خبرٌ سار يجعلنا سعداء، وخبرٌ حزين يجعلنا في غاية التعاسة. تتقاذفنا الأخبار يمينًا ويسارًا، فتُفقدنا القدرة على السيطرة على حياتنا، لأننا تركنا العوامل الخارجية تغير من أمزجتنا وتجعلنا في كثير من الأحيان شديدي الحساسية، شديدي العصبية تجاه كل ما ومن يخالفنا الرأي. فالكثيرون منا يُعرِّضون أنفسهم للأخبار يوميًا بصورة مرضية، ويخضعون أنفسهم طوعًا لكميات مهولة من الأخبار التي في أغلبها «قيل وقال»، بل ينخرطون هم بأنفسهم في التعليق على الأحداث ليصبحوا جزءًا لا يتجزأ منها، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.

هناك مقولة متعارف عليها في مصر، مفادها:

التافهون هم فقط من يهنئون براحة البال، أما نحن فمادمنا نحمل هموم العالم على أكتافنا فسنظل تعساء إلى الأبد.

فالأحداث السياسية إذا ما أصبحت شاغلنا الأول فستتحول حياتنا إلى جحيم. لكن دعنا نتوقف لحظة لنتساءل: هل أن تعيش لنفسك فقط ولا تدع الأحداث من حولك تؤثر على حالتك النفسية يجعل منك شخصًا أنانيًا أم أنها محاولة دءوبة للسيطرة على الحياة؟ هل تحرير المرء لنفسه من تأثير نشرات الأخبار عليه تفاهة أم أنها عين النضج؟


الاهتمام بالسياسة ومدى رضاء الإنسان عن حياته

هكذا افتتح عالم النفس «أرثر بروكس» مقالته على موقع نيويورك تايمز، ووضعها فرضيته التي اختبرها حين قام بتحليل بيانات مسح اجتماعي قام بإعداده مركز أبحاث الرأي الوطني في جامعة شيكاغو عام 2014، وذلك لمعرفة كيف يرتبط الاهتمام بالأخبار السياسية بمدى رضاء الإنسان عن حياته.

كانت النتيجة أن الذين يولون السياسة اهتمامًا أكبر من غيرهم كانوا في فئة «غير سعيد جدًا» بنحو 8% أكثر ممن تسيطر على حياتهم عوامل خارجية أخرى. لكن هذه النتيجة لم يكن من الممكن الأخذ بها كمُسلم، فالأمر كان محض عينة يحلل بياناتها. إلا أن العلوم السلوكية قد أظهرت أن العلاقة بين السياسة والتعاسة سببية فقط. أي أن السياسة سبب في تعاسة الإنسان كغيرها من القوى الخارجية وهو ما يسميه علماء النفس «مركز التحكم الخارجي». أي وجود عناصر وعوامل خارجية تقوم بدورها في التحكم والسيطرة على حياة الإنسان من بينها السياسة.

في عام 2004، صدرت ورقة بحثية شهيرة في مجلة «الشخصية وعلم النفس الاجتماعي» أعدها ثلاثة علماء نفس اجتماعي؛ قاموا فيها بدراسة مسوحات لطلاب جامعات لقياس مدى الارتباط بين التحصيل الأكاديمي والحالة النفسية للطالب مع التحكم في ظروف الحياة الأخرى. وقارنوا فيها بين الأشخاص الذين ربطوا مصائرهم بالحظ والقوى الخارجية وأولئك الذين اعتقدوا أنهم أكثر قدرة على التحكم في حياتهم.

توصلوا إلى وجود علاقة ارتباطية بين المستوى الأكاديمي السيئ ودرجة التوتر ومستوى الاكتئاب، فكلما ساء المستوى الأكاديمي زاد التوتر وارتفع مستوى الاكتئاب لدى الطالب. الأمر الذي قاسه بروكس على ارتباط الاهتمام بالأخبار والسياسة بحالة الفرد النفسية ومستوى اكتئابه ليؤكد به فرضيته.


الآثار السلبية لإدمان تصفح الأخبار

يشير «جراهام دافي»، أستاذ فخري في علم النفس بجامعة ساسكس في المملكة المتحدة، إلى أن الطريقة التي تُقدم بها الأخبار والطريقة التي نصل بها إلى الأخبار تغيرت بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، وأن هذه التغييرات تؤذي في كثير من الأحيان صحة الفرد العقلية والنفسية والجسدية.

1. الآثار الجسدية:

اصطلح علماء النفس على تسمية الحالة المزاجية السيئة المرتبطة بالأحداث السياسية بـ «الاكتئاب السياسي». وقد ربطوا هذا الاضطراب المزاجي بأعراض أخرى كالكوابيس والأرق ومشاكل الجهاز الهضمي والصداع والقلق المزمن وضيق الصدر، بل الشعور بالهلوسة وإحساس المرء في حالات متقدمة أنه يموت بالبطيء، وأن الأحداث والقضايا التي يحمل همها تأكل من روحه يوميًا، وكذلك يصل الأمر إلى رغبة الإنسان في العزلة وتقليص علاقاته الاجتماعية وتفاعلاته مع الآخرين.

وعلى الرغم من تداخل هذه الأعراض مع الاضطرابات النفسية المعروفة، فإن المشاعر السلبية التي تتولد بسبب الأجواء السياسية تجعل تلك الأعراض أشد ضراوة وأكثر تأثيرًا، إذ تتسبب الأخبار السلبية في رفع مستوى الكورتيزون في الجسم، الأمر الذي بدوره يضعف جهاز المناعة ويعيق إفراز هرمونات النمو.

حيث يجد الإنسان جسمه في حالة إرهاق مزمن، فارتفاع مستوى الكورتيزون يتسبب في عسر الهضم وضعف نمو (خلايا الجلد والشعر والعظام) إلى جانب العصبية وقابلية الجسم للإصابة بالعدوى نتيجة ضعف الجهاز المناعي. فضلاً عن جاهزيته للإصابة بالتهابات المفاصل وأمراض القلب والأوعية الدموية وغيرها من المشاكل الصحية الخطيرة.

2. الآثار النفسية:

يقول دافي إن ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار ومقاطع صوتية ومصورة لحوادث ومشاكل يعانيها الناس، إلى جانب القصص السلبية التي تعج بها تلك المواقع، يؤثر بشكل كبير على نفسية المرء وقد تتسبب في مشاكل النوم وتقلبات المزاج أو السلوك العدواني أو حتى «اضطراب ما بعد الصدمة»، على حد وصفه.

فبعض الأبحاث تشير إلى أن الأخبار التلفزيونية السلبية تلعب دورًا كبيرًا في تغيير مزاج الفرد، فيصبح أكثر ميلًا للحزن والقلق. هذا التغيير في المزاج يزيد من الهموم الشخصية للمشاهدين، حتى وإن كانت تلك القصص الإخبارية -سواء كانت سياسية أو اجتماعية- ليس لها أي صلة به، ولا ترتبط بمصيره على أي حال.


لماذا يدمن الناس تصفح الأخبار؟

كثيرًا ما يفقه الإنسان سبب اكتئابه، لكنه لا يحاول التخلص منه. فقد يعترف الإنسان بأن كمية ما يتعرض إليه يوميًا من أخبار هي السبب فيما يعانيه من اكتئاب ومشاكل صحية، إلا أنه رغم ذلك لا يقلع عن عادته في التصفح المرضي للأخبار. يؤكد دافي أن السبب في ذلك هو «التسلية». فأدمغتنا تميل إلى الاهتمام بالمعلومات التي تثير خوفنا أو تزعزعنا، وهو ما يعرف في علم النفس بـ «التحيز السلبي».

فيما تشير «لوريتا برونينج»، أستاذة الإدارة في جامعة كاليفورنيا في إيست باي سابقًا، إلى أن طبيعة الإنسان البحث عما يجلب له السعادة وتجنب الأذى. لكن تجنب الأذى يأخذ الأولوية، شرحت ذلك بأن الدماغ البشري ينجذب إلى المعلومات السلبية المزعجة لأنه مبرمج لاكتشاف التهديدات وليس التغاضي عنها.

الأمر الذي يفسر لماذا من الصعب على الإنسان تجاهل السلبيات والبحث عن الإيجابيات من حوله، ذلك لأن أدمغتنا مهيأة للذهاب إلى كل ما هو سلبي، والأخبار التي نستهلكها تعكس هذا.


كيف تقضي على اكتئابك؟

الأكثر اهتمامًا بالسياسة يكونون أكثر تعاسة من أولئك الذين يولون لها اهتمامًا أقل.

الأمر بالطبع ليس روشتة طبية ولا زرًا تضغط عليه اليوم يغير لك نمط حياتك غدًا. إنما هي توصيات قدمها علماء نفس مهتمون بدراسة السعادة وتقديم الدعم لأولئك الذين باتت السياسة تسيطر على حياتهم، حتى أصبحت قادرة على قتل يومهم قبل أن يبدأ.

فقد اقترح أحد علماء النفس خطة للتخلص من الاكتئاب الناجم عن السياسة، وذلك من خلال أربع ممارسات، أولها تغيير نظرة الفرد إلى الموقف مصدر الإزعاج، ثم القيام بالبحث عن شيء آخر لتعديل مزاجه؛كأن يتصل بأحد أصدقائه لتخفيف حدة التوتر لديه. ثالثًا توجيه طاقة الفرد كاملة إلى عمل آخر، وأخيرًا التوقف عن التفكير والحديث عن هذه القصة الخبرية.

فالعلاج السلوكي المعرفي يعد علاجًا نفسيًا قصير المدى لا يحتاج إلى أدوية ولا يصاحبه أعراض جانبية، فقط أن يشعر الإنسان ويعترف بوجود خلل ما في حياته، ويدرك سببه ومن ثم يبدأ في تغيير نمط تفكيره وطريقة تناوله للأخبار. بالتدريج سينجح في تجاوز فكرة سيطرة الأحداث الخارجية على حياته ويكون هو من يملك زمام الأمور ويحدد ما الذي يقرؤه ومتى وبأي كمية كانت.

الأمر ليس دعوة لأن يكون الإنسان سطحيًا أو تافهًا، بل دعوة لئلا يستغرق المرء منا يومه في التعليق على الأحداث صغيرة كانت أو كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو فيما بيننا وبين الآخرين، فنذهب معها بكل جوارحنا حتى تصبح نشرات الأخبار والقصص الإخبارية التي تشغل المواقع هي المتحكم الأول في حالتنا المزاجية والنفسية. بل الأمر دعوة إلى البحث عن المعارف التي تسهم في تنمية وعينا، سواء كان ذلك باللجوء إلى الكتب أو المقالات أو الدراسات العلمية.

فإخراج السياسة ومتابعتها خارج نطاق التأثير على حياتك بإيلائها اهتمامًا أقل قد تكون الروشتة المُثلى للتخلص من الاكتئاب المصاحب لها. فقراءة الأخبار مرة واحدة في اليوم تغني عن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي خمسين مرة للبحث عن كل ما يكتب عليها بشأن قضية ما تمثل مصدر إزعاج لك.