كثيرًا ما يُطرَح على الباحث في تاريخ دولة المماليك (1250م-1517م) السؤال: كيف يتوافق أن تتعرض دولة لهذا العدد الضخم من الانقلابات (40 انقلابًا) وأن تنتهي عهود هذا العدد الكبير من مماليكها بالقتل (أكثر من 20 سلطانًا)، وأن تستمر قوية ثابتة لمدة 267 عامًا؟

والجواب الحاضر – الذي يتبينه المدقق في تاريخ تلك المرحلة – هو أن النظام الحاكم للدولة المملوكية كان موضوعًا بطريقة تضمن للدولة ذاتها الاستمرار بغض النظر عن شخص القائمين بأمرها، فقد كانت – بحق – دولة مؤسسات بمقاييس عصرها.


تداول السلطة

من غرائب النظام المملوكي أنه كان نظامًا ملكيًا بغير توارث للمُلك، لم يماثله في هذا من دول العالم القديم سوى النظام الإمبراطوري الروماني. فرغم أن أغلب سلاطين المماليك قد أوصوا بولاية العهد لأبنائهم إلا أن ثمة مبدئين حكما عملية انتقال الحكم المملوكي: الأول هو مبدأ «المُلك عقيم» والذي يعني أن كونك ابن سلطان لا يعني بالضرورة أن تصبح سلطانًا أو أن تستمر على كرسيك إن حزته بشكل عابر. والمبدأ الآخر هو «هي لمن غلب»، ومعناه واضح لا يحتاج إلى شرح.

من هذا المنطلق كانت الطبقة المملوكية الحاكمة مؤهلة نفسيًا للتفاعل إيجابيًا مع الانقلابات والمؤامرات والاستيلاء على الحكم بقوة السلاح والعدد، ولأن هذه الطبقة كانت مادة الدولة وركنها الشديد فقد كان من الطبيعي ألا تمثل الاضطرابات والصدامات إلا رياحًا عابرة قد تهز الدولة لكنها لا تسقطها.


بيبرس: الأب المؤسس

برغم أنه لم يكن أول سلاطين الدولة المملوكية إلا أن الظاهر بيبرس البندقداري (1260م-1277م) يعد هو الأب المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية في نظامها الذي استمر حتى سقوطها بالغزو العثماني سنة 1517م.

فبينما ورث أسلافه – شجر الدر (أو شجرة الدر) وأيبك وقطز – النظام الأيوبي القديم، رأى بيبرس عند توليه الحكم أن يطوّر نظام الدولة بحيث يجاري العصر ومتطلباته، وكذلك بحيث يتماشى مع طبيعة الدولة شاسعة الامتداد التي ورثها عن سلفه قطز. تلك الدولة الممتدة من الفرات شمالًا إلى شمال النوبة جنوبًا وبرقة غربًا وتشمل الحجاز وغرب جزيرة العرب كانت تحتاج إلى هيئات قوية منظمة وترتيب هيراركي (هرمي تدرجي) لإدارتها وحمايتها.

ولأن بيبرس قضى سنوات شتاته بين مقتل أقطاي – في عهد أيبك – وعودته لمصر في عهد قطز في تنقل وأسفار بين بلدان الشام وإمارات بني أيوب، ولأنه كذلك كان مطلعًا على مختلف أنظمة الحكم والإدارة، فقد كان من الطبيعي أن يتأثر ببعض تلك الأنظمة، وقد تأثر بالفعل بالنظام المغولي الذي أدار به جنكيز خان إمبراطوريته، فاستقى منه فكرة تقسيم الجهاز الإداري المملوكي إلى مؤسسات وإمارات ونيابات عسكرية ومدنية على النحو الآتي تقديمه وشرحه.


السلطان

هو رأس الدولة وصاحب الأمر والنهي فيها، والقائد الأعلى للسلطات العسكرية والمدنية، فهو القائد الأعلى المحرك للجيوش التي تخرج للحرب باسمه، وهو الذي تُبرم المعاهدات باسمه، وهو الذي يعين في المناصب ويخلع منها، بل وهو رأس السلطة القضائية حيث يشغل مهمة «صاحب المظالم» ويجلس يومان أسبوعيًا في الحوش السلطاني بالقلعة للنظر في الأحكام القضائية التي قد لا تُرضي بعض الأطراف فيتظلمون منها برفع الشكاوى إليه. وقد جرت العادة أن تطرز ألقابه واسمه على علم الدولة أو ما يسمى بـ «العصائب السلطانية».

ورغم أن الأساس في شاغل منصب السلطان أن يكون المتحكم الفعلي في الدولة، إلا أن عددًا ليس بالقليل من سلاطين المماليك كانوا مجرد واجهة لغيرهم من الأمراء الأقوياء وألعوبة في أيديهم.


الخليفة

رغم أن خلفاء بني العباس في العصر العباسي الثاني قد تحولوا لمجرد دُمى تحمل لقبًا شرفيًا، إلا أن وجود الخليفة العباسي على كرسيه كان ضروريًا للأمراء الأقوياء الذين أقاموا دولًا تابعة اسميًا للدولة العباسية، حيث كانوا يستمدون الشرعية القانونية لحكمهم من تفويض الخليفة لهم “فيما وراء بابه” أي في التصرف في كل ما يتعلق بالدولة.

من هذا المنطلق رأى بيبرس أن يضفي على حكمه – وحكم من يأتون من بعده من السلاطين – تلك الشرعية القانونية، فاستحضر أحد الناجين من مذبحة المغول بحق العباسيين في بغداد ونصبه خليفة في القاهرة فيما يسمى تاريخيًا بـ «إحياء الخلافة العباسية»، وجعل هذا الخليفة يفوضه فيما وراء بابه كما كان يجري سابقًا في بغداد، العاصمة السابقة للخلافة.

على هذا الدأب سار سلاطين المماليك، فقد كانوا يعينون خلفاء ثم يجعلون هؤلاء الخلفاء يفوضونهم كافة صلاحياتهم، وكذلك كانت للخليفة قيمة روحية في اكتساب ولاء أمراء العجم ممن يعتنقون الإسلام أو من يقررون الدخول في حماية الدولة المملوكية. ومن نافلة القول أن خلفاء القاهرة لم يكونوا أكثر سلطة من أسلافهم ببغداد قبل سقوطها: صورة لا أكثر.


نائب السلطان

«كافل الممالك الإسلامية، السلطان الثاني» كان هذا لقب نائب السلطان، فقد كانت له نفس صلاحيات السلطان ومراسمه من مواكب ومجالس، وبالتالي فقد كان يشغله – بطبيعة الحال – أحد المقربين للسلطان من الأمراء المماليك، ولكن هذا المنصب قد أُلغي في السلطنة الثالثة للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، ثم عاد بعد ذلك ولكن دون صلاحياته الفعلية، وحل محله تدريجيًا منصب «نائب الغيبة» وهو الذي يختاره السلطان لينوب عنه خلال سفره للحرب أو لتَفَقُد أنحاء المملكة.


الوزارة

هي الرتبة المدنية الموازية لنائب السلطنة، والتي سبقتها كذلك في الوجود، وكان صاحبها يشرف على كافة الأعمال المدنية مالية كانت أو إدارية، ويحمل صاحبها عادة لقب «الصاحب»، وهو مفوض من السلطان في متابعة الجهاز الإداري المدني للدولة، ولم تكن حكرًا على «أهل السيف» من المماليك، بل غالبًا ما كان يشغلها «أهل القلم» من المدنيين مصريين كانوا أو شوامًا.

ولكن في عهد الناصر محمد بن قلاوون، قام هذا الأخير بإلغائها وتقسيم مهامها لثلاثة مناصب، الأول هو «ناظر الخاص» وهو المسئول عن الأمور المالية للسلطان، والثاني هو «ناظر المال» وهو المسئول عن الأموال العامة للدولة، والأخير هو «كاتب السر» وهو منصب يؤدي صاحبه نفس مهام الوزير من تصريف وإدارة الجهاز المدني للدولة.

ثم عادت الوزارة بعد ذلك ولكنها أصبحت مقتصرة على إدارة الشئون المالية، وتراجع شأنها كثيرًا في أواخر العصر المملوكي حيث أصبح من الممكن شراؤها بالرشوة من السلطة لمن يتعهد للسلطان بإيراد مبالغ محددة مسبقًا إلى خزانة الدولة. واتسمت طبيعتها بالاضطراب والفساد الشديد.

جدير بالذكر أن عودة رتبة الوزارة لم يؤدِّ إلى إلغاء الوظائف الثلاث: ناظر الخاص، ناظر المال، وكاتب السر، بل استمرت منفصلة عن عمل الوزير.


الأتابكية ووظائف الجيش

هو منصب سابق لعهد الظاهر بيبرس وليس مما استُحدث من وظائف، ولكنه اتخذ منذ عهده صورته التي انعكست على سلطات صاحبه.

والأتابك أو «أتابك العسكر» هو القائد العام للجيش، والمسئول عن كل ما يتعلق به من الناحية الفنية الحربية، وكان يوازيه منصب “ناظر الجيش” وهو القائم بالأمور الإدارية والمالية للجيش المملوكي، ولكن بينما كانت وظيفة “ناظر الجيش” مدنية يشغلها أحد «أصحاب القلم» كانت وظيفة الأتابك عسكرية بحتة يشغلها أحد الثقات الأقوياء المقربين من أمراء المماليك، فكان ناظر الجيش بمثابة «وزير الدفاع» في صورته السياسية بينما كان الأتابك بمثابة «رئيس هيئة الأركان المشتركة» في الصورة الحربية، فكان هذا الأتابك بطبيعة الحال هو الرجل الثاني فعليًا في الدولة لتحكمه في قوتها المسلحة.

وأدنى رتبة من الأتابك كانت رتبًا مثل: «أمير أخور»، وهو المسئول عن الإسطبل السلطاني من خيل وهجن ودواب، وكانت داره في القلعة عند الإسطبل، وهو بمثابة المسئول عن سلاح المركبات والمدرعات في عصرنا الحالي. أما «أمير السلاح» فكان مسئولًا عن الأسلحة والذخيرة السلطانية وعن «السلاحدارية» وهم حملة أسلحة السلطان في تنقلاته وكذلك في خدمته وحراسته الشخصية في مجلسه بالقلعة.


الدوادارية

الدوادار لغةً تعني «حامل الدواة»، وقد كانت وظيفته أولًا أن يقوم بأمر المراسلات والأوامر السلطانية المكتوبة، وأن يقوم بحفظها وأرشفتها. ولكن مع الوقت أصبح شأن هذه الوظيفة كبيرًا إلى حد قيام صاحبها بمهام الوزير، وأحيانًا نائب السلطان. حتى أن الدوادار في العقود الأخيرة من عمر الدولة المملوكية قد صار من أبرز المتحكمين في الدولة وشئونها كافة، إلى حد أن أحد الدوادارية المشهورين (خير بك الدوادار) استطاع أن يتحكم في تنصيب وخلع السلاطين، ثم رأى أن ينصب نفسه سلطانًا لكنه لم يستمر في الكرسي سوى ليلة حيث خلعه قايتباي ليحمل هذا الدوادار لقب «سلطان ليلة».

كما أن عهد الأشرف قايتباي قد شهد دوادارًا قويًا متحكمًا هو يشبك من مهدي، والذي جمع وظائف الدوادار والوزير ونائب الغيبة والمحتسب والإستادار في آن واحد!

وبشكل عام، فقد كان لكل صاحب منصب سيادي في الدولة دواداره الخاص، لهذا فقد تميز دوادار السلطان بلقب «الدوادارية الكبرى».


البريد

من الإنجازات التي إن ذُكِرَ الظاهر بيبرس ذُكِرَت معه: تنظيم البريد. فالبريد لم يكن مجرد رسائل ذاهبة وعائدة، بل كان يمثل في تلك الفترة أهم وسيلة لنقل المعلومات من الثغور والمناطق الحدودية وأماكن التماس مع العدو إلى العاصمة، ونقل أوامر العاصمة إلى مختلف أرجاء المملكة، فضلًا عن ضبط وتنسيق الأوامر والتكاليف الرسمية على مستوى الدولة.

ولم يشمل نظام مؤسسة البريد مجرد ذهاب الرسالة إلى وجهتها، بل شمل نظام الرد عليها، فحامل الرسالة فيما مضى كان يضطر لأن ينتظر حتى يقرر أحدهم أن من صلاحياته الرد عليها.

فلما جاء بيبرس إلى سدة الحكم، وضع نظامًا محكمًا للبريد في الدولة سواء ذلك المنقول برًا بالخيل أو جوًا بالحمام الزاجل، فاعتنى بنظام الحمام الزاجل، ورتب للخيل المحطات لراحتها وتبديلها، وألزم كل جهات الدولة الرد على البريد الوارد في الساعة الثالثة من النهار على الأكثر. وبهذا الشكل كانت الرسالة تصل من القاهرة إلى دمشق في أربعة أيام – بل وربما ثلاثة – وتعود في مثلها؛ الأمر الذي ساهم كثيرًا في حماية الدولة ونظامها بالذات في فترات الحروب كمرحلة ما قبل استرداد الأشرف خليل بن قلاوون لعكا.

وبشكل عام فإن البريد آنذاك كان يمثل ما يمكن وصفه حاليًا بـ «أسلحة الإشارة والاستخبارات الحربية» في الجيوش المعاصرة.


وظائف البلاط السلطاني

وهي وظائف خدمة السلطان نفسه في مجلسه ومعيشته. أبرز هذه الوظائف كانت «الحاجب»، وتعني المسئول عن تنظيم الدخول على السلطان والمثول بحضرته، ولكن في الدولة المملوكية اتسعت مهام هذا المنصب لتشمل الفصل بين الأمراء في بعض الخلافات كالأمور المتعلقة بالإقطاعات والرواتب، وفي مراحل متأخرة من عمر الدولة ازداد اتساعها لتشمل سلطة «أحكام الطواريء القضائية».

كذلك كانت وظيفة «رأس النوبة»، وهو الأمير المسئول عن كل ما يتعلق بخدمة السلطان في مجلسه والفصل بين «المماليك السلطانية» – أي المماليك المملوكون للسلطان نفسه – وهو كذلك المسئول عن تدريب ومعيشة هؤلاء المماليك.

أما «أمير مجلس» فكان المنظم لمجلس السلطان من حيث المراسم وترتيب الجلوس حسب البروتوكول المرسوم، وهو كذلك القائك بمتابعة الأطباء الشخصيين للسلطان.

والأمير «جاندار» – أي ممسك الأرواح لغةً – هو المتحكم في الأبواب السلطانية، فهو الذي يراقب زوار السلطان وينظم مقابلاتهم له، مثل الحاجب ولكن أدنى رتبة، أما وظيفته الأساسية فهي القيام باعتقال من يأمر السلطان فيهم بذلك من الأمراء وكذلك تنفيذ الأحكام بحقهم من عقوبات بدنية تصل لحد القتل.

والمشرف على إدارة بيوت ومعيشة السلطان في قلعة الجبل هو «الإستادار»، فيتابع ويدير محتويات البيوت السلطانية ويراقب وجود ما يلزم لمعيشة سلطانه، بينما يتولى «الجاشنكير» مراقبة ومتابعة المطابخ السلطانية وطعام وشراب السلطان فضلًا عن تذوق هذه الأطعمة والأشربة قبله كيلا يتعرض للاغتيال بالسم.

فضلًا عن هؤلاء يوجد أمراء ثانويون كـ «أمير شكار» وهو المسئول عن أدوات وحيوانات وطيور الصيد الخاصة بالسلطان، والجوكندار وهو المسئول عن أدوات لعب البولو (ضرب الأكرة) الذي يعتبر من التقاليد الموسمية لسلاطين المماليك، والخازندار وهو مسئول خزانة السلطان من منقولات، والمهمندار وهو مسئول مراسم استضافة وتسكين ضيوف السلطان من سفراء ومندوبين للدول الأجنبية.


الإدارات المحلية

نظرًا لاتساع مساحة المملكة، كان من الضروري تقسيمها إداريًا إلى قطاعين – الديار المصرية والديار الشامية – وتقسيم هذين القطاعين لـ «نيابات» ثم تقسيم هذه النيابات لـ «ولايات».

الديار المصرية كانت تشمل مصر من حدود غزة، وكانت إدارتها تتم من القاهرة، حيث كانت مصر مقسمة إلى «نيابة الوجه البحري» وتدار من دمنهور بالبحيرة، وتتبعها مدن وقرى الوجه البحري عدا الإسكندرية، و”نيابة الوجه القبلي” وتدار من أسيوط وتتبعها مدن وقرى الصعيد حتى أسوان، وولاية الإسكندرية كانت لها استقلاليتها الخاصة لأهمية موقعها ودورها الاقتصادي والتجاري وباعتبارها المنفذ الرئيسي على البحر المتوسط. وكان للقاهرة واليها الخاص، ولقلعة الجبل واليها الذي يتولى تحصينها وتنظيم الحركة عبر بواباتها.

والديار الشامية كانت تبدأ من غزة إلى حدود العراق وبلاد العثمانيين، وكان نائبها «نائب الشام» يقيم بدمشق، وتتبعه نيابات أدنى مثل صفد وغزة وطرابلس الشام، وكانت نيابة حلب ثغرًا إستراتيجيًا لمجاورتها الإمارات التركمانية التي كان ولاؤها متذبذبًا بين الدولة المملوكية والدولة العثمانية.

وكانت بنيابة الشام نفس وظائف الديار المصرية من أتابكية وحجوبية ودوادارية وغيرها، حيث كان نائبها يمثل السلطان في الديار الشامية، ولكنه لم يكن يملك قرارات العزل والمصادرة ومنح الإقطاعات إلا بأمر السلطان.

ولأن الظاهر بيبرس كان أول من حمل لقب «خادم الحرمين الشريفين»، فقد اهتم بأن يكون لبلاد الحجاز طبيعة إدارية خاصة، فجعل إدارتها قائمة على من يختارهم السلطان لذلك من السادة الأشراف آل البيت النبوي الشريف، مع وجود قوة مملوكية تساعدهم في حفظ الأمن، وكان لميناء جدة مسئوله المكلف بتنظيم عمل المرفأ من الناحية التجارية.

والوالي لم يكن مجرد حاكم إداري فحسب، بل كان كذلك مديرًا لجهاز الشرطة والاستخبارات في ولايته، لحفظ الأمن وضبط السكينة العام والسلم العام ومكافحة أعمال التجسس الخارجية خاصة في الولايات الحدودية.


السلطة القضائية والحسبة

من التغييرات التي ارتأى بيبرس إحداثها على النظام القضائي في الدولة، إلغاء انفراد المذهب الشافعي بالقضاء، فالأيوبيون كانوا شافعيي المذهب، وكذلك المماليك، ولكن الدولة شملت رعايا من المذاهب الثلاثة الأخرى. لهذا قام الظاهر بيبرس بتعديل نظام القضاء حيث جعل في منصب “قاضي القضاة” أربعة: قاضي القضاة الشافعي أعلاهم رتبة، ثم قاضي قضاة الحنفي ثم المالكي وأخيرًا الحنبلي، وكانت هذه الرتب على أساس تمثيل نسبة أتباع المذاهب الأربعة في الدولة.

وكان لهؤلاء القضاة نوابهم وشهودهم وموظفيهم.

كذلك كانت وظيفة «قاضي الجند» أو «قاضي العسكر»، وهو القاضي المسئول عن الفصل في الأمور المرتبطة بالجند من رواتب وغنائم وما إلى ذلك، وكانوا ثلاثة ليس بينهم حنبلي، هم أدنى درجة من قضاة الشرع الشريف.

وكان القضاة – بطبيعة الحال – من الفقهاء المعممين، ولم تقتصر وظائفهم على الفصل في الدعاوى الأهلية بين الرعايا فحسب، بل كان لهم وجود أساسي في مجلس السلطان عند مناقشة القرارات الهامة – خاصة المالية – وكذلك في تحرير محاضر العزل للسلاطين – فيما يمكن وصفه بلغة العصر الحالي بـ «الانقلاب الدستوري» – وتولية السلاطين حال وفاة السلطان السابق أو عزله. وأيضًا كان لهم دور بارز في حال رغبة السلطان في إضفاء شرعية قانونية على قيامه بإعدام أو معاقبة بعض المتمردين عليه من كبار الأمراء.

إلى جانب هؤلاء القضاة كان القائمون بمراقبة بعض الجهات مثل الأوقاف وبيت المال والمواريث والمواريث الحشرية (أي تلك التي لا وارث لها) وغيرها من الجهات ذات الوظائف المالية المرتبطة بالشرع.

ومن أهم الوظائف ذات الصفة المختلطة بين القضائي والتنفيذي وظيفة «المحتسب»، وهو منصب كان يشغله أحيانًا أهل العمامة من المصريين وأحيانًا أخرى كان يقوم به بعض أمراء المماليك من أرباب السيف.

والمحتسب هو القائم بمراقبة مختلف مظاهر الحياة اليومين للرعايا من تجارة للمستلزمات المعيشية، وحركة البيع والشراء، وتوفر المتطلبات المعيشية وجودتها وضبط أسعارها، كما يقوم بمراقبة احترام الآداب العامة وضوابط الصحة العامة والتزام اتساع الطرق وحركة السير بل وحتى ما يتعلق بحقوق الحيوان من مطايا وذبائح. وكان أعلى المحتسبين محتسب القاهرة وهو القائم بتعيين نواب له بالوجه القبلي، ومحتسب الفسطاط، وكان للإسكندرية محتسبها الخاص.

وكان المحتسب يقوم بإصدار الحكم وتنفيذه توًا بما يراه ملائمًا للقضية المطروحة أمامه، أي أنه – اختصارًا – كان يمثل القضاء المستعجل وجهاز حماية المستهلك وحماية المنشآت والطريق العام وهيئة الصحة العامة في عصرنا هذا.


مؤسسات أخرى

إلى جانب تلك المؤسسات ذات الصفة السيادية وُجِدَت مؤسسات أخرى، منها التعليمي كالخانقاوات (مؤسسة ذات طبيعة صوفية تقوم بالتعليم الديني) والمدارس التي كان يرتب لها شيوخها كالخانقاة الشيخونية وخانقاة سرياقوس ومدرسة السلطان حسن.

كذلك كانت مؤسسة «البيمارستان المنصوري» (المستشفى) هي المؤسسة الطبية الأساسية – تعليمًا وممارسة – فكان المسئول عنها يعين من قبَل السلطان. وجدير بالذكر أن أكثر تلك المؤسسات وُجدَ بعد عهد بيبرس لكنه التزم الاندماج في النظام الإداري الذي أوجده للدولة.

إلى جانب المناصب الثابتة، وُجِدَت مناصب وقتية ترتبط بمهام معينة، كأمير الحاج، وهو المسئول عن ركب الحجيج، و «باش العسكر» وهو قائد الجيش أو التجريدة الموجهة لحفظ الأمن الداخلي أو الخارجي، والسفير وهو المكلف بسفارة للخارج، وكانت هذه عادة من مهام أمراء السيف.


ختامًا هذا النظام المؤسسي على ثباته ورسوخه كانت تعتريه بعض المتغيرات الوقتية كحالة إلغاء منصب الوزارة سالفة الذكر، أو تقدم رتبة منصب على آخر بحكم توليه من قِبَل بعض الأمراء الأقوياء المتسلطون. فعلى سبيل المثال: كان منصب الوزارة يعلو الأتابكية، وكانت تلك الأخيرة تعلو الدوادارية، ولكن مع الوقت تراجعت سطوة الوزير لصالح الأتابك، ثم تراجع الأتابك لصالح الدوادار، ثم عادت الأتابكية لتتصدر المناصب السلطوية.. وهكذا.

كذلك فإن بعض التقسيمات الإدارية – بالذات فيما يتعلق بمنح الإسكندرية استقلالية في الحسبة والولاية – قد وقعت بعد عهد بيبرس.

ولكن كان ثمة عُرف التزم به مختلف السلاطين والأمراء الذين حكموا مصر – رسميًا أو مستترين – خلال عصر الدولة المملوكية، هو أن يبقى المساس بالنظام الهيراركي الذي أرساه بيبرس محدودًا بما لا يُعرض كيان الدولة ذاتها للانهيار، ولعل في التزام الجميع هذا العُرف – بقصد أو بغير قصد – إجابة عن السؤال المتكرر: كيف استطاعت تلك الدولة التي ضربت رقمًا قياسيًا في الاضطرابات والتوترات بين الدول المعاصرة أن تحافظ على بقائها لهذه الفترة الطويلة بمقاييس أعمار الدول في هذا العصر!

المراجع
  1. د. قاسم عبده قاسم: عصر سلاطين المماليك
  2. ستانلي لين بول: تاريخ مصر في العصور الوسطى
  3. القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا
  4. د. محمد سهيل طقوش: دولة المماليك في مصر وبلاد الشام
  5. ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
  6. ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور
  7. د. هاني حمزة: مصر المملوكية
  8. د. علاء طه رزق: السجون والعقوبات في مصر عصر سلاطين المماليك
  9. د. حسن أحمد البطاوي: أهل العمامة في مصر عصر سلاطين المماليك
  10. بيتر ثوراو: أسد مصر السلطان الظاهر بيبرس والشرق الأدنى