مر علم الإنسان Anthropology في مهده بمرحلة اختلط فيها العلم بالعلم الزائف، وشكلت الأفكار الاجتماعية الشائعة آنذاك سرابا ظنه باحثو هذه الوقت جزءا لا يتجزأ من العلم الجديد. كان علم القياسات البشرية –السلف القديم لعلم الإنسان-يقوم على تصنيف الخواص الجسدية لمختلف الأعراق البشرية واستنتاج ما يمكن استنتاجه من هذه التصنيفات ومن الأرقام التي تظهر بعد معالجتها. عنى ذلك لطبيب السجون الإيطالي تشيزري لامبروزو Cesare Lambroso أن هناك إمكانية استخدام قياسات مختلفة مثل طول وعرض الجبهة، حجم الفك، شكل الأذن في الربط بين الشخص وبين احتمالية قيامه للجريمة. الأمر الذي سيكون الخطوة الأولى نحو استخدام البصمات في تعريف الإنسان.


التمهيد.. العنصرية والبورتريه المتكلم

احتضنت أفكار لامبروزو المفهوم الخاطئ للتطور، وصاغت منه مفاهيما بدت منطقية آنذاك. كان الرجل المجرم عند لامبروزو L’umo delinquente هو شخص يمتلك نفس الخواص الجسدية التي قد تراها في أي من أفراد الطبقات الفقيرة، شخص بارز الفك عريض الجبهة مكسو بالشعر. عندما لاحظ لامبروزو التشابه بين وصفه للصفات العامة للمجرمين وبين سلالات البشر القديمة، خرج على العالم بمبدأ يقول بأن المجرم هو إنسان لم يتطور بالشكل الكافي وأنه نتاج سلسلة من الأخطاء التطورية التي وقعت مصادفة والتي تجعل من المجرم كائن أقل «إنسانية» بالمفهوم العلمي من الشخص المستقيم، وأقرب للقردة منه للإنسان.

يؤمن لامبروزو بمبدأ يقول بأن المجرم هو إنسان لم يتطور بالشكل الكافي وأنه نتاج سلسلة من الأخطاء التطورية التي وقعت مصادفة

لم تلبث أفكار الإيطالي أن اندثرت بمرور الزمن لعدم قيامها على تحليل إحصائي صحيح، وبعد بيان عدم وجود صفة جسمانية محددة تظهر في المجرم ولا تظهر فيمن عداه. أما فكرة تمييز البشر عن بعضهم واكتشاف طريقة لمعرفة المجرم الفطري –الشخص ذو الفطرة الإجرامية – فقد أبت على الاستسلام. تلقى بيرتيون Bertillon على عاتقه مهمة إعادة محاولة استخدام القياسات البشرية في إيجاد المجرمين –خاصة معتادي الإجرام منهم-وكانت النتيجة «البورتريه المتكلم Portrait Parle».

يتكون البورتريه من مجموعة من المعلومات يتم جمعها عن كل مجرم ما أن يتم احتجازه. تندرج هذه المعلومات تحت أحد عشر صفة أساسية تبدو كما لو كانت قادمة من رواية بوليسية وساخرة في اّن. تمثلت بعض المعلومات المطلوب جمعها في طول الأذن اليمنى، مدى اتساع الخد أو الطول ما بين المرفق وطرف الإصبع الأوسط. يضاف إلى هذه القياسات مجموعة من الصور للمجرم من كل الاتجاهات ومعلومات حول لون عينيه وشعره.

كان هذا «البيرتيوناج» هو الوسيلة المعمول بها في أقسام البوليس في مختلف المدن لاكتشاف ما إذا قام مجرم ما بتغيير هويته والتنقل بين بلدة وأخرى ممارسا لجرائمه فارا من العدالة. لا يصعب عليك عزيزي القارئ استنتاج عدم جدوى هذا النظام مع اتساع المدن وتعددها ومع ضخامة عامل الخطأ البشري في أخذ القياسات وتطبيقها في حيز ضيق من الوقت.

أتت الخطوة التالية في تمييز هوية البشر بواسطة صفاتهم الفيزيائية من طبيب أسكتلندي أثناء عمله في اليابان.


من التبشير بالمسيحية للتبشير بعصر البصمات

أسس هنري فولدز مهمة تبشيرية لحساب كنيسة اسكتلندا إلى اليابان عام 1874 تكونت من بعثة طبية وتعليمية جوالة. هناك لاحظ فولدز-الطبيب والرياضياتي ذو العين الثاقبة- أثناء إحدى جولاته في أرض الشمس المشرقة أن بعض الأواني الفخارية الأثرية احتوت على آثار أصابع مطبوعة خلفها صانعوها. هنا واتته فكرة البصمات التي نشرها في مجلة Nature عام 1880 بعد فترة طويلة من جمع البيانات والمقارنات والتفسير والتطبيق.

قد يخيل إليك أن اكتشاف فولدز سيستقبل بحرارة في وطنه الأم، تلك الفكرة التي طالما طاردها محققون وباحثون ها هي قد تجسدت أخيرا وباتت في متناول أيديهم، لكن الواقع كان له رأي اّخر. رفضت الشرطة البريطانية تبني هذه الفكرة الجديدة أو تنفيذها لصالح استمرار استخدام البورتريه. توفى فولدز دون أن يشهد النجاح الخارق لفكرة البصمات وبعد معركة طويلة ومريرة مع ويليام هيرشيل –الموظف المرموق مبعوث بريطانيا في الهند الذي أثبت أنه كان يستخدم طريقة البصمات للتأكد من هوية العاملين تحت إمرته من الهنود وكذلك المتعاقدين معه– على أسبقية اكتشاف التقنية والأحقية بفضل الاكتشاف.

لم تتبوأ البصمات المكانة التي تشغلها الآن كعامل إدانة أساسي إلا بعد أن أثبت بورتريه بيرتيون فشله في التفريق بين العديد من المساجين وفي اصطياد الكثير من المجرمين الرحالة الذين يفدون من بلدان أخرى تحت أسماء مستعارة وتاريخ ملفق. عام 1892 ظهر أول أمهات الكتب التي أسست لدراسة البصمات ومعالجتها لفرانسيس جالتون والموسوم «البصمات Finger Prints». احتوى هذا الكتاب على أول تصنيف لأنماط البصمات بين بصمة قوسية arch، وبصمة الأنشوطة loop، وبصمة المغزل whorl وأول حساب لاحتمالية تطابق بصمتين لشخصين مختلفين والتي كانت احتمال واحد على 64 بليون. تم تعديل الرقم حديثا لكنه مازال من الصغر بحيث يعتبر التطابق استحالة عملية خاصة بعد اكتشاف إمكانية وجود حمض نووي مرافقا لهذه البصمات.


بورتريه علمي

http://gty.im/53351427

إذا نظرت لأناملك ستتبين نتوءات صغيرة للغاية يطلق عليها نتوءات الاحتكاك friction ridges، تأخذ شكل خطوطا مقوسة أو مدورة. تنتج هذه النتوءات عن طبقة من الحليمات الصغيرة تدعى dermal papillae تتمركز بين طبقة الجلد الخارجية epidermis والداخلية Dermis. يتم تمييز هذه النتوءات وتعدادها عند المقارنة بينها. يطلق على مناطق تجمع ثم تفرق خطوط النتوءات اسم «دلتا delta» بينما يسمى مركز البصمة باسم «اللب Core» وتدعى المناطق الصغيرة المحاطة بنتوءات من كل اتجاه باسم «الجزيرة island».

بواسطة هذه الخصائص يمكن مقارنة أي بصمة بأخرى. تتم مقارنة اتجاهات النتوءات وعددها وعدد كل من الدلتاوات والجزر وموقع اللب وغيرها لتظهر بوضوح إمكانية كون البصمات متطابقة أم لا. لكن الواقع هو أن البصمات التي ترفع من مواقع الجريمة ليست هي البصمات السابقة وإنما لوحة زيتية مطبوعة عنها.

ما يتم رفعه من الأسطح المتواجدة في مسرح الجريمة هو في الحقيقة انطباع تنتجه النتوءات إما في قالب قابل للطبع مثل الدماء أو الصابون وتسمى حينئذ بالبصمات البلاستيكية Plastic وإما بواسطة الزيوت والأملاح والأحماض الأمينية التي ينتجها الجسم ذاته ويفرزها من مسام التعرق المتواجدة بمحاذاة النتوءات وهذه بدورها إما تكون مرئية Visible أو كامنة خفية Latent. هذه الأخيرة تتطلب بعض المجهود لكي تظهر للعيان ولو لفترة مؤقتة تسمح بتصويرها.


تحدث كي أراك

لم تتبوأ البصمات المكانة التي تشغلها الآن إلا بعد أن أثبت بورتريه بيرتيون فشله في التفريق بين العديد من المساجين وفي اصطياد الكثير من المجرمين الرحالة

لكي تتحدث البصمة الخفية عن صاحبها، يوجد العديد من التقنيات التي تجرى واحدة تلو الأخرى بما يراعي طبيعة السطح الذي يحمل البصمة. لا يتسمع المجال لذكر كل التقنيات المقصودة إلا أننا سنتناول التسلسل العام للتعامل مع البصمة سواء على سطح مسامي (بإمكانه امتصاص المواد المكونة للبصمة) أو سطح غير مسامي.

تعد أسهل الطرق لرؤية بصمة غير مرئية هو إشعاع ضوء ليزري أو أشعة فوق بنفسجية عالية الشدة على المنطقة التي يعتقد أنها تحمل بصمات –حائط أو باب مثلا – مما يجعل البصمة تظهر للعيان. يتم تطبيق هذه الخطوة الأولي على الأسطح من كلا النوعين المذكورين. إذا لم يفلح ذلك فأن المعالم الجنائي يلجأ إما للمساحيق، الأصباغ، أو الأبخرة.

تستخدم المساحيق Powders على الأسطح الغير مسامية. قد تكون هذه المساحيق ذات خواص مغناطيسية لمزيد من التحكم بالمسحوق وكيفية وضعه على السطح المطلوب إلا أن معظمها غير مغناطيسي كمسحوق الألومينيوم. يجب التشديد هنا على حقيقة أن المساحيق لا تستخدم إلا على البصمة التي قد تمت معالجتها مسبقا بما يعرف باسم «المعالج المادي physical developer» الذي يتم تطبيقه على كل الأسطح تقريبا.

رغم تسميته بكلمة physical إلا أن هذه التقنية هي مجرد تسلسل من التفاعلات الكيميائية تستخدم لإخراج البصمة من كمونها. يبدأ الأمر بغمر السطح المراد الكشف عن بصماته بحمض الماليك Maleic acid، ثم في محلول ثلاثي مكون من حمض الستريك/ الليمونيك ونترات الحديديك ومعهما كبريتات أمونيوم الحديدوز. يضاف لهذا المحلول بعض نترات الفضة ومادة تساعد على الاختلاط surfactant.

يتم غسيل السطح الأمل للبصمة لتظهر تلك الأخيرة ويتم تصويرها.ثم يتم النظر فيما إذا كان الوضع يتطلب استخدام مسحوق لإبراز تلك البصمة أو أنه يتطلب استخدام مقاربة أخرى تتمثل في مركب يدعى Ninhydrin.

إذا كنت من المتابعين الشغوفين لمسلسلات تحقيقات الجرائم فإن الطريقة المستخدمة للتعامل مع البصمات في أغلبها هي استخدام النينهيدرين ذو اللون الأزرق البنفسجي الزاهي. يناسب استخدام النينهيدرين الأسطح الرطبة والمسامية التي تساعد على إظهار البصمة في وقت أسرع كما تساعد على ذلك أيضا الحرارة التي تستطيع خفض الزمن اللازم لظهور البصمة من أيام إلى دقائق.

تأتى فعالية النينهيدرين في قدرته على التفاعل مع الأحماض الأمينية في البصمة مكونة لونها الزاهي المميز الذي يسهل تصويره بمزيد من الدقة إذا عولج بكلوريد الزنك وتمت إضاءته بواسطة الليزر. العقبة هنا هي أن النينهيدرين لا يستخدم على البصمات الكامنة في الدماء، فلهذا الغرض تستخدم أصباغ مثل الصبغة الحمضية السوداء التي تتفاعل مع بروتينات البصمة الكامنة في الدم مكونة لونا أسودا، أو الصبغة الحمضية الأرجوانية التي تفعل الشيء نفسه معطية لونا أرجوانيا.

أخيرا إذا كان السطح غير مسامي، فإن العالم الجنائي قد يحتاج لاستخدام تقنية خطيرة نوعا ما وهي بلمرة بخار الصمغ القوي المعروف باسم super glue. يتكون هذا الصمغ من مادة إيثيل أكريليت التي يتم تبخيرها ثم ترسيبها على البصمة مكونة بوليمر أبيض اللون معبرا عن الشكل الخفي للبصمة. تعد هذه التقنية هي الجيل الحديث من تقنيات أبخرة اليود التي كانت تعمل بنفس الطريقة عدا كونها مؤقتة يجب تصويرها بسرعة قبل أن يزول لونها البنفسجي.

بعد إجراء ما يلزم لمعالجة البصمات وتصويرها سواء بضوء عادي أو ليزري، لا يتبقى إلا إدخال الصور في قاعدة البيانات الرسمية للجهة المتولية التحقيق ليقوم نظامها الحاسوبي – نظام IDENTI على سبيل المثال-بالمقارنة أوتوماتيكيا بين خواص البصمات المدخلة وبين أي بصمة سبق وجودها في النظام.

بهذا تكون بضع نقاط غير مرئية من العرق على أطراف الأصابع قابلة لأن تكون شاهدا قويا يمكنه وضع الجاني في مسرح الجريمة أو وضع سلاح الجريمة بيده. في الحلقة القادمة ننظر في كيفية التعامل مع الآثار المتناثرة في أرجاء مسرح الجريمة وطرق تصنيفها المختلفة.

المراجع
  1. William J. Tilstone-Forensic Science: An Encyclopedia of History, Methods, and Techniques.
  2. Richard Saferstein-Criminalistics: An Introduction to Forensic Science
  3. Terrence F. Kiely-Forensic Evidence: Science and the Criminal Law
  4. M.Houck-Forensic science – modern methods of solving crime