في اليوم الأول من العام الجديد 2017 خلال انعقاد جلسة لجنة التعليم بمجلس النواب، انتقد المستشار العلمي لرئيس الجمهورية أوضاع التعليم فى مصر واصفًا إياه بالـ «متردي وسيئ للغاية». قبل ذلك، وبالقرب من نهاية العام 2016 ضمن ما أطلق عليه «الحوار الشهري الأول للشباب»، علّق الرئيس السيسي على أوضاع التعليم في مصر قائلا: «ينفع التعليم في إيه مع وطن ضائع»، وذكر أن العديد من الدول الأخرى لم تستطع الصمود أمام الفتن والهزائم التي مرت بها على الرغم من مؤشرات التعليم المرتفعة بها، في مقارنة تبدو غير منصفة للتعليم مقابل الأمن. فهل يوجد بالفعل دور للتعليم يستطيع القيام به فيما يتعلق بتنمية الاقتصاد وإنقاذ أمة من الضياع؟


ماليزيا

مهاتير محمد

عانت ماليزيا من الاستعمار منذ القرن السادس عشر، بدءًا بالاستعمار البرتغالي، ثم الهولندي، وأخيرًا الاستعمار البريطاني الذي بدأ في منتصف القرن السابع عشر، واستمر لمدة تقترب من ثلاثة قرون. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، وقعت ماليزيا تحت الاحتلال الياباني، وبعد استسلام اليابان، عادت بعدها بريطانيا لحكم ماليزيا مرة أخرى، حتى حصلت على كامل استقلالها وأُعلن قيام دولة ماليزيا في 1963. خرجت ماليزيا بعد حصولها على الاستقلال عبارة عن دولة صغيرة تتكون من اتحاد 13 ولاية تعاني من الفقر مع تدنٍ رهيب في مستوى التعليم، لم تكن بها صناعات تذكر، بل كان أبرز أنشطتها يتركز على تصدير المطاط مع عمل بعض سكانها بالصيد والزراعة.

بدأ اهتمام الدولة بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية، ومن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة، فبجانب العلوم والآداب تُدرس مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية بالتوازي مع إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهني، التي تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل. واكب هذا الاهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة التصنيع الثقيل، كما في صناعات الأسمنت والصلب، ثم التوسع في صناعة النسيج والإلكترونيات التي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي، وتستوعب 40% من العمالة. كل ذلك بجانب الحرص على الانفتاح، والاستفادة من النظم التعليمية المتطورة في الدول المتقدمة، وفي هذا السياق تم إنشاء أكثر من 400 معهد وكلية تقدم دراسات وبرامج شراكة مع جامعات دولية.

طبقًا لتقديرات تقرير التنمية البشرية 2006 الصادر عن الأمم المتحدة، فإن 88.7% من عدد السكان فوق سن الخمس عشرة عامًا يستطيعون القراءة والكتابة، أما نسبة ما تنفقه ماليزيا على التعليم فإنه يعادل 28% من إجمالي نفقاتها الحكومية، كذلك يوجد 299 باحث لكل مليون نسمة. في 2012، انخفضت نسبة البطالة خلال الثلث الأول من ذلك العام إلى نحو 2.9%، وهو ما يشير إلى خلو البلاد من البطالة بحسب المعايير الدولية التي تعتبر أي دولة خالية من البطالة إذا قلت نسبة العاطلين فيها عن 4%، كما أن نحو 60% من طلاب الجامعات يحصلون على عمل حال تخرجهم، خصوصًا في مجالات الهندسة والحاسوب والتكنولوجيا.

كان التعليم من أهم المحاور التي اعتمدت عليها ماليزيا لتحقيق نهضتها، واستطاعت أن تتحول من دولة يعاني أكثر من 50% من سكانها من الفقر المدقع إلى واحدة ضمن أفضل عشرين اقتصاد على مستوى العالم.


سنغافورة

تبلغ مساحة سنغافورة 710.3 كم2 فقط، حيث كانت في الأصل أحد الموانئ التي أقامتها الإمبراطورية البريطانية عام 1819م. انضمت سنغافورة إلى ماليزيا في عام 1963، ولكنها طردت بعد عامين واستقلت كدولة عام 1965 مع فقر شديد فى الموارد الطبيعية لديها إلى حد استيراد الرمال لاستخدامها في البناء.

مع بداية الحكم الذاتي لسنغافورة، شهدت بناء العديد من المدارس وتوظيف العديد من المدرسين، مع إصلاحات تركز على الجودة، حيث تم التركيز على المناهج الدراسية وتوحيدها وإنشاء هيئة تفتيش على المدارس. وفي أواخر الثمانينيات، بدأت وزارة التعليم بدراسة الكيفية التي يمكن أن يستجيب بها التعليم للاحتياجات المتغيرة التي طرأت نتيجة تغيرات الاقتصاد.

تمحور الإنفاق على التعليم حول تخريج عمالة منتجة؛ الأمر الذي جعل المقررات تميل إلى العلوم والتخصصات الفنية بدل التخصصات الأخرى الأقل أهمية في تلك المرحلة التنموية، مع التركيز على طرق التدريس وتقليل حجم المحتوى لإفساح مجال للتفكير. ويعتبر المعلمون أهم ركائز العملية التعليمية، وتبذل الدولة قصارى جهدها لدعمهم وتقدير جهودهم من أجل الحصول على تعليم ذي جودة عالية، وذلك بعد عملية انتقاء شاقة. وبلغ معدل الإنفاق الحكومى على التعليم في 2012 حوالى 21% من جملة نفقات الحكومة.

يبلغ عدد سكان سنغافورة حوالي 5 مليون نسمة. وفي أقل من 50 عامًا، تحولت من جزيرة فقيرة يقطنها غالبية أمية من السكان إلى دولة كبرى تضاهي مستويات المعيشة فيها نظيراتها في الدول الصناعية الأكثر تطورًا بنظام تعليمي تسعى العديد من دول العالم إلى محاكاته، وتحتل جامعتان بها مكانة متميزة ضمن أفضل خمسة عشر جامعة عالميًا. ففي مؤشر جودة الحياة لعام 2015، حصلت سنغافورة على المرتبة الأولى في آسيا، والمرتبة السابعة عشرة على مستوى العالم، وبلغ متوسط دخل الفرد حوالي 54 ألف دولار في 2013 بعد أن كان 435 دولار عام 1960.


القيمة الاقتصادية للتعليم

احتل التعليم مساحة كبيرة في الفكر الاقتصادي منذ بداياته وحتى الوقت الحاضر وحظي باهتمام العديد من الدراسات التي حاولت تحديد العلاقة بين التعليم والنمو.

نشأ مع ظهور مدرسة «التجاريين» بداية الاهتمام برأس المال البشرى باعتباره أحد عوامل الإنتاج، ومفهوم التعليم باعتباره نوعًا من أنواع الاستثمار، واعتبروا أن مهارة اليد العاملة المتعلمة هي أساس الثروة في المجتمع. كما أشار آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» إلى أهمية التعليم، منها ما قاله عن أن الرجل المتعلم يعادل إحدى الآلات القيمة، وذكر أن أن للتعليم منافع اجتماعية أخرى تطرق إليها العديد من المفكرين بعد ذلك، وذهبوا إلى القول بأن للتعليم دوره في تحويل اتجاه الأسر من الإنجاب إلى العمل، وبالتالي تحديد النسل، بالإضافة إلى زيادة معدلات الادخار، واعتبروا التعليم من عوامل الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

وكان مارشال أول من تحدث عن التعليم باعتباره نوعًا من أنواع الاستثمار القومي، كما نظر إلي التعليم باعتباره وسيلة هامة لإنتاج الثروة. يضاف كذلك إلى العوائد غير المباشرة للتعليم، زيادة معدلات الوعي أو الرشادة السياسية فيما يتعلق باختيارات المواطنين، وهو ما قد يُغضب السلطة إذا كان عكس سياستها. وما زال حتى الوقت الحاضر يتم وضع العديد من النظريات لاستنباط طرق مختلفة من أجل تقدير العائد على التعليم وأثره على التنمية بشكل أكثر دقة.


التعليم في مصر

إن التعليم هو وسيلة ارتقاء بالشعب وقدرتهم ورفاهيتهم، لذا فإن تركيزنا بعد الاستقلال كان على التعليم حيث خصصنا 25% من الميزانية القومية للتعليم.

بالرغم من ارتفاع نسب الالتحاق بالتعليم في مصر، إلا أن ذلك جاء على حساب نوعية وجودة التعليم التى تتسم بالتدني في كافة المراحل التعليمية لأسباب عديدة منها: نقص الإمكانيات بالمدارس، تدني مستوى المناهج الدراسية، سوء معاملة الطلاب من جانب المدرسين الذين يفتقدون الكفاءة اللازمة للتدريس، بالإضافة إلى ضعف الحوافز المقدمة لهم لتقديم الجودة المطلوبة من التعليم، كذلك عدم التوافق بين احتياجات سوق العمل وخريجي النظام التعليمي.

يعتبر الإنفاق علي التعليم أحد أوجه الإنفاق الحكومي في مصر، فحسب ما جاء فى الموازنة العامة للدولة لعام 2015/2014، يبلغ الإنفاق على قطاع التعليم حوالي 94.4 مليار جنيه (12% من إجمالي الإنفاق) بإجمالي عدد 19 مليون طالب بالمرحلتين ما قبل الجامعي والجامعي، وبالتالي يصبح نصيب الفرد من إجمالي الإنفاق على التعليم حوالي 5000 آلاف جنيه (250 دولار بسعر الصرف الحالي)، وإذا استبعدنا نسبة 85% (حوالى 80 مليار) من إجمالي الإنفاق، وهي النسبة التي تذهب لدفع أجور ورواتب العاملين بالقطاع التعليمي، يصبح واقع ما ينفق مباشرة على الطالب المصري أقل بكثير. وبالطبع تعتبر نسبة 12% ضئيلة جدًا إذا ما قورنت بدول أخرى مثل تونس (21.6%)، المغرب (26%)، الكاميرون (15%).

لا تتوقف تكلفة صفقة شراء سلعة ما عند حساب المبلغ المدفوع مباشرة، بل يضاف إليها تكلفة العائد المتوقع الحصول عليه إذا تم إنفاق نفس المبلغ على سلعة أو خدمة أخرى فيما يعرف بـ «تكلفة الفرصة البديلة».

فما الذي فعلته (قناة السويس الجديدة) بتكلفة 60 مليار جنيه بالوطن الضائع؟ وما الذي ستقدمه (عاصمة إدارية جديدة) تكلف 45 مليار دولار لهذا الوطن؟ وما الذي يساهم في زيادة الشعور بالرضا لدى المواطن الطبيعي؟ عندما يطمئن أن طفله يجد من يقدم له تعليم جيد يساعده على أن يكون فرد ذو مستقبل مبشر، أم عندما يشاهد صور صفقة طائرات رئاسية وحاملتي طائرات (ميسترال) بتكلفة حوالى 3 مليار يورو؟

فما جدوى أي تنمية ما لم يكن محورها وهدفها الأول والأهم هو المواطن وما يقدم له من تعليم وصحة وغذاء؟ فإذا كان التعليم لا يمكننا السيطرة على العالم، فبالتأكيد سيمنع هذا الوطن من الضياع.

تعددت دعوات الرئيس التي تطالب المواطنين بتحمل غياب بعض أساسيات المعيشة من أجل تجاوز الظرف الراهن، فهل جاء الدور على التعليم في قائمة التنازلات من أجل الأمن؟ وهل تعتبر هذه الصفقة رابحة حقًا للمواطن؟

المراجع
  1. صقر،إسراء، " قياس معدل العائد الفردي علي التعليم مع التطبيق علي مصر، رسالة ماجيستير ، كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2011.
  2. الموازنة العامة للدولة
  3. ميسترال أنور السادات.. 20 معلومة لا تعرفها عن حاملة المروحيات العملاقة (فيديو)
  4. وسائل إعلام مصرية تعترف بصفقة الطائرات الروسية
  5. نافذة على تعليم متميز (فنلندا – سنغافورة)
  6. تجارب التنمية (4) ..سنغافورة نموذجاً
  7. الإنفاق العام على التعليم (البنك الدولي)
  8. التعليم والدراسة في ماليزيا