غالبًا ما يقصد القراصنة غزو البحار بحثًا عن كنز مدفون أو بقايا سفينة غارقة كانت تحمل ذهبًا، لكن أحيانًا يغزو بعضهم البحر لهدف أسمى، مساعدة قومه على الفرار من قبضة محتل أو بحثًا عن الحرية بكسر القيود البحرية التي تفرضها الدول الأقوى. صحيح أن لقب قرصان ارتبط في الأذهان بالسرقة وترويع السفن إلا أن القصة أحيانًا ما تكون أكبر من المصطلح، فلا يجب التوقف عند التسمية والانشغال عن حقيقة المُسمى، فيمكن أن يكون نفس الشخص قرصانًا أو منقذًا، حسب الزواية التي تقرأ بها الحدث، لكن الثابت هو الحدث الذي سطرّه التاريخ.

بالتأكيد شاهدت سلسلة أفلام «قراصنة الكاريبي» وتعرف شخصية هيكتور بربروسا، قرصان شعره يميل للحمرة يمشي على ساقٍ واحدة والأخرى خشبية،  كذلك تعرف بالتأكيد القرصان الشرير في أفلام ديزني المشهور بيده ذات اخطاف معدني ولحيته الحمراء أيضًا. تدور الأقاويل أنهما شخصيتان مقتبستان من التاريخ الإسلامي عن أخيّن مسلمين تربعا على عرش البحار لسنوات طويلة، خير الدين بربروسا وأخوه عروج.

بالطبع لم يصدر تصريح رسمي من صُناع سلسلة قراصنة الكاريبي أو من المسئولين في ديزني حول نفي أو إثبات تلك النقطة. من غير المتوقع أن يصدر شيء رسمي بخصوص هذه الجزئية، ومن الواجب ألا يكون الانشغال بنفي أو إثبات هل الشخصيات الكرتونية والسينمائية مقتبسة بالفعل من الأخوّين بربروسا سواء بحسن نية أو بنيّة متعمدة لتشويههما، إنما اللائق أن نبحث في سيرة الأخوين لنعرف من هما، وهل حقًا وصل بهما الشهرة إلى حد أن يتحولا لأساطير تخلد عبر الزمن سواء بالمدح أو القدح.

لقب بربروسا تعرفه دائرة المعارف البريطانية كلقب لفردين، انتقل من عّروج إلى خير الدين بعد وفاة الأول. وأصله «بابا آروس»، أي الأب عَرّوج في لغة الأندلسيين الأوروبيين كنايةً عن احترامهم الشديد له، ينبع احترامهم له من دوره في تخليصهم من ويّلات محاكم التفتيش الإسبانية. لكن الإيطاليين حرّفوا الاسم لشكله المعروف حاليًا بربروسا، وتعني الرجل ذو اللحية الحمراء.

كيف فقد القرصان ذراعه

 عّرَوج و إلياس وإسحاق وخُسرف، الإخوة الأربعة من مواليد جزيرة ميدللي شمال بحر إيجه. إسحاق أول من عمل فيهم على السفن في التجارة البحرية بين مصر والشام والأناضول، واصطحب معه لاحقًا أخاه عروج. لفت عروج أنظار الأمير قرقود، شقيق السلطان العثماني سليم الأول آنذاك، لكثرة سؤاله عن البحّارة وأحوالهم. قرّبه قرقود منه ومنحه متسعًا من الوقت ليتعلم أحوال البحارة، لكنّه وقع في النهاية أسيرًا على يد قراصنة جزيرة رودس.

استطاع الفرار منهم وركب سفينة متجهةً للإسكندرية، هناك عمل في خدمة السلطان المملوكي قنصوه الغوري. أُعجب قنصوه بغزارة معرفته وشجاعته فوضعه على رأس أسطول صغير في البحر الأحمر. سنوات قليلة وعاد عروج ليكون في خدمة معلّمه الأول قرقود، فوجهّه الأخير للانطلاق نحو غرب البحر المتوسط ليجاهد بخبرته وسفن الأسطول ضد أعداء الدولة العثمانية. سمع عروج وأطاع، وخاض أمواج المتوسط حتى وصل إلى اليونان فأغار على سواحلها ودخلها ليعود إلى مسقط رأسه، ميدللي، بعد غياب 11 عامًا.

لكن لم يستمر هدوء أمواج حياة عروج، قتل سليم الأول أخاه قرقود عام 1512 ففقد عروج داعمه الأكبر والوحيد، وبات جليًا أن سليم الأول لا يُرحب بوجوده تحت لوائه. في نفس العام وصل عروج إلى جزيرة جربة وجعلها منطلق غزواته البحرية ومُستقر غنائمه، كما شهدت الجزيرة اتحاده مع أخيه خُسرف، أو خضر في بعض المصادر، الذي أصبح اسمه خير الدين.

بعد اتحادهما قررا أن يضيفا نشاطًا جديدًا بجانب الإغارة على الجزر والسفن الأوروبية، تحرير السواحل الإفريقية من الاحتلال الإسباني وبالتبعية إنقاذ مسلمي الأندلس ونقلهم إلى المدن المختلفة، ووضعوا هدفهم الأكبر وهو رأس شارلكان ملك إسبانيا.

وفي عام 1514 حاول الأخوان تحرير مدينة بجايا فحاصروها، لكن المدينة كانت أقوى منهما فهُزما، وفقد عروج ذراعه في هذا القتال. ومن هنا وُلدت صورة القرصان ذي اللحية الحمراء وصاحب اليد المقطوعة التي يحل محلها خطاف معدني أو يد فضية. بعد هذه الهزيمة حقق الأخوان انتصارًا معقولًا بالاستيلاء على قلعة جيجل وجعلوها قاعدة ثانية بجانب قاعدة جربة.

بربروسا يطلب التبعية للدولة العثمانية

بعد توسعهما المُطرد رأى سليم الأول أن استمالتهما من جديد سوف تمنحه أفضليةً على الإسبان، تبادل الطرفان الهدايا ومنحهما سليم سفنتين كبيرتيّن فصارت العلاقة بينه وبين الأخوين شبه رسمية.

ذاع صيت الأخوين أكثر حتى أن الجزائر أرسلت إليهما تستغيث بهما من الخطر الإسباني، فسارع الأخوان بربروس لنجدتهم. بات الأخوان بمثابة الحكّام الفعلين للجزائر، وأصبح عروج سيد الجزائر، إلا أن سالم التومي، حاكم الجزائر رسميًا، لم يرض بسيادة عروج وقاد تمردًا ضدّه.

استصدر عروج فتوى من علماء الجزائر بجواز قتل التومي، فقتله وبُويع عروج سلطانًا على الجزائر. غضب يحيى بن سالم التومي، حاكم تلمسان، وتحالف مع الإسبان وقاموا سويًا بحملة ضد الجزائر عام 1516 إلا أن الأتراك وبعض الأندلسيين وأهالي القبائل تمكنوا من التصدي لها. في العام اللاحق قاد الإسبان حملة أخرى فهزمها عروج أيضًا، وفي العام الذي يليه قاد عروج حملة هجومية إلى تلمسان، فانتهت بهزيمة جيشه ومقتله.

لم يكن الوقت وقت إظهار الخور والضعف، بل لم يكن لنا وقت للبكاء.

هكذا كتب خير الدين في مذكراته بعد وفاة أخيه، إذا استهان به الإسبان والجزائريون على حد سواء، واقتنعوا أن وفاة عروج تعني بداية سيطرة الإسبان على البلاد. أمام نبرة الضعف التي ارتفعت في أوساط الشعب لم يجد خير الدين بُدًا من التفكير في طريقة يستمد بها القوة من قوى أكبر. أقنع خير الدين وجهاء وأعيان الجزائر أن يوقعوا عريضة يطالبون بها السلطان سليم الأول باعتماد الجزائر كولاية تابعة للدولة العثمانية، فوافق سليم وعينّ خير الدين واليًا عليها وأرسله له 2000 جندي إنكشاري.

معركة بريفيزا: فخر البحرية العثمانية

القوة المتنامية لخير الدين أزعجت شارلكان فتحالف مع العديد من الممالك الأوروبية وبابا روما الثالث لتسيير حملة صليبية لقتال خيرالدين، الذي أصبح هو الآخر حاملًا للقب بربروسا. حملة شارلكان كانت تحت اسم «أسطول العُصبة المقدسة» تكونت من 600 سفينة  تحمل 60 ألف مقاتل بقيادة الأدميرال الشهير أندري دوريا. انتهت المعركة بهزيمة مخزية لدوريا وفراره من المعركة وفوز خير الدين بأسر 3000 جندي مسيحي ودون خسارة قطعة حربية واحدة من أصل 122 سفينة فحسب، وباتت معركة بريفيزا أو بروزة حدثًا تاريخيًا ومعركةً فريدةً في تاريخ الحروب البحرية.

أعجب السلطان العثماني، سليمان القانوني آنذاك، بشجاعة بربروسا واستدعاه إلى عاصمة الدولة العثمانية وعيّنه قائدًا عامًا للأسطول العثماني. ترك خير الدين ولاية الجزائر لابنه حسن، وقاد الأسطول العثماني بحماس وتفانٍ حتى أنّه اقترح على إبراهيم باشا، الصدر الأعظم، فكرة تنظيم حملات بحرية إلى جميع دول العالم، لكن الباشا رفض الفكرة تمامًا.  واكتفى خير الدين بفتح العديد من الجزر والقلاع على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه.

شارلكان ودوريا لم ينسيا هزيمتها فقررا معاودة الكرةّ، لكن هذه المرة فكرا في حيلة جديدة. أرسل شارلكان إلى حسن يستميله ويُمنيّه، وافق حسن على التحالف ضد أبيه، ووعد شارلكان بعدم التصدي لهم حال دخولهم الجزائر. فرح شارلكان بالتحالف غير المتوقع وقاد أسطوله بنفسه هذه المرة حتى وصلوا الجزائر.

في الجزائر صُعق شارلكان حين أدرك أنه وقع فريسةً لحيلة حسن بن خير الدين، فقد أعدّ الأخير عدته لقتاله وحصاره. أمام المكيدة المحكمة لم يستطيع شارلكان الفرار، وتجرّع هزيمة ساحقة. تروي المصادر أن شارلكان خلع تاجه ورماه في البحر لشدة غيظه، وتراجعت من بعدها سطوة الإسبان وخفت خطرهم.

لذا استدار خير الدين إلى تقوية وتطوير الأسطول العثماني حتى وفاته المنية عام 1546 في أسطنبول التي دفن بها.

منقذ الأندلسيين والفرنسيين

دُفن خير الدين لكن لم تُدفن سيرته ولا صورته، فظلت سيرته موجودةً في تاريخ الطرفين، الأندلسيين والإسبان، وكل طرف يرويها بطريقته. 70 ألف أندلسي يشكرونه على إنقاذهم في أسطول مكون من 36 سفينة خاض سبع رحلات في عامٍ واحد لإنقاذهم.

ويذكره الفرنسيون بأنه من أنقذهم من الإسبان والإيطاليين. عام 1525 انتصر شارلكان على فرانسوا الأول وأسره ثم أجبره على توقيع اتفاقية مدريد التي تنازل بموجبها الفرنسيون للإسبان عن الكثير. تحامل الفرنسيون وتحملّوا كثيرًا حتى طفح كيلهم فأرسل فرانسوا رسالة استغاثة لسليمان القانوني يدعوه للتحالف لطرد الإسبان.

وافق القانونيّ وبعث خير الدين بربروسا بأسطول مكون من 100 سفينة و30 ألف جندي لتحرير مدينة نيس من قبضة شارلكان. نجح بربروسا في مهمته وطرد الإسبان من المدينة فعرض عليه فرانسوا إقامة قاعدة عثمانية في ميناء طولون لصد أي هجمات رومانية أو إسبانية لاحقة، فوافق خير الدين بعد موافقة القانوني وظل التحالف قائمًا طوال 3 قرون حتى نقضه نابليون بونابارت بمهاجمته مصر، إحدى الولايات العثمانية، منطلقًا من ميناء طولون نفسه.

 إلا أن الصوت الأعلى حاليًا بات للصوت الغربي الذي يشوه تاريخه، حتى صارت كلمة «ذو اللحية الحمراء» علامةً على الشر والنهب.