طلال أسد (ABC)

ثمة رأي مفاده أن الحرب آلية لتسوية النزاع؛ نزاع بين سلطتين لا يمكن حله إلا باستخدام القوة وينتهي بالنصر أو الهزيمة.

لكن ماذا لو لم يكن كلا الخصمين لديه سلطة؟ ماذا لو لم يكن النزاع بين خصوم ذوي سيادة، وأحدهما لن يُطالب بتبرير موقفه؟ وبدأ كلا الخصمين في تبادل العقاب (كما لو كانا في عداوة) هل ما زال بإمكاننا أن نسمي هذا “حرب”؟ماذا لو رأى كلا الطرفين أنه منخرط في دفاع عن قيم لا تقبل المساومة، أو كما أطلق عليه وزير الدفاع السابق ويليام كوهين “حرب مقدسة”؟ كيف يجب أن نرى صراع القوى بينما من الصعب أن نرى ما الذي يمكن أن يكون عليه النصر؟إذا كان هدف استخدام القوة هو استئصال العدو، اذا لم يجن المنتصر من المهزوم أي استحقاقات جديدة، إن مصطلح “الحرب” (بمعني استدعاء حل أخلاقي) هو تحديدا ما تطالب به الولايات المتحدة : محاولة لاستئصال “الشر”؛ مصطلح لاهوتي يدل على ظرف لا يمكن التوصل إلى أي تفاهم أثناءه، شيء ما يجب القضاء عليه.منذ القرن التاسع عشر على الأقل، اتجهت السياسات الإمبريالية الأورو-أمريكية إلى رؤية البشرية كمنطقتين: المنطقة الأولى تظلل مساحة “السلام”، والثانية تظلل مساحة “الحرب”.بصرف النظر عن حربين عالميتين مدمرتين، إبادة حماعية وخضوع استعماري، إلا أنه ما زال هنالك تصور لتقسيم قديم بين منطقة غربية تخضع للقانون، ومنطقة أخرى بلا قانون (بقية العالم).وفي هذا السياق يمكن رؤية عنف طالبان في أفغانستان كتعبير حقيقي عن منطقة اللاقانون، حيث تقتصر رؤيتها على ماضٍ قروسطي بينما نرى تحركات الناتو العسكرية المهيمنة، واستخدامه العنف كقوة تهدف إلى الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية وبسطها.هذا ما عناه الرئيس بوش بعد بدء الغزو بقليل حيث قال: “أريدكم فقط أن تعلموا أنه عندما نتحدث عن الحرب فنحن نتحدث عن السلام حقيقة“. وصف بعض النقاد هذه الكلمات بـ “الاستبدادية المعسولة” التي تعكس شخصية بوش، لكن يبدو هذا التفسير سطحيا.في البداية شرع الرئيس أوباما نفسه في استخدام لغة مماثلة، وإن كان بطريقة مدروسة أكثر، حيث حذر في خطبته التي ألقاها بعد توليه الرئاسة بثلاثة أشهر قائلا: “إن العودة القوية لإرهابيي القاعدة الذي قد يتوازى مع عودة قوية أخرى لقيادة طالبان، سيلقي بأفغانستان تحت ظلال من العنف الأبدي“. إن واجبه كرئيس إحباط هذا العنف عن طريق حرب يفرض بها السلام.على العكس من ذلك تبدو طالبان متعلقة بالعنف كغاية في حد ذاته، “تقدم مستقبلا بلا فرصة وبلا أمل، مستقبلا بلا عدالة أو سلام“، ومن ثم فيقع على عاتق الولايات المتحدة “المسئولية للتحرك“.بالنسبة لتحرك كهذا لم تكن الولايات المتحدة لتفكر في نفسها فحسب ولكنها تتحرك أيضا للحفاظ على السلام العالمي، “إن الولايات المتحدة الأمريكية تدافع عن الأمن وعن السلام، عن العدالة وعن إتاحة الفرصة، هذه هي حقيقتنا، وهذا ما يستدعينا التاريخ لنقوم به مرة تلو أخرى“.ما تشير إليه لغة أوباما (كما أشارت لغة بوش) أن السلام الدائم من وجهة نظر القوة العظمى الوحيدة يستلزم صراعا مسلحا أبديا، لأن محاربة الشر لا تنتهي أبدا، إن سلطتها تمنحها المسئولية في أن تخوض ما يمكن تسميته بـ “الحروب الصغيرة” ضد خصوم بلا سلطة؛ أولئك الذين يتموضعون خارج النظام وضده، ومن ثم فليس من الضروري إعلان عن بدء الحرب أو إعلان عن انتهائها.يبدو أوباما أكثر وضوحا من بوش، لكن كلاهما لا يتحدث عن الحرب كأداة لتسوية النزاع، ولكنه يتحدث عن صيانة سلام عام يتم عبر عملية مستمرة من الاستئصال.وعلى هذا النهج فإن كلا الإدارتين متشابهتين، ويأتي ذلك التشابه من حقيقة أن كليهما مقيد بنفس النظام السياسي والمالي والعسكري، ولذا فإن قدرتهم على التحرك باستقلالية تظل محدودة، لكن ليست غائبة بأي حال من الأحوال.بعد تنصيبه بثلاثة أشهر، أشار أوباما لنفس الجوانب الاستراتيجية في الحرب الأفغانية قائلا:”لمزيد من الأمن وإتاحة الفرص والعدالة، من أقصى البلاد إلى أدناها، نحن في حاجة إلى متخصصين في مجال الزراعة، ومعلمين، ومهندسين، ومحامين؛ تلك هي الطريقة التي يمكننا من خلالها أن نساعد الحكومة الأفغانية لتخدم شعبها، كما أننا في حاجة إلى أن ننشئ اقتصادا لا تسيطر عليه تجارة المخدرات، هذا هو السبب في أوامري بضرورة زيادة عدد المدنيين في الميدان .. وهذا هو السبب الذي يدفعنا للاستمرار في دعم حقوق الإنسان الأساسية لجميع الأفغان بما فيهم النساء والفتيات“عكست كلمات أوباما مفهوم مواجهة التمرد كما فسر ذلك الجنرال باتريوس فيما سأذكره سريعاً حين قال: هنالك دولة فاشلة يجب أن يتم إعادة بنائها، وهنالك مجتمع من القرون الوسطى يجب أن يتم إصلاحه بما يتماشى مع حقوق الإنسان العالمية؛ هكذا يمكننا أن نقضي على شر الإرهاب أو على الأقل التخفيف منه.وبناء على هذا جاءت موافقة أوباما بتوظيف البنتاجون لعلماء اجتماع و أنثروبولوجي للمساعدة في جلب التنمية وحقوق الإنسان جنبا إلى جنب مع العمليات المسلحة، وهو الأمر الذي يختلف كثيرا عن الطريقة التي رأي بها بوش حربه الأخلاقية على العراق، لكن أفكار أوباما ذهبت إلى أعمق من هذا بكثير، فقد اعتبر أوباما أمريكا نموذجا للإنسانية كما فعل الرئيس السابق، وكما تقول عبارة جون وينثروب اللاهوتية “المدينة فوق التل City upon the hills” (إضاءات: جون وينثروب هو من المستعمرين الرواد لأمريكا حيث وصفها بأنها ستكون “المدينة [البيوريتانية] فوق التل”، وهي عبارة اقتبسها من موعظة المسيح فوق الجبل، حيث صارت عبارة ملهمة للهوية الأمريكية باعتبار أمريكا هي تجسد مملكة الله على الأرض)، وبالطبع فقد انتمي وودرو ويلسون لهذا التراث (إضاءات: وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى والذي أعلن بعدها عن أربعة عشر مبدأ للسلام وإعادة بناء أوروبا بعد الحرب مما جعله رمزا للسلام).كما أن هنالك إرثا سياسيا آخر يمكن الربط بينه وبين الإرث السابق، وهو هذا الذي خرج من كتابات البروتستانتي المتدين رينالد نيبور (إضاءات: رينالد نيبور هو لاهوتي وسياسي أمريكي عرف بتأييده لسياسة أمريكية أممية عبر التدخل العسكري خاصة في الحرب العالمية الثانية)؛ حيث يمكن لكلا التقليدين معا أن يدافعا عن الحقوق العالمية للإنسان في حين إذعانهما لضرورة أنه في بعض الأحيان وكثمن لسياسات واقعية يمكن أن ترتكب القليل (وأحيانا الكثير) من الفظائع في عالم خبيث كهذا.لزمن طويل وحتى الآن يبقى لنيبور تأثير قوي على صناع السياسة الأمريكية الخارجية؛ من جورجكينان وحتى باراك أوباما الذي أعلن احتفاءه الشديد بأفكار نيبور.إن الفكرة المركزية في لاهوت نيبور هي عقيدة الخطيئة، فلم تعد الخطيئة بالنسبة له هي مجرد ميل للشر فحسب؛ ولكن على العكس من ذلك وبصورة متناقضة، فإنه في مواجهة القتل والتدمير الممنهج، قد تصبح الخطيئة وسيلة لمحاربة الشر.بالنسبة لنيبور فإن هذا الأمر يعد مأساة، لأنه عند استخدام القوة بشكل “شرير” يفقد المرء أقيم ما عنده وهو فضيلته، وعلى الرغم من ذلك فيجب على المرء أن يقوم بهذا ليدافع عن مجتمعه الصالح في مواجهة “الشر”؛ وعلى هذا فعندما تقوم المؤسسات السياسية لمجتمعنا بارتكاب أفعال قاسية ومخادعة فإنهم يقومون بهذا على مضض وهدفهم الأسمى القضاء على المعاناة الكبرى.وضع أوباما تأييده لأفكار نيبور جانبا وقال: “هنالك شر عظيم وألم ومعاناة في هذا العالم، ويجب أن نكون متواضعين ومعتدلين في اعتقادنا بأنه يمكننا القضاء على كل هذا، لكن في النفس الوقت لا يجب أيضا أن يكون هذا عذرا للتراخي أو اللامبالاة“.هذا “الشر” الذي يتحدث عنه أوباما جعل قضية استخدام القوة قضية أخلاقية في المنطقة التي يسودها القانون الدولي، هذا الشر الذي يتحدث عنه أوباما يشير إلى التجسيد العالمي للسرطان: “القاعدة وحلفائها المتطرفين” حيث صرح بعد عدة أشهر من توليه منصبه قائلا: “هنالك خطر يتهدد الباكستانيين بالقتل من الداخل، و من المهم على الشعب الأمريكي أن يدرك أن باكستان في حاجة لمساعدتنا في ملاحقة القاعدة“.لا يبدو أوباما مولعا بالحرب كما كان بوش؛ على الرغم من أنه يبدو مريبا أحيانا، ومع ذلك فإن تدخله العسكري، وموافقته على عمليات القتل والاغتيال ومراكز التعذيب، واقتناعه بأن حقوق الإنسان في الوطن لا يجب أن تقيد الأداء العسكري عبر البحار؛ كل هذه أشياء تجمع بين الإدارتين (بوش وأوباما).إن السؤال الأساسي الآن هو كيف ستتمكن الولايات المتحدة من حكم العالم؟ وما الذي يجب أن تكون عليه لتضمن حدوث ذلك؟ إن لاهوت نيبور لا ينصح بعدم التدخل، لكنه يحث ببساطة على التعقل.ومن هنا فإن الاختلاف بين إدارة أوباما وإدارة بوش ليس في استخدام الإرهاب لاستئصال الإرهاب؛ و إنما الاختلاف في كيفية تحديد الأولويات الاستراتيجية، وبأي طريقة يمكن تحقيقها.حتى لو تم إبادة عدد كبير من البشر، أو القيام بانتهاك للقانون الدولي القائم، فهذه تسويات أخلاقية ضرورية، حيث أن إرادة استئصال “الشر” ملازمة لرغبة البشرية في إرساء السلام العالمي، أو كما يقول أوباما: “هذا هو ما يستدعينا التاريخ للقيام به مرة تلو أخرى“.يجب عليّ أن أطلق على هذا لاهوتا سياسيا، ليس فقط لأنه مثال علي سياسة مصوغة بمصطلحات دينية، ولكن لأنه خطاب يرتكز على رؤيةٍ لبشرية ناقصة يجب أن يتم حكمها وإنقاذها من شر إنساني يجب تفاديه أو القضاء عليه.إن اللاهوت والسياسة ليسا خطابين مختلفين بل هما نفس الشيء، إن اللاهوت القروسطي لعقيدة الخطيئة قام بتفسير نواميس الله في التعامل مع الإنسان، وبرر المعاناة الدنيوية المتمثلة في الحروب والأوبئة والمجاعات كتعبير عن عقاب إلهي على الخطيئة.تم إعادة طرح هذه الأفكار في القرن العشرين بواسطة اللاهوت البروتستانتي الآسر، ولكن ما بدا على أنه لاهوت مسيحي متعلق بالخطيئة والخضوع، تم إعادة طرحه الآن ليعمل بطريقة حديثة من خلال إشكالية جديدة تماما: مشروع يحكم العالم عن طريق عقاب انتقائي من ناحية، ونشر للقيم الديموقراطية الليبرالية من ناحية أخرى.لا تبرز تلك الرؤية إيمانا بسهولة تبرير التدخل العسكري، ما يتم إبرازه هي تلك المواقف التي تدعو للتدخل بهدف إنقاذ البشرية واقتلاع “الشر” من العالم؛ هنا يعمل ما هو سياسي جنبا إلى جنب مع ما هو لاهوتي.لكن وعلى الرغم من أن بعض عناصر هذا اللاهوت مستمدة من التراث المسيحي، لكن تلك الرؤية لم تعد ترتكز على هذا التراث؛ ولكن على إدراك جديد و استعداد لمزيد من الأحداث، حيث يتم كبت أجزاء من ذلك الإرث اللاهوتي (بما أننا نعيش في دولة ليبرالية ديموقراطية) تماشيا مع العلمانية، كمؤسسة لم تعد مثقلة على ما يبدو بالمطالب التطفلية للآلهة.مع ذلك، فإن إدراك رؤية اللاهوت السياسي تمكننا من فهم كيفية تمييز الفظائع الإنسانية (أفعال الشر) عن القوة المتعالية (نداء التاريخ). وكلغة القانون الدولي العلمانية، فإن لغة اللاهوت السياسي كذلك ليست متاحة للجميع .. ولا مقبولة حتى.إذن كيف يبرز هذا اللاهوت السياسي في حرب أوباما تحديدا؟ بتفسير فكرة القوة الضرورية في معركة لا تهدف إلى تسوية النزاعات وإنما تهدف للقضاء على ذلك الشر الذي أنتج الحادي عشر من سبتمبر، لا يمكن التعامل مع الشر إلا عن طريق استئصاله .. كالسرطان.قدم الجنرال باتريوس الدليل الميداني لمكافحة المسلحين الخاص بالجيش الأمريكي في العراق عام 2007، حيث تم الاحتفال بتلك الاستراتيجية كانتصار عسكري، وتم اعتمادها كوثيقة دفاع عن الجهود العسكرية في أفغانستان، إلا أن هذا الدليل ينتمي بدوره لسلسلة سابقة من الإرشادات العسكرية التي قدمها ضباط إمبرياليون تعاملوا مع ما كان يسمى “حروبا صغيرة”.واحدة من أقدم تلك الحروب كانت للسير تشارلز إدوارد كالويل: تم نشر كتاب وقائع ومبادئ عام 1906، بالطبع تغير الكثير خلال قرن مر بينهما بما فيه من لغة تتضمن ما تم تصويره من كفاح للمسلحين، يدرك كالويل أن حربه كانت في عالم إمبريالي فلم يتظاهر بأنها شيء آخر.على العكس مما يحدث الآن (الحرب على الإرهاب)، فقد كانت حرب كالويل جزءا من مهمة أبدية لحراسة امبراطورية من اضطراب النظام الداخلي أو الخارجي، بالنسبة له فإن الانتصار في حرب صغيرة أو الحفاظ على اليد العليا على الأقل في مواجهة مسلحين أو منغصات من الجيران البدائيين يرتكز على اعتراف عام بأن الحضور الأوروبي في المستعمرات يجب أن يستمر إلى الأبد.الأهم من ذلك، أن حروب كالويل الصغيرة ليست مثل جهود أمريكا في مواجهة المسلحين، أولا: لأنه لا يرتكز على حتمية استخدام القوة سعيا للتكفير عن الخطيئة، وثانيا: لأنه لا يعد نفسه منخرطا في صراع لاستئصال “الشر”. إن الحروب الصغيرة تسعى لتأمين القوى الاستعمارية فحسب.إن دليل باتريوس أكثر تنظيما من حروب كالويل الصغيرة، كما أنه يبحث عن مشروع “خيري” بديلا عن السلطة؛ فبينما كتب كالويل “فدائيون، متحضرون وهمجيون”، فضَل باتريوس عبارة: “الأساليب الإرهابية والفدائية المتبعة في الصراعات المسلحة”.إن مشاريع جيوش الإحتلال هي استعادة الاستقرار والمشروعية في ما يطلق عليه الدليل “الأمة المضيفة”، حيث يمكن للعمل العسكري أن يعالج أعراض فقدان المشروعية بحسب عبارات الدليل.”في بعض الحالات يمكن القضاء على عدد كبير من المسلحين، ومع ذلك فإن النجاح في تحقيق سلام راسخ يتطلب استعادةً للمشروعية، الأمر الذي يتطلب بدوره استخدام جميع أدوات السيادة الدولية، لأن الجهود المبذولة في مواجهة المسلحين لا يمكنها أن تحقق نجاحا دائما دون أن تحصل حكومة الأمة المضيفة على المشروعية“.بعبارة أخرى، فإن إصلاح المجتمع بأكمله هو الطريق لتحقيق المشروعية، والذي دلّ على فقدانها ليس الغزو الأمريكي ولكن مقاومته، تكمن المفارقة بالنسبة للحكومة “المضيفة” لجيش أجنبي في أنها يجب أن يكون لديها السيادة والمشروعية، في نفس الوقت الذي يتم فيه انتداب جيش أجنبي لاستعادة مشروعية الحكومة وسيادتها.إن الإصلاح المطلوب في هذه المسعى يتطلب أن يستخدم الجيش قوة متحضرة ضد ماضٍ مستهجن وحاضر محفوف بالمخاطر، وذلك بمنع قوة دولة فاشلة، وهنا يمكن للولايات المتحدة أن تبرز الفرق بين استخدامها لقوتها العسكرية وقوة المسلحين، إن البناء والتدمير ضروريان في مواجهة هذا التمرد.في زمن كالويل لم تكن هنالك منظمات إغاثة عالمية، فلماذا تضاعفت هذه المنظمات وقد تراجعت الإمبريالية الرسمية؟ تجادل منظمات الإغاثة في عصرنا هذا غالبا بأن الاستقرار السياسي هو العامل الأهم والوحيد لتعزيز التنمية الإقتصادية وحقوق الإنسان.إن ضمان الاستقرار في هذا العالم المضطرب بأي وسيلة كانت أصبح أولوية، حتى لو أدي ذلك إلى الشروع في حالة من عدم الاستقرار، إن تلك المشاريع التي تصف نفسها بالإنسانية تتشابك بالضروروة مع المشاريع العسكرية التي تهدف “للاستقرار السياسي”.قامت العديد من المنظمات في أفغانستان بما فيها أوكسفام وأطباء بلا حدود بتوجيه النقد لما وصفوه بالضبابية فيما يخص استراتيجيات الاستقرار العسكري والإغاثة الإنسانية، إن ما يحدث هنا ليس التباساً بين مشروعين متمايزين، إن مكافحة المسلحين هو نوع فريد من استخدام القوة قد يؤدي إلى الوصول إلى صداقة مع السكان المسلحين لتقويض “الشر” في أنفسهم، إن مصطلح ” الشر” له استخدامات كثيرة، لكن معناه اللاهوتي يشير إلى شيء تستحيل معه التسويات.في 27 مايو 2010، رأيت نبذة في التلفزيون عن جهود مشاة البحرية الأمريكية في ” المارجة “، لم يبدو اهتمام الجيش بالقضاء على طالبان فحسب، ولكن أيضاً بأن يكسب العقول و القلوب عن طريق بناء المدارس وتعزيز حقوق لإنسان.وفي هذا الحدث جمع المقدم برايان القرويين للاحتفال بتوقيع عقد لبناء مدرسة، وتحدث عن الأطفال كأمل أفغانستان المشرق، وعن حقهم الإنساني في التعليم، لقد تواصل المقدم وجنوده مع الأطفال والبالغين الأفغان في نفس الوقت الذي عبروا فيه عن احتقارهم لمقاتلي طالبان أمام جمهور يحتوى على العديد من المتعاطفين معهم.كانت المشكلة في هذه المناسبة، هي أن الصحافيين العسكريين أخبروا المشاهدين أن زعيم هذه القرية يخشى الظهور في هذا الاحتفال بجوار المارينز و رفض الخروج (حيث قامت طالبان باغتيال هؤلاء الذين يتعاونون مع الاحتلال)، ثم تبعت الكاميرا المقدم برايان إلى غرفة مظلمة و غير مجهزة في المدرسة حيث يختبئ زعيم القرية الممانع، وبعد أن تحدث إليه المقدم خرج فجأة كالمنتصر لينضم للتجمع المنتظر، ووقف أخيراً في مركز الإحتفال حيث بدا عليه عدم الارتياح، يحيط به اثنان من كبار السن يقفون في مواجهة المقدم، وقف الزعيم القروي مع الحشد في ساحة مفتوحة تحيط بها المصفحات الأمريكية من كل مكان.تساءلت ما الذي يدور في عقل زعيم القرية؟ ما الذي تعنيه له تلك العظة الأخلاقية الآتية من ضابط أجنبي محاط بحراسة مشددة؟ هل حقا عارض الوقوف بجانب جنود المارينز خوفاً من طالبان كما تقول رواية التليفزيون؟ أم أنه ممتعض من الوجود الأمريكي في المارجة؟ أم أن هنالك سبب آخر؟ ما الذي أقنعه بالخروج؛ شعوره بالامتنان لاستثمار الضابط الأجنبي في أطفال المستقبل، أم اعتقاده أن القرويين سيشكون في أنه متواطئ مع المحتل؟ ثم ماذا كانت دوافع المقدم في هذه المناسبة: تكتيكات مؤقتة لمكافحة المسلحين، أم مشروع إنساني، أم كليهما؟ كانت الإجابة مستحيلة.ليس من السهل دائما الكشف عن الدوافع، كعالم إثنوغرافيا فأنا على وعي شديد بمثل هذه الأشياء، حين تختبئ الدوافع سرا ويتم حصار الناس بالتهديدات من كل ناحية؛ يكون من الصعب جداً فهمهم، لكن تظل معرفتهم ضرورة لمكافحة المسلحين، من الذي يجب أن يثق فيه المرء؟ وإلى أي حد؟أليست هذه سلسلة طويلة تمتد حتى منهاتن في الحادي عشر من سبتمبر؟ في ذلك اليوم ارتبط الهجوم الإرهابي بفكرة ضرورة وجوده حتى تسعى أمريكا وراء سيادة تمكنها من الدفاع عن نفسها في الخارج، حيث يكون ارتكاب الفظائع والخداع لا مفر منه عند التعامل مع خطر يهدد سيادة الدولة.إن مكافحة المسلحين بالطبع ليست كالحرب بين دولتين، لكنها تظل حربا كاملةً؛ تجر الحياة اليومية للمجتمع بأكمله إلى شبكة من العنف ؛ هذا في حالة السعي إلى نموذج أمريكي يعرض حياة صالحة، إن هذه الحرب تعطل حياة طبيعية كتلك.إن مكافحة المسلحين تقوم بهذا الدور بطريقة أكثر غدرا من الحرب بين دولتين، فهي تراقب دوافع ومشاعر الأفراد، عن طريق إغواء القرويين على العمل كمخبرين ضد أصدقائهم وأقربائهم.يعرض دليل باتريوس هذا العمل (بصورة صحيحة) على أنه مكافحة للتجسس؛ الجمع السري للمعلومات الخاصة بين الأصدقاء والمواطنين القرويين: “تتضمن مكافحة التجسس جميع الأعمال التي يتم اتخاذها لكشف وتحديد واستخدام وتحييد أنشطة التجسس بواسطة الأصدقاء والمنافسين والمعارضين والخصوم“.ليس قتل المدنيين الأبرياء بالإضافة إلى ما سبق فحسب هو استخدام القوة المتميزة في مكافحة المسلحين، بل إن هذا النوع أيضا يمتد جغرافيا من مناطق الصراع العسكري ليتضمن الولايات المتحدة نفسها حيث الخوف من العمالة، بالإضافة إلى ما يمكن أن تقوم به الدولة أو المجتمع مع الأفراد الذين لديهم أفكار و علاقات خاطئة، إن هذا أكثر انتشاراً من الخوف من الهجمات الإرهايبة التي تحدث اليوم.إن الحرب على الإرهاب لديها العديد من المنصات التي تمثل كلها مناطق ذات السيادة، تلك المنصات التي تهدد باستخدام القوة الاستئصالية ضد الإرهاب المحتمل.لذا فإليك فكرة أخيرة عن ما ناقشناه بالنسبة لاستخدام القوة: يرى العديد من الناس الحرب الأفغانية كمأساة أبدية، ما الشيء الملفت للنظر في هذا؟ بالطبع ليس عدد القتلى المدنيين، هذه حكاية قديمة، فأعداد القتلى من المدنيين ستستمر وتستمر ليتم تفسيرها بصورة غير مباشرة، طالما تتواجد الدولة الحديثة ذات السيادة التي يمكنها استخدام القوة لتحمي مصالحها بالخارج.لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 أول الفظائع التي تورطت فيها الولايات المتحدة الأمريكية أو آخرها، سواء كانت الضحية أم الجاني (وهو الأغلب)، فلا توجد أي علامة على أن نظام حقوق الإنسان (بما فيه “التدخل الإنساني”) يمكنه أن يوقف مثل تلك الفظائع؛ مع أنه قد يعاقب الجناة أحياناً ( ذلك فقط إن كانوا لا ينتمون لدول أو أصدقاء نافذين)، كما أن قسوة المقاتلين بالطبع هي دليل على هول الحرب الحديثة، إن ما وجدته ملفتا للنظر هو شيء آخر: إنه التلازم الذي لا ينفصم بين القسوة والرحمة والذي يكون واضحاً في الحرب المتحضرة وغائباً في الهجمات الإرهابية.إن السلطة الحديثة التي قد يتم التعبير عنها من خلال القتل في أرض المعركة أو تعذيب المشتبه بهم، تجلب رغبة في البناء والتدمير جنبا إلى جنب، لتسمح لمنظمات الإغاثة بتقديم المعونة من ناحية، بينما يقدم الجيش الموت من ناحية أخرى، وكلا الأمرين مرتبط بالآخر بصورة جوهرية.فمن ناحية هنالك الرضا الذي تسعى بعض مؤسسات السلطة للحصول عليه عن طريق إظهار الرحمة تجاه المعاناة البشرية، ومن الناحية الأخرى هنالك الاستعداد بل والحماس للقتل والموت في سبيل القيم الإنسانية.