رأيتَ كيف صار الأمر إلى الملك، وبقيت معاني الخلافة؛ من تحرّي الدّين ومذاهبه، والجري على منهاج الحقّ، ولم يظهر التّغيّر إلّا في الوازع الّذي كان دينًا، ثمّ انقلب عصبيّة وسيفًا، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصّدر الأوّل من خلفاء بني العبّاس إلى الرّشيد وبعض ولده.

ولي الدين بن خلدون (ت808هـ) – المقدمة


الإمامة واجبة

يُعتبر جان جاك روسّو (1712 – 1778م) واحدًا من أهم الفلاسفة في التاريخ الفكري الأوربي الحديث، فقد أثّرت كتاباته في الروح الثقافية لعصر العقل الأوربي في القرن الثامن عشر الميلادي، هذا الفيلسوف الرومانسي القروي الحالم، كتب أهم مؤلفات ذلك العصر الذي اتكأت عليه روح الثورة الفرنسية غداة وفاته في العام 1789م، وكتابه هو «العقد الاجتماعي» الذي يرتكز على المساواة بغية تأمين الناس «حرياتهم العامة وممارستها، وهم لم يُنصّبوا ملكًا عليهم، بل سينصّبون أنفسهم حكّامًا، فالإرادة العامة هي إرادة الشعب ككل اجتماعيًا وسياسيًا». ذلك ما كتبه روسّو في أواخر عصر الإقطاع والملكيات المطلقة في أوربا، وقد أحدث دويًا بلا شك، ورغم كونه قد جعل الإرادة العامة مبدأ مقدسًا بحيث أخلّ بمبدأ الفردية، فإن أفكاره تأثّرت ولا تزال تتأثر بها الديمقراطية الغربية الحديثة.

إن الخلافة/الإمامة/رئاسة الدولة واجبة، ولم تكن هذه المسألة مثار خلاف، ولم يشذ عن ذلك إلا بعض المعتزلة الذين جعلوا «الخلافة» غير واجبة لأسباب نظرية غير واقعية.

وإذا كان روسّو كتب العقد الاجتماعي كنظرية في تاريخ الفلسفة السياسية الغربية، واحتفى بها الغرب هذا الاحتفاء، فإن الفقهاء المسلمين وتاريخهم السياسي قد شهد تلك الصيغة «الروسّويّة» من قبل أن يولد ذلك الفيلسوف بألف عام على الأقل؛ لقد مارس المسلمون الاختيار والمساواة من خلال عقد خاص بهم –مستمد من الشريعة على خلاف في هذه الجزئية مع روسو وكل الفكر الغربي– منذ اللحظة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلال النماذج الأربعة في الانتقال السياسي في عصر الخلافة الراشدة، وبرزت «مقومات النظرية السياسية في الإسلام»، وهي مقوّمات جوهرها الشورى «الاختيار»، والبيعة «الرضا» و «الاحتكام إلى الشريعة»، وثمة مقومات أخرى ربما تكون ثانوية مثل القُرشية.

إن الخلافة/الإمامة/رئاسة الدولة واجبة، ولم تكن هذه المسألة مثار خلاف بين أهل السنة وبين أغلبية المعتزلة والخوارج، ولم يشذ عن ذلك إلا بعض المعتزلة الذين جعلوا «الخلافة» غير واجبة لأسباب نظرية غير واقعية، متمثّلة في «إمكانية» أن يقيم الناس العدل بأنفسهم بصورة فردية. واعتمد الفقهاء على ذلك الوجوب على مبررات قوية، منها إجماع الصحابة في ذلك العمل حتى إنهم لم يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بايعوا أبا بكر خليفة، ومبررات عقلية مصلحية متمثلة في أن إقامة الحدود والجهاد والقضاء بين الناس لا يتم إلا من خلال وجود الخليفة.

غير أن جمهور المتكلمين والفقهاء اعتمدوا في هذه المسألة أيضًا على الأحاديث النبوية الصحيحة التي تدعو الناس إلى «البيعة»، وأن «من مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة»، وهو حديث رواه الإمام مسلم لابن عمر مرفوعًا، وحديث حذيفة المشهور «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم».


الفقيه والفتن السياسية!

إذن كانت معالم الخلافة واضحة، واجبة مذ وقف الصحابة موقفًا موحدًا من مبايعة أبي بكر، على أن ثمة سؤالين لابد من الإجابة عليهما.

الأول: ما موقف الفقهاء من عصر ما بعد الخلفاء الراشدين؟

الثاني: مؤسسو المذاهب الفقهية وموقفهم تجاه السلطة المعاصرة لهم؟

والإجابة على هذين السؤالين تقتضي تسليط الضوء على بعض الأحداث التاريخية، ذلك أن الفتنة الكبرى بين الصحابة بدأت شرارتها مع مهاجمة وفود العراق ومصر سياسة الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وترتب على ذلك محاصرته ثم قتله، ثم ارتقاء علي رضي الله عنه خليفة إثر مبايعة أهل المدينة له، بما في ذلك الخوارج وقتلة عثمان. في المقابل لم يرض معاوية بين أبي سفيان رضي الله عنه وهو أموي ذو قرابة من عثمان الإقرار بالطاعة إلا بعد القصاص، وجرى ما جرى بين الفريقين، ودخل بينهما الصحابة فكانت صفين والجمل، ثم مقتل علي رضي الله عنه، ثم تنازل الحسن، ثم خلافة معاوية في عام الجماعة سنة 41 هـ، ورضي الصحابة بهذه الخلافة تحت وطأة العودة إلى وحدة الأمة.

والفقهاء في هذه الأحداث كانوا على ضربين، الأول رأى إيثارًا للوحدة أن يقروا بسلطة الأمر الواقع؛ والثاني وهم القلة رأوا أن هذا الأمر افتئات على حرية الناس واختيارهم.

في المقابل سارع معاوية في إعادة بعث الفتوح، وإقرار الأمن في الدولة الإسلامية، غير أن مسألة ولاية العهد ليزيد أعادت المسألة السياسية إلى الواجهة مرة أخرى. ولم يُرض بهذا الإجراء عددا من أبناء الصحابة الكبار مثل الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ الأمر الذي أدى إلى مقتل الحسين رضي الله عنه، ثم واقعة الحرّة في المدينة النبوية، ثم وفاة يزيد بن معاوية وظهور عبد الله بن الزبير على مسرح الأحداث واستيلائه على الحجاز والعراق، في حين اجتمع الأمويون في الشام وانضمت لهم مصر. وتمكن عبد الملك بن مروان من التوحيد الثاني للدولة الإسلامية، وسُمي عام 74 للهجرة بعام الجماعة الثاني، وآثر عبد الملك أن يظل الُملك في عقبه من بعده، ثم حرص ولده سُليمان على أن يكون ولي عهده ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان، فكانت خلافته شامة في جبين الأمويين، وكان عمر قد أراد أن يجعل عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق وليًا للعهد بعده، لكنه لم يتمكن من ذلك لقوة العصبية الأموية، وهي الحجة التي ارتآها معاوية من قبله فآثر أن تكون الخلافة وراثية لذات السبب، ثم لصعوبة تحقيق الاتفاق بين جموع الناس في ظل اتساع رقعة الدولة الإسلامية.

والفقهاء في هذه الأحداث كانوا على ضربين، الأول رأى إيثارًا للوحدة أن يقروا بسلطة الأمر الواقع ما دامت تحقق معاني الخلافة ومقاصدها الشرعية، من الوحدة، وإقامة الدين/الشريعة، وبث الجيوش للجهاد ونشر الإسلام. والثاني وهم القلة رأوا أن هذا الأمر افتئات على حرية الناس واختيارهم، ولابد من إعادة الأمور إلى نصابها شريطة القدرة على ذلك.

لقد رأى العلامة ابن خلدون أن الأمور بعد عصر الخلفاء الراشدين قد انتقلت من الخلافة الراشدة وهي «المثال والمقياس» إلى الملك المختلط بمعاني الخلافة، وأن هذا الملك يُطلق عليه خلافة أيضًا لأن مقاصد/معاني الخلافة متحققة فيه؛ من إقامة الشريعة، ووحدة الأمة، وإقامة الجهاد، وتحقيق العدل، قال: «رأيتَ كيف صار الأمر إلى الملك، وبقية معاني الخلافة؛ من تحرّي الدّين ومذاهبه، والجري على منهاج الحقّ، ولم يظهر التّغيّر إلّا في الوازع الّذي كان دينًا، ثمّ انقلب عصبيّة وسيفًا، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصّدر الأوّل من خلفاء بني العبّاس إلى الرّشيد وبعض ولده». فالتغيّر البنيوي الذي طرأ في مؤسسة الخلافة هو الانتقال من الاختيار الحرّ من عامة الأمة والمفضّلين فيها، إلى الاختيار الضيق من الأسرة الواحدة الذي أملته ضرورة العصبية والسيف.


في مواجهة الخليفة!

لاحظ الدكتور رضوان السيد صراع طبقة العلماء والفقهاء مع السلطة السياسية طوال القرن الثاني الهجري على المرجعية في الدين، تجلى ذلك الصراع في إصرار الفقهاء على عدم وجود سلطة تشريعية للدولة أو للسلطان، وأن استنباط الأحكام، والاجتهاد في الدين إنما هو شأن العلماء، ويبدو ذلك من عدم قدرة عمر بن عبد العزيز على «توحيد» القضاء والأحكام المطبقة في الأمصار، وهو الأمر الذي فشل فيه أبو جعفر المنصور العباسي من بعده بنصف قرن، وحين طلب هارون الرشيد من أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة أن يكتب له في الخراج والشئون المالية للدولة، إنما كان يعني تنازل الدولة/السلطة عن دعواهم في التشريع.

بيد أن موقف الفقهاء من السلطة لم يتوقف عند حدود الصراع حول الديني والسياسي في المجال العام، وإنما تطرق إلى مسألة شرعية السلطة الحاكمة.

بيد أن موقف الفقهاء من السلطة لم يتوقف عند حدود الصراع حول الديني والسياسي في المجال العام، وإنما تطرق إلى مسألة شرعية السلطة الحاكمة، لقد بايع أبو حنيفة النعمان السفاح العباسي خليفة على أنقاض الأمويين، غير أنه سرعان ما عدل عن هذه البيعة حين قامت ثورة محمد النفس الزكية في الحجاز والبصرة، وعلى الرغم من عدم تيقن السلطات العباسية من هذا التحيز، إلا أنها حاولت أن تجبره على الاعتراف بشرعيتها القائمة من خلال إشراكه في بنيتها من خلال توليته القضاء، وهو الأمر الذي رفضه أبو حنيفة رفضًا قاطعًا، متحديًا الخليفة القوي أبا جعفر المنصور، فأُلقي به في نهاية المطاف في السجن، حتى مات فيه في العام 150هـ.

وبالرغم من ذلك، تمكن العباسيون من إحداث وفاق مع أهم تلميذين من تلاميذ أبي حنيفة وهما أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت182هـ) ومحمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ) وتولى كلاهما القضاء، وصارا من حاشية السلطة العباسية، والمنظِّرين لها، والقائمين على شئونها الدينينة، وشهد لهما بالعلم أكابر الفقهاء في عصريهما مثل الإمام الشافعي الذي تتلمذ لأبي يوسف، وناظر ابن الحسن الشيباني معترفًا بفقهه وفصاحته. على الجانب الآخر في الحجاز حاولت السلطة التقرب من الإمام مالك بن أنس (ت179)، وحاول أبو جعفر المنصور أن يجعل «الموطأ» المرجع الفقهي لقضاة الأمصار، وهو الأمر الذي رفضه مالك لرحابة الفروع، وتنوع الأمصار، وتباين النوازل. لكن الموطأ انتشر نظرًا لترحيب السلطات العباسية به، ولهذا قال العلامة ابن حزم «مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا».

والحق أن مالكًا أشار على الناس بالانضمام لثورة محمد النفس الزكية ضد العباسيين، وهو الموقف الذي اتفق فيه مع أبي حنيفة، لكن حينما تمكن العباسيون من وأد هذه الثورة، نال الإمام مالك الأذى بالجلد وخُلع كتفه من والي العباسيين على المدينة المنورة.

ويتكرر الأمر ذاته مع الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري، ومثلما سار الركبان بسيرة أبي حنيفة ومحنته مع المنصور، سار الركبان بسيرة ابن حنبل ومحنته مع المأمون والمعتصم والواثق حتى عصر المتوكل، أربعة خلفاء يحاولون إجباره على القول بخلق القرآن، وهو راسخ كالطود، مما كان له أعظم الأثر في انتشار علمه، وبزوغ نجمه، وتثبيت مذهبه، وإجبار السلطة على الاعتراف بسيادة العلماء على المسألة الدينية!

لقد ظل المحدّثون والفقهاء يتناقلون شروط الخلافة/الإمامة العظمى طبقة بعد طبقة إلى عصرنا هذا، وكانت المسألة السياسية محط عنايتهم، خاصة فيما يتعلق بمدى قرب «الممارسة» أو بعدها من الشريعة، وهو المقياس الذي ظل ثابتًا لا يتزعزع، حتى نال الفقهاء في سبيله من الأذى ما سقناه أعلاه، على أنه منذ منتصف القرن الخامس الهجري أدخل الماوردي تعديلًا جوهريًا في هذه النظرية، وأسبغ عليها ظلالًا من الشرعية تحت دعوى «الاضطرار» و«الاستثناء»، وبدأ الحديث ينتقل من الخلافة إلى إمارة الاستيلاء، ودولة السلاطين، وذاك حديث مقالنا القادم.

المراجع
  1. 1- مقدمة ابن خلدون، دار الجيل – بيروت، د.ت.
  2. 2- رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، 1987م.
  3. 3- محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية، دار التراث، الطبعة السابعة – القاهرة، د.ت.
  4. 4- محمد رشيد رضا: الخلافة، الزهراء للإعلام العربي – القاهرة، د.ت.
  5. 5- رضوان السيد: الفكر الإسلامي السياسي، من السياسة الشرعية إلى الأحكام السلطانية، مجلة التسامح العمانية، العدد الرابع – خريف 2004م.
  6. 6- دونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوربي الحديث، ترجمة أحمد الشيباني، دار القارئ العربي، الطبعة الثالثة – القاهرة، 1994م.