دخل أبو الحسين البريدي إلى بغداد لمواجهة الخليفة العباسي المتقي لله أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله، سنة 330 هجريًّا، بعدما أمر الخليفة بلعن بني البريدي على المنابر في المساجد الجامعة، واستطاع البريدي أن ينتصر بجيشه المكون من الأتراك والديلم على جيش الخليفة الذي فر إلى الموصل التي سيطر عليها الحمدانيون.

واستقر البريدي في دار الخلافة، ووزع على رجاله المناصب والوظائف المهمة في بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وظل فيها مدة ثلاثة أشهر وعشرين يومًا، قبل أن يعود الخليفة في قوة من بني حمدان، حسبما أورد ابن مسكويه في كتابه «تجارب الأمم وتعاقب الهمم».

لكن قبل هذا الحادث، فمن هم الإخوة البريديون؟ وكيف تجرأوا على الخلافة؟ وكيف صنعوا مجدهم؟

الإخوة الثلاثة البريديين

يرجع أصول الإخوة الثلاثة؛ أبي عبد الله وأبي الحسين وأبي يوسف، إلى أبيهم يعقوب بن إسحاق البريدي، الذي كان كاتبًا على البريد في البصرة، وورث منه أبناؤه حرفة الكتابة واشتغلوا في البريد، كما ذكر شمس الدين الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام».

وكان أول ظهور لهم في عهد الخليفة المقتدر، وبداية صعود نجمهم، وكانت البداية عند عبد الله البريدي، الذي تولى ضمان الخاصة، وأخيه أبي يوسف الخراج في مهرمز، خلال وزارة علي بن عيسى، سنة 315 هـ، بحسب ما ذكر الطبري في كتابه «تاريخ الطبري»، لكن عبد الله البريدي لم يرضَ بالعمل الذي كلفه به ابن عيسى، وأرسل قائلًا له: «تقتصر بأخي أبى يوسف على سرّق، وبي على ضمان الخاصة، فإن لطبلي صوتًا سوف تسمعه بعد أيام»، بحسب ما ذكر ابن مسكويه.

وقد صدق ظن عبد الله البريدي، فلم يبقَ ابن عيسى في الوزارة، وجاء بدلًا منه أبو علي بن مقلة، فأمر عبد الله البريدي أخاه أبي الحسين في بغداد أن يبذل المال لابن مقلة، فأعطاه عشرين ألف دينار، كانت سببًا لمنح عبد الله البريدي أعمال الأهواز سوى السوس وجند نيسابور، وأخيه أبي الحسين أعمال الفراتية، وأبي يوسف الخاصة والأسافل.

وضمان الخاصة: يقصد به دفع مبلغ مالي مقدمًا عن مساحة من الأرض تولى ضمانها للخليفة، ثم يأخذ هو ذلك المبلغ من أصحاب الضياع والدور والتجار وغيرها من أوجه جمع المال.

غضب الخليفة ومناورة البريديين

زادت قوة وثروة آل البريدي خلال وزارة ابن مقلة، لكن مع عزله سنة 318 هـ، أمر الخليفة المقتدر بالله، بالقبض عليهم جميعًا، وحُبسوا في دار أحمد بن نصر القشوري بالأهواز، وحاول عبد الله البريدي أن يدفع المال لابن نصر القشوري لكي يفرج عنهم أو عن أحد أخويه، لكن محاولته باءت بالفشل، فلجأ لحيلة أخرى بعد أيام، حيث أخرج – عبد الله البريدي – كتابًا فيه أمر بالإفراج عنهم، فلما قرأه ابن نصر القشوري وجد الخط والتوقيع مختلف عن الخطاب الذي كلف به بالقبض عليهم، فعلم بأن الكتاب مزور، حدث ذلك خلال مطالبة أنصار ورجال البريديين بإطلاق سراحهم، فأمرهم ابن نصر القشوري بعدم الهجوم على داره وإلا قتل الإخوة الثلاثة، فانصرفوا ولم يعودوا للشغب مرة أخرى.

جاء كتاب من قبل الخليفة المقتدر بالله لابن نصر القشوري، يأمره فيه بإرسال البريديين إلى بغداد لمناظرتهم، وفيها ناظروا أبا زكريا يحيى بن سعيد السوسي على المصادرة (أخذ جزء من أموالهم)، وانتهى الأمر بدفع مبلغ تسعة آلاف درهم، فعادوا إلى وظائفهم مرة أخرى، حسبما ذكر ابن مسكويه.

ثقة الخليفة ومال البريديين

خبرتهم في جمع وتحصيل المال جعلتهم المفضلين لدى الخليفة المقتدر بالله، لذا جعل ضمان مدينة البصرة لأبي يوسف البريدي، كما أنهم كانوا يجمعون للخليفة المال اللازم متى أراد، وهذا ما دفع الخليفة المقتدر بالله عندما أراد أن يعهد بمنصب الوزارة لابن مقلة، أن يجتمع هارون بن غريب خال الخليفة مع أبي الفتح الفضل بن جعفر وزير المقتدر بالله حينها، ويأمران أبا عبد الله البريدي بدفع مائة ألف دينار كضمان عن ابن مقلة، وقد سُلم إليه لجمع المال منه.

أيضًا، عندما مات أبو عمر القاضي، قال الخليفة المقتدر بالله: «ينبغي لابنه أن يحمل مائة ألف دينار فإنه من ورائها وإلا حضر من يتقلد قضاء القضاة»، فأرسل إلى ابنه الحسين بن أبي عمر، أبا بكر بن قرابة وأبا عبد الله وأبا يوسف البريدي، وقد أظهرا الآخران حزنهما وتعاطفهما في مواساة ابن أبي عمر، ونصحاه بأن يذهب بالمال المطلوب إلى الخليفة، وظلا بجواره يعاونانه ويدعمانه حتى قلده الخليفة قضاء القضاة.

ويرجع تفضيل الخليفة للإخوة البريديين لقدرتهم على جمع المال اللازم له، واستخراجه من أي شخص يريد أخذ المال منه، بالإضافة إلى أنه كان سخيًّا مبذرًا، يصرف المال دون حساب، كما وصفه الذهبي في كتابه.

البريديون: مكاسب الطموح

في سنة 322 هـ، عُزل الخليفة القاهر بالله وتولى الخلافة الراضي بالله، وعين أبو علي بن مقلة وزيرًا له، فوضع الأخير أبا عبد الله البريدي على أعمال الخراج في الأهواز، وأخاه أبا الحسين على ضمان بغداد، وذلك لمكانة الإخوة البريديين عنده، كما اعتمد ابن مقلة على أبي عبد الله البريدي في استخراج المال من كل من امتنع عن دفعه، وأيضًا حارب مع محمد بن ياقوت صاحب ولاية الأهواز أمام مرداويج، الذي استطاع أن يأخذها له، ففر ابن ياقوت إلى واسط، وعبد الله البريدي إلى البصرة، وكان ضمان الخاصة في السوس وجنديسابور لأبي الحسين وأبي يوسف البريدي، فاكتسبوا مالًا عظيمًا من أعمالهم في تلك المدن.

ومع مقتل مرداويج عاد ابن ياقوت إلى الأهواز، لكنه وجد عساكر علي بن بُويه في انتظاره فتقاتلا معًا، وانهزم جيش ابن ياقوت، وهنا تدخل أبو عبد الله البريدي لحل الأزمة بين الخلافة العباسية والبويهيين، فأرسل لابن بُويه للصلح فأجاب بالقبول، وكذلك فعل الخليفة العباسي الراضي بالله، وأقر ابن بُويه على بلاد فارس، واستقر بشيراز، وعاد ابن ياقوت إلى الأهواز ومعه أبو عبد الله البريدي، حسبما ذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ».

جيش البريديين

وفرة المال في يد البريديين جعلتهم يهتمون بجعل جنود في خدمتهم، ونتيجة ثرائهم أرسل ابن مقلة لقلة المال عنده نحو ثلاثة آلاف جندي من عنده ومعهم غلامه إقبال إلى أبي عبد الله البريدي.

فزاد عدد الجنود لديهم، وكانوا عونًا لهم في تحالفاتهم وخصوماتهم، ومما يدل على قوتهم ما حكاه ابن مسكويه في كتابه، ففي سنة 324 هـ، قرر أبو عبد الله البريد بدعم من أخيه أبي يوسف قتل محمد بن ياقوت، دون أن يخاف من جند الخلافة، بعد أن تأكد أن الخلافة أصبحت ضعيفة وفقيرة، وأنها في أشد الاحتياج إليه بما عنده من جنود وأموال.

وفي سنة 325 هـ، وبعد أن قطع البريديون إرسال أموال الضمان للخليفة، نصح الوزير محمد بن رائق الخليفة الراضي بالله، أن يخرج إلى مدينة واسط ومراسلة البريدي في الأهواز، فأرسل لهم رسالة أظهر فيها احتقاره لهم وطالبهم بأن يدفعوا ما لديهم من أموال وجنود إليه، فأبدى البريدي موافقته، ولكنها كانت حيلة لامتصاص غضب الخليفة حتى يدبر أمره، حسبما ذكر ابن الأثير في كتابه.

عاد الخليفة وابن رائق إلى بغداد وأيديهما خاوية، وظلت الحالة بينهما وبين الإخوة البريديين بين شد وجذب، خاصة بعد أن تمكن أبو عبد الله البريدي من فرض سيطرته على الأهواز والبصرة وواسط، فلما بلغه أمر الخليفة بلعنهم على المنابر في بغداد، وأنه فوض في أمرهم ابن رائق ليفعل بهم ما يريد، فجهز الجنود لمحاربة الإخوة البريديين، فكان الحظ حليف ابن رائق في الحرب مع البريديين، حتى انتصروا عليه في أحد المعارك وأسروا أحد قواد ابن رائق وعرف منه البريدي أسرار الجيش، ثم تركه عائدًا لمعسكره، فأرسل ابن رائق جيشًا آخر بقيادة أبي العباس أحمد بن خاقان، فانهزم وأُسر، فعامله البريدي بلطف وإحسان هو ومن معه بالأسر، ثم تركهم، وطلب منهم ألا يعودوا لمحاربته.

البريديون والتحالفات والفُرقة

لم يرضَ ابن رائق بما حدث له على يد البريديين، فجهز جيشه لمحاربتهم من جديد، ولما علم أبو عبد الله البريدي بذلك تحالف مع علي بن بُويه، وكُتب لهم النصر، وفر ابن رائق إلى بغداد بعد هزيمة جيشه، أما أبو عبد الله البريدي فقد استقر في البصرة.

لما علم أمير الأمراء بجكم بما حدث، رغب في محاربة البريدي، فالتقى الجيشان واقتتلوا، وانهزم جيش البريدي، وتحقق ما يريده بجكم من إذلال البريدي وقطع علاقته باين رائق، وأرسل للبريدي عارضًا له الصلح والمصاهرة، ففرح البريدي وقبل عرضه.

شجع تحالف بجكم والبريدي، الأخير أن يطلب من الخليفة الراضي بالله القدوم إلى بغداد وطرد ابن رائق منها، فوافق الخليفة، وحتى يحافظ على عدم تحالف ابن رائق والبريدي، عرض على الأخير منصب الوزارة، فأصبح أبو عبد الله البريدي وزيرًا للراضي بالله، سنة 327 هـ، بحسب ما ذكر ابن الأثير في كتابه، كما تزوج في نفس السنة، بجكم من سارة بنت أبي عبد الله البريدي.

البريديون: أسرة مهابة

في سنة 329 هـ تولى الخلافة المتقي بالله، وفي عهده عُرفت أسرة البريدي كأسرة مهابة لها مكانتها، يخطب الجميع ودها من أول الخليفة إلى الأمراء والوزراء، وخير دليل على ذلك زواج المنصور بن الخليفة المتقي بالله بنت أبي عبد الله البريدي، فاستقر في بغداد، وزاد نفوذه وثروته وعدد الجند لديه، بحسب ما ذكر ابن مسكويه في كتابه.

لم ينسَ ابن رائق ما فعله به البريدي، فحمل الخليفة على عزله، وشجعه على دعوة المشايخ على لعن البريديين على المنابر، وتم استنفار الناس لمحاربة البريديين، لكن ما لم يتخيله الجميع الجيوش التي أحاطت ببغداد نصرةً لهم، سنة 330 هـ، وأظهر ذلك النصر قوة البريديين وضعف الخلافة العباسية.

أفول شمس البريديين

أدى سلب ونهب جنود البريديين من الديلم، وزيادة الضرائب والمصادرة، والتعسف في معاملة العامة من الناس، إلى سقوط البريديين في بغداد، وفرار أبي الحسين البريدي منها، عندما علم بقرب جنود الحمدانيين والخليفة المتقي بالله لمحاربته.

يذكر ابن الأثير في كتابه، أن الصراع بين الحمدانيين والبريديين، لم ينتهِ في بغداد، بل التقوا وتقاتلوا في المدائن وواسط، وانتصر في جميعها الحمدانيون، لكن استطاع البريديون رغم ما لحق بهم من هزائم في عقد بعض التحالفات للحفاظ على مكانتهم بشكل مؤقت.

ولم تدم حالة الاستقرار لهم طويلًا، حيث أقدم أبو عبد الله البريدي على قتل أخيه أبي يوسف، ثم مات من بعده بالحمى، سنة 332 هـ، أما أبو الحسين البريدي فقد أساء لجنود البريديين بعد وفاة أخويه، فقرر الجنود قتله، وجعلوا أبا القاسم بن أبي عبد الله البريدي أميرًا عليهم، بحسب ما ذكر ابن الأثير في كتابه.