كم مرة ذهبت إلى الطبيب وعند صرفك لوصفته الطبية وجدت الصيدلاني يقول لك: إن هذا الدواء غير متوفر ويمكنني إعطاؤك آخر يحل محله؟

كم مرة صرفت وصفتك الطبية ثم علمت أن الدواء المصروف ليس نفس الاسم الموصوف؟ هل من حق الصيدلاني فعل ذلك؟ هل من حق الطبيب ابتداءً أن يحدد دواء من إنتاج شركة بعينها؟ هل من حقك عند التداوي أن تختار علاجك بنفسك؟

والسؤال المهم: هل هناك فرق بين الشركات ذات الأسماء العالمية البراقة في عالم التصنيع وأخرى ذات إمكانيات محلية في العالم العربي؟

في هذا المقال نناقش هذه الأبعاد وغيرها، لنصل معًا إلى إجابات شافية. تلخص منهجية المقال في كلمتين: «الشمول والمقاصدية»، حيث أهدف إلى عرض شامل لوجهات النظر مع توضيح الطرف الغائب عن نظر المريض، وهو شركات التصنيع الدوائي بشقيها التقني والتجاري.

كما أستهدف المقصد والهدف وراء الحق –حق الطبيب والصيدلاني- وفلسفة أي إجراء أو أداء يهدف لأداء كل حق. وذلك تحت مظلة صاحب الحق الأصلي: المريض، فالمهن الطبية كلها تهدف إلى خدمة المريض بتوفير أجود علاج بأيسر وسيلة وأنسب تكلفة، ولذا فلابد من التتبع الدقيق لهذا المقصد في كل أركان العملية العلاجية.

ورغم أن المقال ذو أساس علمي فإنه يصنف كمقال رأي، وهو لا يقطع كل الطريق بل ينير مصباحًا في أوله.


نشأة مهنة الصيدلة وتطورها

فصل العرب مهنة تحضير الأعشاب –كشكل أولي لمهنة الصيدلة- عن الطب.[1]

ارتباط الصيدلة بالأعشاب والنباتات أمر طريف، بل إن تسمية الصيدلاني بـ «الصندلاني» صحيحة كما نُقل عن أكثر من معجم[2]، وربما كان ذلك نسبة إلى خشب الصندل[3] الذي ثبتت له فوائد علاجية[4] حتى أنه قد وجد له نشاط مضاد للسرطان.[5]

إلا أن الأهم هو التساؤل: لِمَ لا يقوم الطبيب بالدورين، التحضير والصرف، بالإضافة لوصف العلاج؟

يعيب هذه الطريقة ثلاثة أمور أساسية، أولها المسئولية الفردية الكاملة مما يعظم فرصة الخطأ، وثانيها تطور المستحضرات العلاجية وفنون تحضيرها وتصنيعها مما يعيق الإلمام المتقن بها– إلى جوار إتقان التشخيص ووصف العلاج- وثالثها القوة المطلقة للطبيب في هذه الحالة مما قد يرفع نسبة وصف الأدوية والمضادات الحيوية.[6]

بفهم هذه المشكلات الثلاث، يمكننا فهم دور الصيدلاني على الحقيقة، فأساس وجوده– ضمن فريق العمل الطبي- هو خدمة المريض بالتغلب على قصور الطريقة القديمة، ولذا فأي حق أو تشريع يحدد دوره قائم على فلسفة نشأة المهنة من الأصل، وأي تأهيل علمي وأكاديمي له لابد أن يصب في ملء الفجوة المعرفية والمهارية فيؤهله لسد هذا القصور.


هل البديل بديل حقًا؟

في البداية علينا أن نوضح ما هو الدواء الذي نصرفه من الصيدليات.

باختصار، يتكون المستحضر الدوائي من المادة / المواد الفعالة ممزوجة بمواد تكميلية تخدم وظيفتها كما تخدم وصولها للشكل الدوائي النهائي مثل الأقراص. فمثلًا: مادة الباراسيتامول المسكنة للألم مادة فعالة لأقراص مشهورة عالميًا. الذي جعل مادة الباراسيتامول أقراصًا قابلة للتناول هو مزجها بمواد تكميلية منتقاة بعناية وبخطوات دقيقة.

لذا، فأي شركة منافسة يمكنها أن تحضر أقراصًا من نفس المادة الفعالة وتطرحها في السوق وفق ضوابط علمية وإجرائية تختلف في التفصيلات حسب دولة التصنيع.

فما الفرق إذن بين هذه المستحضرات؟ وإذا أسمينا المنتج الأول الخاص بالشركة المخترعة بالمنتج الأصلي والثاني بالمنتج البديل فهل نعتبر منتج الشركة الثالثة هو البديل لمنتج الشركة الثانية؟ كيف نحدد الأصلي والبديل في هذه الحالة؟ بالطبع ليس الأمر لعبة أسبقية ولا يمكن أن يتم التعامل مع صحة المريض بهذا الشكل، بل إن تسمية «البديل» من الأساس هنا تحتاج إلى تعقيب.

فصحيح أن الدواء «الأصلي» – وأعني به منتج الشركة الأولى صاحبة براءة الاختراع – ليحصل على الترخيص يمر باختبارات ودراسات غاية في التعقيد والدقة. وهو ما لا تقوم به الشركات التالية، إلا أنها تلتزم للحصول على ترخيص منتجها بإثبات تشابه منتجها الدوائي مع المنتج الأصلي عبر ما يعرف بدراسة التكافؤ الحيوي، وهي دراسة عالية التكلفة تقوم على مقارنة تركيز المادة الفعالة في دم الإنسان بعد أن يتناول الدواء «الجديد» مقارنة بتركيزها بعد تناول الدواء «الأصلي» وهو ما يعني في حالة التشابه أنهما متكافئان علاجيًا. ولذلك فإن ما يطلق عليه في بعض المجتمعات العربية «بديلًا» هو في الحقيقة «مكافئ» أو «مثيل».[7]


مصادر التمايز

إلى هنا والأمر يبدو مثاليًا. الدواء الجديد مكافئ علاجيًا للدواء الأصلي، ولذلك فلا مشكلة إذن في أن يحصل المريض على أيهما. لكن كثيرًا من الثغرات للأسف تهدد هذه الصورة المثالية.

مثلًا في دول المنطقة العربية المعروف أكثرها بضعف الإمكانات والمشتهر عن أكثرها الفساد الإداري. ماذا يضمن دقة ونزاهة دراسة التكافؤ الحيوي؟ ثم ماذا يحفظ استمرار جودة المنتج بعد الحصول على الترخيص؟[8]

الحقيقة أن عديدًا من مصادر التمايز يجعل الأمر غير محسوم ومحل نقاش، خاصة في الدول النامية، ولذلك تفصيل:

أولًا: قوة نظام الجودة داخل المصنع

تتضافر جهود إدارات عديدة للوصول للمنتج الدوائي النهائي واختصار ذلك بالشكل التوضيحي التالي:

ضمان جودة كل المراحل بتفصيلاتها وضمان حسن تدريب الأفراد على مهامهم ترفع جودة المنتج النهائي ولذلك فهو مصدر أساسي من مصادر التمايز بين الشركات.

ثانيًا: مصدر المواد الخام «الفعالة وغير الفعالة»

يشتري المصنع المواد الخام من مصادر متفاوتة الجودة. ويلعب عامل السعر دورًا أساسيًا في الاختيار في الدول الفقيرة.

ثالثًا: رقابة الجودة

أن تختبر نفسك أمر شديد الأهمية، ولذلك فلا يخلو المصنع من رقابة داخلية على جودته، لكن هل يقوم المصنع بالالتزام الدقيق بأحدث نسخ الدساتير العالمية للأدوية، وهل أجهزته المعملية مجهزة لتنفيذ الاختبارات؟

هل يحافظ على اختبار جميع مراحل التصنيع البينية حتى يتأكد من صلاحية العملية الإنتاجية؟ تتفاوت الإمكانيات – لاسيما في الدول النامية – وعليها فقد تتفاوت قوة الرقابة بين الشركات.

رابعًا: الأبحاث والتطوير

يتمحور نجاح المستحضر على فن تحضيره، وبالطبع تتفاوت إمكانيات الأبحاث، وقد يشوبها القصور في الدول النامية، كما تتفاوت قدرات الباحثين مطوري المستحضرات، ولذلك فقوة فريق الأبحاث والتطوير فرصة دائمة لتميز الشركات وهي مصدر من مصادر الاختلاف الرئيسة.

خامسًا: الإنتاج التجاري

يفرد العلم الصيدلاني موضوعًا مستقلًا لتنفيذ الانتقال من مستوى التجريب المعملي صغير الحجم إلى الإنتاج التجاري كبير الحجم، ولذلك فالتتبع الدقيق لهذا الأمر وحل مشكلاته أمر شديد الحساسية. كما أن ضمان اتباع فريق عمل الإنتاج لخطوات الإنتاج بنفس الدقة في كل مرة أمر شديد الخطورة وضرورة محورية لاستمرار المستحضر بجودته الأولى التي سمحت له بالترخيص.[9]

سادسًا: جودة التخزين

إن لم ينجح المصنع بعد كل الجهد المبذول في الحفاظ على منتجه بشروط تخزين سليمة، فربما يضيع كل جهده هباء. ولذا فإن جودة نظام التخزين عنصر أساسي في جودة المنتج الدوائي.


من له حق التفضيل بين المنتجات الدوائية

كما سبق فالدواء من حيث مادته الفعالة يمكن أن ينتج عبر شركات مختلفة متفاوتة في الإمكانيات والجودة. والتمييز بينهم عملية تخضع لكثير من التعقيدات الفنية ولتفاصيل سوقية عديدة، فمن له حق التفضيل بين المنتجات المختلفة؟

هل الطبيب لديه هذا الحق، بحكم أنه هو من يتابع المريض حتى الشفاء، فيرى تحسن مرضاه بعد منتج بعينه؟ ولكن من ناحية أخرى، فالطبيب غير مُلم بكثير من تفصيلات جودة التصنيع التي هي في الأصل علوم وفنون صيدلانية، كما أنه قد يتعرض إلى ضغوط وإغراءات مادية من الشركات ليقوم بوصف منتجاتهم ما قد يؤدي لتحيز غير مبني على العلم. والأهم أنه غير واضح للمريض الذي يفترض في الطبيب الحياد.

إذن فهل الصيدلاني هو من له هذا الحق؟ بحكم أنه من صميم دراسته، وربما لأن وصوله لتفاصيل جودة تصنيع هذه الشركة أو تلك أيسر عليه من الطبيب، ولأنه وإن كان قابلًا للانحياز أيضًا إلا أن البعد التجاري في جانبه أكثر وضوحًا أمام المريض.

ولكن الصيدلاني ربما لا يرى المريض بعد صرف الدواء، ولو رآه لما تمكن من تمييز تحسن حالته إكلينيكيًا، فبالتالي تظل قدرته محصورة عند التوقع النظري لا النتائج الأكيدة.

وهناك بعد آخر يعيق انفراد أيهما بالقرار في كثير من الدول العربية وهو عدم جودة التواصل بين الطبيب والصيدلاني في كثير من الأحيان، فربما يكون منتج أحد الشركات مشتملًا على مادة تكميلية لا تفضل للمرأة الحامل أو لحديث الولادة[10] أو لشخص يعاني من حساسية لمادة بعينها[11] ولا يقوم الطبيب بتوضيح ذلك للصيدلي معتمدًا على وصفه لمستحضر بعينه أو أن يحدث العكس ولا ينتبه الطبيب لتعارض مادة تكميلية مع مريضه ولا يراجعه الصيدلاني في ذلك.

الحقيقة أن الانفراد بالقرار لأي من الطبيب أو الصيدلاني أمر غير صحيح، بل إن انفرادهما معًا بالقرار دون المريض، صاحب الحق الأصلي في التداوي، لأمر ظالم! خاصة مع سوء الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول العربية، ما يجعل انفراد أيهما بالقرار دون اعتبار عنصر السعر أمرًا مضرًا.


خاتمة

مراحل تصنيع المستحضر الدوائي

وخلاصة الرأي في هذا المقال – وهذا ليس حسمًا للنقاش بل ابتداء له – أن البداية في ترك الحرص على الانفراد بالقرار وإشراك المريض نفسه في عملية الاختيار –حسب حالته وقدرته- وأن يبتعد المريض بنفسه عن الطبيب أو الصيدلاني الذي يمارس دورًا «كهنوتيًا» في وصفه للعلاج أو صرفه، وأن يحرص على فهم الحد الأدنى من كليهما.

كما أنه من المهم خلق جو إيجابي يتيح التواصل بين الطبيب والصيدلاني باحترافية تكاملية لا تنافسية. وعلى الطبيب والصيدلاني معاملة المريض على أنه -وإن لم يكن متخصصًا- صاحب الحق الأصلي في اختيار علاجه وأن دورهما هو تقديم الدعم العلمي والفني الذي يحقق له هذا الهدف.

كما أنه لا بد من توعية القارئ العربي أن المنتجات التي تحتوي على نفس المادة الفعالة بنفس التركيز ونفس الشكل الدوائي، منتجات في الأصل متكافئة يغني أحدها عن الآخر، ولذلك لا داعي للمبالغة في الحرص على اسم مستحضر بعينه، وبخاصة في الحالات المرضية غير الخطيرة كنزلات البرد والآلام العابرة.

وعليه، فباستثناء بعض الحالات المرضية المزمنة أو الشديدة الحساسية للتفاوت القليل في الجودة، والحالات الخاصة التي قد تتأثر باختلاف بعض المواد التكميلية، فالأصل أن يترك الطبيب للصيدلاني اختيار المستحضر الدوائي الأنسب – بالتعاون مع المريض نفسه بالطبع – تغليبًا لحرية المريض في التقييم بناء على السعر وتفعيلًا لدور الصيدلاني في اختصاصه ودفعًا لشبهة التعاون التجاري بين الطبيب والشركات الدوائية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. لمزيد من التفاصيل
  2. لمزيد من التفاصيل
  3. لمزيد من التفاصيل
  4. لمزيد من التفاصيل
  5. لمزيد من التفاصيل
  6. لمزيد من التفاصيل
  7. لمزيد من التفاصيل
  8. لمزيد من التفاصيل
  9. لمزيد من التفاصيل
  10. لمزيد من التفاصيل
  11. لمزيد من التفاصيل