مع تطور العلاقة بين العمل والإنتاج ورأس المال بحلول القرن الحادي والعشرين، جادل الاقتصادي البريطاني «جاي ستاندنج» بظهور طبقة عاملة جديدة زاحمت طبقة البروليتاريا التي تحدث عنها كارل ماركس خلال القرنين الماضيين. وقد أطلق عليها مصطلح «البريكاريا» والذي يجمع بين كلمة «البروليتاريا» والتي تشير إلى طبقة العمال، وكلمة «البريكاريوس» التي تعني المتزعزع وغير الثابت، في إشارة إلى صفة العمل العرضي.

صكّ ستاندنج هذا المصطلح بالإنجليزية في كتابه «The Precariat: The New Dangerous Class»، والذي يُقدم نظرة عامة على أبحاثه الأكاديمية حول تأثير الليبرالية الجديدة على علاقات العمل. ورغم تجاهل الإعلام لهذا المصطلح فإنه برز بشدة مع تصاعد حركات اجتماعية غاضبة وعلى رأسها «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة «السترات الصفراء» في فرنسا، مرورًا بحركات احتجاجية واسعة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إيطاليا واليونان وتونس ومصر.

ما البريكاريا؟

يشير مصطلح البريكاريا إلى هؤلاء الذين ينخرطون في العمل العرضي أو العمل الحر الذي لا يرتبط بوظائف مستقرة بل يرتبط بمهام عمل محددة وموقوتة. وبالتالي فإن العامل لا يتعاقد مع صاحب عمل يكون مُلزَمًا بتغطية تأميناته أو بالتفاوض مع النقابة الخاص بمهنته. كما أنه لا يحصل على دخل ثابت، وقد يتعرض في أحيان إلى ضغط عمل كبير وفي أحيان أخرى يبقى بلا عمل.

وعليه فإنه ستاندج يُعرِّف البريكاريا على أنها:

أولئك الذين يواجهون عددًا من حالات عدم الأمان ذات الصلة والمتداخلة في كثير من الأحيان، حيث: أمن سوق العمل، والأمن الوظيفي، وتأمين إعادة إنتاج المهارات، وأمن الدخل، وأمن التمثيل. وهي طبقة أكثر تفكيكًا وهشاشةً من طبقة البروليتاريا. حيث تجمع ظروف العمل العرضي والحر بين فئات مختلفة ومتباعدة. وينتشر بهذه الطبقة الفئات الأصغر سنًا، وتضم عددًا متزايدًا من المهاجرين والنساء أكثر من أي وقت مضى.

إن نمط العمل الحر يؤمِّن علاقة قصيرة الأمد بين العامل والعميل. حيث يُعطي لصاحب العمل حق سحب الأعمال وتوقيف العمل في أي وقت دون تعويض أو حقوق تأمينية، بخاصة في ظل وفرة الأيدي العاملة المعروضة على منصات العمل، وكذلك يعطي للعامل حق الانسحاب أيضًا. وعليه؛ فإن ستاندج يصفهم بأنهم «يُعامَلون كقوى عاملة متجولة يمكن التخلص منها».

من ناحية إحصائية يصعب التحديد الدقيق لعدد العاملين في هذه الوظائف، بخاصة وأن بعضًا منها يكون بلا عقود موثّقة ويكون بالقطعة. بينما تُوفِّر المنصات الرقمية للعمل الحر عبر الإنترنت إحصاءات خاصة بالعاملين من خلالها لكنها لا تغطي كافة المهن والقطاعات.

وكانت فرنسا إحدى أهم الدول المعنية بدراسة العمالة الحرة والعمالة المؤقتة بخاصة بعد تصاعد احتجاجات حركة السترات الصفراء، وعليه فقد اهتمت بإحصاء العاملين في الأعمال المؤقتة أو الحرة أو ما يمكن أن يُعرَف بسوق العمل الثانوي، حيث تشير التقديرات في فرنسا إلى أن نحو 7 ملايين شخص ينتمون اليوم إلى سوق العمل الثانوي من إجمالي 32 مليون شخص يشغلون وظائف مستقرة.

كيف ظهرت البريكاريا؟

رأى كارل ماركس وفريدريك إنجلز أن فهم تكوين الطبقة العاملة كان يتغير باستمرار مع تطور الرأسمالية نفسها. وهو ما يتوافق مع تحليل ستاندج لظهور طبقة عمالية جديدة (بريكاريا) والتي ظهرت بتطور الرأسمالية نفسها إلى «النيوليبرالية».

فقد سعت النقابات والاتحادات العمالية خلال القرن العشرين نحو تحقيق عدد من المطالب التي تضمن الأمان الوظيفي للعاملين (البروليتاريا). وانتهى هذا السعي إلى تأمين وظائف مستقرة طويلة الأجل ودخول ثابتة وساعات عمل ثابتة وشبكات تأمين للعاملين مع وجود إطار تنظيمي عالمي للطبقة العاملة مُمثلًا في النقابات والاتحادات العمالية.

ولكن مع تصاعد النيوليبرالية في نهاية الفرن العشرين، بدأت تغييرات بعيدة المدى تظهر في النظام العالمي للإنتاج الرأسمالي. حيث تخطى أصحاب الأعمال النيوليبرالين حواجز الحكومات المركزية بدافع الرغبة في فتح الدوائر الدولية للإنتاج والتجارة والاستثمار، وذلك من خلال تحرير انتقال رؤوس الأموال والعمالة وتكنولوجيا الإنتاج عبر الدول لا سيما مع تطور الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

وعليه؛ فقد أصبح الإنتاج «منزوع الحدود الإقليمية»، مما انعكس على زعزعة العمالة المستقرة وطويلة الأجل. حيث تم استبدال الوظائف المستقرة بالنقل إلى الخارج، حيث العقود المؤقتة والعمالة المؤقتة والاقتصادات الطرفية غير الرسمية.

إجمالًا فقط فرضت النيوليبرالية نمط العمل العرضي أو العمل الحر، وهنا ظهرت طبقة البريكاريا.

يرى ستاندج أن هذا التحول ليس استبدال طبقة عاملة بأخرى، بل إنه هجوم مُنسَّق من جانب رأس المال لدحر المكاسب التي تمكّن جيل معين من العمال من تحقيقها لإعادة إنشاء توازن أكثر تفاوتًا بين رأس المال والعمالة، وتقليص تكلفة العمالة.

سمات البريكاريا

خلقت تغييرات سوق العمل وظروفه -في ظل السياسات النيوليبرالية- سمات تجمع أفراد طبقة البريكاريا المتصاعدة.

1. المرونة مقابل انعدام الأمان الوظيفي

تلقّى العمل العرضي أو العمل الحر إقبالًا من جزء من الطبقة العاملة، إذ مثّل العمل الحر مهربًا من أعباء العمل المرتبطة بالوظائف التقليدية، والتي تفرض الوجود في المكتب لساعات طويلة وتخلق ضغوطًا نفسية واجتماعية، مما أخل بالتوازن بين العمل والحياة الشخصية.

بينما يوفر العمل الحر أو العمل العرضي حرية أكبر في اختيار مهام العمل وصاحب العمل والتفاوض على الأجر بالإضافة إلى مرونة أكبر وقدرة أكثر على إدارة الوقت بشكل فعّال. وهنا يمكننا القول، إن هذه الطبقة قد اختارت الحرية والمرونة مقابل الأمان الوظيفي.

2. صعوبة تحديد الدخل

استطاعت النيوليبرالية أن تُمكِّن الشركات من أن تأخذ قطعة العمل الواحدة لتُفكِّكها وتُوزِّعها على عدد من الأفراد عبر العالم للحصول على تكلفة عمل أقل من تلك التي يحصل عليها الموظفون الدائمون، وهو ما يُسهِّل على الشركات تسريح الموظفين.

وكما سبقت الإشارة، فإن أفراد البريكاريا لا يحصلون على دخول ثابتة ولا حتى موسمية. بل ترتبط دخولهم بمدى نجاحهم في الوصول إلى العميل أو صاحب العمل، وهي قدرة تتفاوت من فرد لآخر. كما تحدد دخولهم أيضًا بعدد مهام العمل أو قطع العمل التي يحصلون على صفقاتها في وقت محدد.

وبناءً على ذلك قد يجد الفرد الذي يتّبع نمط العمل الحر نفسه في وقت بلا أي عمل أو مصدر دخل، وفي أوقات أخرى يجد نفسه مضغوطًا تحت وطأة تنفيذ عدد كبير من قطع الأعمال ليجمع قدرًا أكبر من المال يُمكِّنه من تغطية النفقات الأساسية في أوقات انقطاع العمل.

إن هذه الزعزعة في تأمين الدخل في ظل استدامة الأعباء المادية على الأفراد تخلق نوعًا من الضغط والعبء النفسي عليهم، ما يضعهم دائمًا في مسار البحث عن العمل إلى جانب ضغط آخر يتمثل في ضرورة صقل قدراتهم والحصول على تدريبات مهنية مستمرة وتعليم مستمر من أجل أن يكتسبوا المزيد من الميزات التنافسية داخل سوق العمل المفتوحة.

3. الاستبعاد من النظام المالي

ما زالت الأنظمة داخل مؤسسات الوساطة المالية –سواء كانت مصارف أو شركات خدمات مالية- تخضع لضوابط تقليدية، حيث تُلزِم الأفراد الساعين للحصول على تمويل أن يُقدِّموا ضمانات للدخل، وبخاصة في الدول العربية. وعليه؛ فإن هذه النظم لا تثق في استدامة دخول أفراد البريكاريا، ولا تستطيع أن تقبل شهادات إثبات لمصادر دخولهم أو أعمالهم والتي بالفعل يصعب استخراجها.

بالتالي فإن أفراد البريكاريا يجدون صعوبة كبيرة في الوصول إلى الخدمات المالية مثل التمويل الاستهلاكي والرهن العقاري ونظم التقسيط وقروض السيارة وغيرها. ذلك أنهم لا يستطيعون إثبات مصادر دخولهم.

4. الاستبعاد من نظم التأمين والضرائب

بناءً على السمة المُشار إليها بصعوبة تحديد الدخل، فإنه من الصعب على الدولة ضم أفراد البريكاريا إلى القاعدة الضريبية الخاصة بالضرائب المباشرة كالضرائب على الدخول، لكنهم يخضعون بطبيعة الحال إلى الضرائب غير المباشرة كضرائب القيمة المضافة على السلع والخدمات.

ليست فقط صعوبة تحديد الدخل، ولكن أيضًا قصر أمد علاقة العمل في الوظائف المؤقتة يجعل من العسير استقطاع نسب ثابتة من الدخول لضمها إلى شبكات التأمين الاجتماعي والصحي، بخاصة وأن صاحب العمل الذي يجدر به في النظام التقليدي أن يدفع أعباء تأمينية عن موظفيه، لا يرتبط بمعاملات طويلة الأمد ولا عقود مع أفراد البريكاريا. وبالتالي فهو لا يدفع عنهم حصته من هذه الأعباء.

5. غياب الإطار التنظيمي

لطالما انتظمت طبقة البروليتاريا- والتي ترتبط ارتباطًا قويًا بالإنتاج- داخل إطار النقابات والاتحادات العمالية، والتي تطورت تنسيقاتها من مستويات محلية إلى مركزية ثم دولية. في المقابل فإن أفراد البريكاريا لا يجمعهم أي تنظيم، لا على أساس المهنة أو على أساس ظروف العمل، بخاصة وأنها تضم مجموعات غير متجانسة على المستويات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية.

فعلى سبيل المثال تضم البريكاريا مبرمجين ذوي خبرة عالية ويتقاضون أجورًا مرتفعة مقابل أعمالهم، بينما تضم أيضًا مترجمين مبتدئين وطلابًا جامعيين يعملون في وظائف عابرة لإنتاج المحتوى، أو عاملات في خدمات تنظيمية بسيطة بأجور زهيدة. وكل هؤلاء يصعب أن يجتمعوا في تنظيم واحد يصيغ حقوقهم وسياسة عملهم.

هل هي طبقة؟ هل هي قادرة على التغيير؟

إن الإشكالية ليست في إيجاد تعريف أو عناصر محددة للبريكاريا، ولكنها تكمن في عدم تجانس الأفراد الذين ينسحب عليهم هذا التعريف. ما يدفعنا إلى الشك والتساؤل حول ما إذا كانت طبقة بمفهوم علم الاجتماع أو لا.

تتسم البريكاريا بأنها مجموعة مرنة وحرة التعويم ذات علاقة ضعيفة بالإنتاج في أحسن الأحوال، وتفتقر إلى الشعور بالتماهي الطبقي الواضح. إن هذه السيولة تجعل من الصعب التعامل مع البريكاريا على أنها طبقة اجتماعية.

غير أنها في الواقع أثارت احتجاجات شعبية وشكّلت نواة لحركات اجتماعية وسياسية لا يمكن تجاهلها، كما هو الحال في حراك «السترات الصفراء» في فرنسا، و«احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي هذا الصدد يدفع عالم الاجتماع الفرنسي الراديكالي لويك واكوانت (Loïc Wacquant) بأن البريكاريا مجموعة «وُلدت ميتة». حيث يمكن للمرء أن يعمل على توحيدها فقط لمساعدة أعضائها على الفرار منها، إمّا عن طريق إيجاد ملاذ للعمل بأجر ثابت أو عن طريق الهروب من عالم العمل كليًا، حيث إن أي مساعدة لتحسين أوضاع هذه الطبقة وتوفير أمان وظيفي لها سوف يُفقِدها سماتها. ويصف ذلك بأننا «نواجه طبقة ستؤدي قوتها الصاعدة بشكل متزايد إلى تفككها».

أمّا ستاندج الذي له الفضل في رصد البريكاريا وتعريفها، فيرى أنها طبقة متصاعدة وقادرة على التوحش إن لم يتم تنظيمها وحل مشكلاتها الممثلة في الزعزعة والهشاشة وعدم الثبات، حيث يكتب:

البريكاريا أكبر من مجرد حقيقة، لقد نمت بسرعة كبيرة في السنوات الأخيرة. إذا لم يتم القيام بشيء ما لتحسين الأمن وإصلاح التفاوتات الطبقية الناشئة، سوف تتحول حصل إلى وحش سياسي.

وهنا يمكننا القول إن البريكاريا وعلى الرغم من عدم تجانسها وتفككها في الوقت الراهن، فإنها على المدى البعيد قادرة على أن تكون طبقة قادرة على التغيير، في حالة إن استطاعت تنظيم أفرادها في تنظيمات صغيرة على شكل هرمي. بخاصة وأنه يُوحِّدها مطالب اجتماعية واقتصادية واضحة، تتمثل في إضفاء عناصر الأمن الوظيفي على عملها وإدماجها في شبكات التأمين.

ما الذي تحتاجه البريكاريا؟

إن الزعزعة التي تواجهها البريكاريا في الراهن تضمر جذورًا لأزمات اجتماعية واقتصادية قد تتصاعد مستقبلًا، نتيجة لاتساع التفاوت بينها وبين الطبقات الاجتماعية التقليدية المعروفة. وعليه فإنها تحتاج إلى عدد من الآليات على مستوى بيئة العمل وعلى مستوى التمثيل العمالي وعلى مستوى الدولة لكي تتمكن من مواجهة المخاطر التي تقابلها.

1. تطوير بيئة العمل النظامية

بحيث تصبح أكثر مرونة لتجمع بين إمكانية العمل بنظام الدوام الكامل من المكتب بجانب العمل من المنزل، طبقًا لجدول أسبوعي من المهام المحددة مع إدارة الشركة. وهو ما قد يدفع الأفراد إلى الانتظام في وظائف مستقرة دون الهروب إلى عمل حر غير آمن.

2. إنشاء إطار تنظيمي جديد

أن يجتمع الأفراد الذين ينضمون تحت طائلة العمل العرضي أو العمل الحر، فينشئون تنظيمًا للعمل الحر خاص بكل مهنة. على سبيل المثال تنظيم للباحثين، وآخر للمبرمجين، وآخر للمترجمين… إلخ. وذلك للتفاوض على مستوى الأجور وشكل التعاقدات مع العملاء، وهو ما يمكن أن تُسهِم في بلورته منصات العمل الحرة عبر الإنترنت.

3. تعديل شبكة الحماية الاجتماعية والصحية

بحيث تسمح للأفراد المنخرطين في الأعمال الحرة والمؤقتة بأن يقوموا بدفع أعباء التأمين الاجتماعي والصحي بأنفسهم، دون الحاجة إلى اتخاذ صاحب العمل كوسيط وضامن للدفع. وهو ما يجدر بالدولة أن تتولاه من خلال إنشاء قاعدة بيانات، ووضع إطار تشريعي وتنظيمي لهذه العملية.