواني لهذا الكائن، الذي ظهر على مقابر الأسرة الأولى في هيئة حيوان يشبه الحمار، له أرجل طويلة وآذان طويلة أيضًا، وذيل قائم، وكان «ست» إله العواصف والصحراء، وست هو من الآلهة الرئيسية في بعض نظريات الخلق، وهو أيضًا أحد أبطال أسطورة أوزيريس، التي سوف نتناولها أيضًا.

صلاية نعرمر – من عهد الأسرة الأولى
الإله ست – إله الصحراء والعواصف

وقد استأنس المصريون الكلاب منذ عهد قديم للغاية، وذلك ربما لفائدتها في الصيد، واختيرت أنواع منها كرموز مقدسة، ومن أشهرها الكلب «أنوبو» والذي أطلق عليه اليونانيون «أنوبيس» الذي مورست عبادته في الإقليم السابع عشر، وقد عرفت عاصمته في عصر اليونانيين «كينوبوليس» أي مدينة الكلاب، وكان «أنوبيس» إلهًا للموتى، وحاميًا للمدافن، وقد يكون سبب ذلك أنه كان ينبش المقابر قديمًا، فكان تقديسه للتقرب منه وإتقاء شره.

الإله أنوبيس – إله الموتى

كانت الكبرى رمزًا للإلهة «وادجت» ويعني اسمها الخضراء، وقد كان مركز عقيدتها «مدينة بوتو» التي كانت عاصمة الشمال، وقد كانت وادجت رمزًا لتلك المملكة، وقد أبقى على لقبها بعد التوحيد السياسي لمملكتي الدلتا والصعيد، وأصبحت مع لقب المعبودة «نخبت» والتي صورت في هيئة طائر الرخمة أنثى النسر – معبودة الصعيد – رمزًا مزدوجًا للقطرين الموحدين.

المعبودتان وادجت ونخبت – مصر السفلى ومصر العليا

أما الإلهة الأنثى «مافدت» ورمزها الحيواني القطة أو ربما النمس، ولقبها «سيدة قلعة الحياة» فقد عرفت منذ الأسرة الأولى بأنها المعبودة الحامية من لدغات الثعابين؛ حيث كانت القطة قاتلة لهذه الكائنات السامة.

المعبودة مافدت

انطبعت أيضًا في مخيلة الفلاحين الشعبيين الخصائص المميزة لبعض الحيوانات التي ارتبطت حياتهم بها، فالثور والكبش قد أثرا على هذه المخيلة بقدراتهما الإنتاجية وقواهما الإخصابية، كما أسلفنا وذكرنا علاقة العجل حابي «أبيس باليونانية» بفيضان النيل – والبقرة حتحور ألهمت عنايتها الفائقة بوليدها وحنوها عليه مفهوم تقديسها كرمز للأمومة، وكذلك كان غموض الدورة الحياتية للضفدعة بالنسبة للمصريين الدافع إلى تقديسها بسبب خصائصها الإخصابية تحت اسم المعبودة «حكات».

المعبودة حتحور في الهيئة الحيوانية والآدمية

أشجار مقدسة

كانت عملية تقديس النباتات حتى بواكير العصور المعروفة نادرة جدًا، وإن كان هناك أدلة كافية لإثبات وجودها، فقد عثر في مقاطعتين بمصر العليا على ساريات تحمل أعلامها رمزًا في شكل أشجار يصعب تمييز نوعها، وقد اعتبرت فيما بعد الأشجار الضخمة مثوى لبعض المعبودات، فهناك شجرة جميز بالقرب من مدينة منف كان يعتقد أنها مستقر لإلهة أنثى طيبة تنفع الناس ببركتها، وقد وحدت تلك المعبودات المرتبطة بالأشجار في عهد الدولة القديمة مع الإلهة «حتحور»، والتي منحت لقبي «سيدة الجميزة»، وقد كان يعتقد أن أرواح الموتى الآتية من المدافن القريبة على هيئة طيور تحتمي في شجرة الجميزة الوارف ظلها؛ حيث تجد حاجتها من الطعام، تقدمها لها الآلهة الخيرة التي تقطن هذه الشجرة، ومن هنا نستطيع أن نفهم منبت احترام وتبجيل الفلاح المصري إلى يومنا هذا شجرة الجميزة، والتي ترمز دائمًا في الفلكلور الشعبي إلى الخير والبركة.

شجرة الجميز في الفن المصري القديم


المدنية الأولى

شجرة الجميز في الفن المصري القديم

لم تكن عقيدة المصريين هشة إلى درجة أنهم اتخذوا من مظاهر الطبيعة آلهة يتقربون إليها فقط، لكن نستطيع أن نقول إن هذه المرحلة كانت مهد الفكر الديني عند القدماء، وتلا تلك المرحلة اجتهادات ارتقت إلى أن ُتصاغ في نظريات تفسر نشأة الكون، تبعها أيضًا أفكار فلسفية عن الآلهة تجلت خلالها لأول مرة عبر مسيرة التاريخ الإنساني «المدون» مسألة التوحيد، وبين جنبات هذا النقاش الفكري الواسع الذي أثاره عقل المصري القديم تتجلى قيم إنسانية تأصلت في حضارة أجدادنا، وتوارثتها البشرية إلى الدرجة التي جعلت مزامير داود التي تعبد بها اليهود تأثرت بأناشيد أخناتون التي تقرب بها إلى المعبود «آتون» إله الشمس – تحديدًا المزمور الرابع بعد المائة.

فنرصد هنا تأثر التراث العبراني بالمدنية المصرية، والذي نقل هذا التأثر بدوره إلى الحضارة الغربية، وهذا الطرح يجعلنا نتأمل في الناموس الإلهي الذي يدير حركة هذا الكون، فما من حضارة تقوم إلا وتدفعها حضارة سابقة، وفي ضوء حركة الكون الدقيقة هذه، كانت الحضارة المصرية هي الأم التليدة التي دفعت أمامها كل الحضارات.

من هنا يمكننا رصد أهم النظريات التي فسَّر خلالها المصريون القدماء كيفية نشأة الكون في الحلقة القادمة من «فلسفة الدين في عقل المصري القديم».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. الديانة المصرية القديمة، ياروسلاف تشرني.
  2. الديانة في مصر القديمة، بيرون شيفر.
  3. فجر الضمير ، جيمس هنري بريستد.
  4. الديانة المصرية القديمة ج1، عبد الحليم نور الدين.
  5. أخناتون وديانة النور، إريك هورنونج.