تابعت على مصر في الآونة الأخيرة موجات من الأمطار تسببت في الكثير من الخسائر سواء على مستوى الممتلكات أو الأرواح. وتعالى الحديث حول البنية التحتية العشوائية ومدى عدم قدرتها على الصمود أمام جرعة أعلى بقليل من المعدلات المعتادة للمطر في مصر –وكأن مصر تمتلك مناعة ما ضد التغيرات المناخية التي يمر بها الكوكب بأكمله- وهى التي يجب أن تكون قادرة على التصدي لأحوال جوية أكثر تطرفا بمراحل، و كذلك عدم توافر نظم طوارئ لمعالجة الموقف المتفاقم ناهيك عن حماية السكان من الموجات المستقبلية. ولكن، إذا نظرنا للأمر بشكل أكثر عمقا فسنجد أن علاقتنا بالطبيعة أكثر تعقيدا من الخسائر المباشرة رغم فداحتها، فهناك الكثير من المشاكل التي تعمل بأسلوب طويل المدى جاعلة من ذاتها مؤثر قوى و خفي عن أعين الناس حتى تكشف عن نفسها في صورة إحصائيات لمرضى الكبد أو السرطان أو غيرها. لنلق نظرة على ما يعنيه التلوث فعلا وكيف يمكنه أن يؤثر في بلدان لا تمتلك الوعي أو الاهتمام أو الهيكلية لمجابهته.

صور نمطية خاطئة

يسود اعتقاد خاطئ بأن الملوثات هي مواد خطرة بطبيعتها تنتج عن أشياء محددة معروفة مثل المصانع أو السيارات. لكن في الواقع نجد أن علم البيئة يخبرنا بأن أي وكل المواد بإمكانها أن تصبح ملوثات. فالملوِث هو أي مادة توجد حيث لا يجدر بها أن تكون وبكميات أعلى مما يجب (ولها تأثير سلبى على النظام الحيوي للكائنات الحية في هذا المكان أو حوله أو لها القدرة على الانتشار كالملوثات الجوية) . فمثلا لا يعد البترول ملوثا داخل اّبار البترول ولكنه يعتبر كذلك إذا غرقت حاويات البترول في المحيط (تواجدت في موضع غير موضعها الطبيعي). أيضا هناك الكثير من الاستخدامات المفيدة لثاني أكسيد الكربون حيث يمكن استخدامه كمذيب وكمادة حافظة للطعام، وهو في هذه الحالة لا يشكل أي ضرر، وله نسب معينة يجب ألا يتعداها ليظل اّمنا. لكن، إذا تواجد في الهواء الذى نتنفسه فإنه يصبح ملوثا. ولا يقتصر الأمر على الملوثات المشهورة أو المواد الغير حية فقط، فبإمكان الأملاح أن تكون ملوثات وأيضا قد تصبح الكائنات المجهرية ملوثات. يمكننا اختصار الأمر في اعتبار أن أيه مادة لا توجد في مكانها الصحيح تعتبر ملوثاّ بشكل ما.

اعتقاد خاطئ اّخر يقول بأن الملوثات كلها من صنع الإنسان. لكن الحقيقة هى أن الملوثات قد تكون من صنع الانسان وقد تكون طبيعية. على سبيل المثال نجد أن الملوثات الطبيعية قد تنشأ عن ثورة بركانية أطلقت غاز الكلور وثاني أكسيد الكبريت إلى الجو. أيضا هناك مواد قد تنشأ عن الطبيعة ولكن يؤدى الإنسان الى تراكمها وتركيزها كما يحدث مع الرادون أو اليورانيوم أو الراديوم أو مع عنصر الزرنيخ الموجود في الصخور بشكل غير مؤثر على البشر. الا إذا تم حفر اّبار للوصول للمياه الجوفية مما يؤدى لتسرب المياه داخل صخوره واختلاطه بالمياه متسببا في تسمم الزرنيخ لمستخدمي هذه المياه.

تظل واحدة من أكبر مشاكل التعامل مع الملوثات هو الاعتقاد بأنها “تذهب بعيدا” بدون تكوين صورة واقعية ما عن “إلى أين تذهب؟”. وهذه النظرة تتسم بقصر النظر إلى حد بعيد . فبخلاف أن الملوثات تظل مضرة أينما ذهبت –إن لم تكن مضرة لك فهي مضرة لغيرك- ولكن أيضا فإن المواد الضارة قد لا تذهب بعيدا ، فليس معنى أنك لم تعد تراها أنها ليس قريبة منك. وفي العادة تتراكم هذه الملوثات على مقربة منك ولكن في أماكن قد لا تكون واضحة (كالبحر أو تحت سطح الأرض) مما سيؤدى حتما لما يشبه الانفجار في تأثيرها الضار بعد فترة من الزمن طالت أو قصرت.

غلاف من التلوث: هواء وأشياء أخرى

أدخنة، عوادم و روائح لا تطاق قد تفقدك القدرة على تذكر ماهية رائحة الهواء النظيف، هذا ما يحيط بك طيلة حياتك إذا كنت تعيش في المدن المكتظة في إحدى الدول النامية أو الفقيرة . عدد رهيب من السكان يتجمعون في بؤرة صغيرة إما بحثا عن المرافق أو لأسباب اقتصادية، لينتج عن ذلك نموا سرطانيا في كمية المخلفات. ولا يتوقف الأمر عند المشهد البغيض بل يمتد أثره ليسبب أعراضا صحية مثل تهيج العين أو صعوبة التنفس أو الصداع والدوار. لنتناول تلوث الجو بمزيد من العمق بإمكاننا تقسيم ملوثات الجو الى قسمين أساسيين : ملوثات هواء معيارية criteria air pollutants و ملوثات عضوية متطايرة Volatile organic pollutants.

ملوثات الجو المعيارية هي مواد نتعرض لها بكميات ضخمة وهى المسئولة عن ظواهر مثل المطر الحمضي الذى سنتناوله بالنقاش لاحقا . وتعود تسميتها بالمعيارية لكونها أول مجموعة من الملوثات أدركت الولايات المتحدة الحاجة إلى وضع قيود تحدد الحد الأقصى المسموح به منها في الجو. هذه الملوثات هي أول أكسيد الكربون ، الأوزون ، أكسيد الكبريت ، أكاسيد النيتروجين و الجسيمات.

يشكل أول اكسيد الكربون 50% من إجمالي تلوث الهواء سواء بحالته أو عند تأكسده إلى ثاني أكسيد كربون أما الأوزون فيوجد ضمن الضباب الدخاني خاصة في الصيف في المدن – وكذلك ينتج عن ماكينات التصوير- وهو نتيجة تعرض مزيج من الأكسجين و أكسيد النيتروجين و المواد العضوية المتطايرة الى ضوء الشمس والحرارة. وبالطبع يجب التفريق بين أهمية الحفاظ على الأوزون في طبقة الستراتوسفير وبين أهمية التقليل منه قدر الإمكان في طبقة التروبوسفير التي نعيش في جزئها السفلى. أما ثاني أكسيد الكبريت فيشكل 18% من إجمالي تلوث الجو ليحتل المركز الثاني بعد أول أكسيد الكربون ويشارك مع أكاسيد النيتروجين في تكوين المطر الحمضي . ولكن ، ما المقصود بالجسيمات المذكورة؟

الجسيمات أو ما يطلق عليها particulate matter هي ملوثات عالقة في الجو لا تندمج مع غازات الهواء بل تبقى كرذاذ من جسيمات صغيرة مختلفة الحجم تعرف باسم الهباء Aerosol وتشكل 10% من إجمالي تلوث الهواء. على عكس الملوثات الأخرى، فإن الجسيمات لا تمتلك صيغة محددة فهي قد تتكون من أي شيء حيث قد تتكون من الرصاص أو من جسيمات دقيقة من كبريتات أحد العناصر أو الزئبق أو معادن أخرى أو حتى التراب. وتجدر بنا هنا الإشارة إلى أن الرصاص برغم الحد من استخدامه مع الوقود الحفرى يظل ملوثا هاما حتى يومنا هذا حيث يستخدم في البطاريات ، أنابيب المياه القديمة، الطرق، وحتى الأراضي الزراعية غالبا ما تحمل اّثارا خطرة منه.

أما الملوثات العضوية المتطايرة VOPs مثل البنزين و الفورمالدهايد والكلوروفورم وغيرها فهي مواد عضوية وصلت للجو إما عن طريق احتراق الوقود أو عن طريق مصانع المواد الكيميائية أو مصافى البترول، وحتى الأشجار تساهم فى انتاجها كذلك ولكن ليس بالمعدل الخطر حتى فى الغابات.

السيناريو الأسوأ: واقع الدول النامية

حين نخطو في مدن الدول النامية، يبدو الأمر كارثيا لدرجة شبيهه بنهاية العالم. هواء لا يمكن تنفسه، ماء غير قابل للشرب، ري مختلط بالمخلفات الغير معالجة والمواد الكيميائية الضارة والأصباغ وبقايا التصنيع، وبالطبع محاصيل وأغذية ملوثة كذلك. وكل ذلك بتركيزات مرتفعة ومركزة للغاية مكونة بؤراً من الأمراض والعدوى التي تفتك بالسكان خاصة الصغار، حيث يصل الأمر في بعض المدن لاستنشاق بعض الأطفال ما يعادل علبتين من السجائر خلال التنفس فقط، كما تمت ملاحظة انخفاض ملحوظ في نشاط أجهزتهم المناعية وارتفاع في نسبة إصابتهم بأمراض ناتجة عن الطفيليات الموجودة في الماء الغير معالج بالإضافة لتعرضهم لمستويات مرتفعة من التلوث جراء التصاق حياتهم اليومية بالقمامة وهو ما يصل أحيانا الى حد البحث فيها عن ما يمكن بيعه أو تناوله من بقايا الطعام. أضف على ذلك أن 90% من الدول النامية مازالت تقوم بحرق قش الأرز.

يقول هيلسمان توبفر من برنامج الأمم المتحدة البيئي أن حل مشكلة الفقر هو حل لمشاكلنا البيئية. وتظهر الاحصاءات ارتباط التلوث الفادح وانخفاض المستوى الصحي بالمناطق الفقيرة بشكل أكثر من الدول الغنية – مع عدم انعدامه في الدول الغنية بالطبع – ولكن الأمور بإمكانها أن تتغير مع وجود إرادة. فنجد مثلا أن تجربة إدارة مدينة كوريتيبا بالبرازيل جعلتها مثالاً يحتذى به لمدينة نظيفة فى دولة من دول العالم الثالث.

وفي احصائية أجريت عام 1999 لوحظ أن أطفال 200 مدينة مكتظة بالسكان يتعرضون إلى ما بين 8:2 أضعاف مستوى التلوث المسموح به من قبل منظمة الصحة العالمية. في هذه الأماكن نجد أن 80% من نسب العدوى تحدث لأطفال تحت سن الخمس سنوات. كما يتسبب التلوث الجوي عموما في أكثر من 50 مليون حالة سعال مزمن عند الأطفال ما دون سن 14 عام، أيضا تتسبب الجسيمات وحدها في 460000 حالة وفاة سنويا.

مطر أم لا ..الخطر محدق

يعد المطر الحمضي والترسبات الحمضية مشكلتان أساسيتان فيما يخص المباني والزراعة، حيث تتآكل المباني وتزداد حمضية التربة بسببهما. ويعتقد البعض أن الأمطار هي المؤدية لهذه الأضرار في حين أنه حتى إن لم تؤدى الظروف الرطبة إلى تحويل ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد الهيدروجين إلى أحماض، فإنها ستتحول إلى كبريتات ونترات تترسب بفعل الجاذبية ولها نفس التأثير الملوث.

أما إذا وجدت الظروف الرطبة، وبوجود الأكسجين في الجو، ستتحول الأكاسيد لأحماضها المقابلة فتصبح الأمطار نقية المصدر محملة بحمض الكبريتيك و النيتريك و أيضا حمض الكربونيك الناتج عن أكسدة أول ثاني أكسيد الكربون إلى ثاني أكسيد الكربون الذى يتفاعل مع الماء متحولا الى كربونيك. وهذا المزيج من الأحماض القوية والضعيفة يؤدى إلى بلوغ معدل حمضية المطر إلى 4 على مقياس الحامضية PH. ولا يقتصر الأمر على المباني والتربة فقط، بل حتى سطح المسطحات المائية – خاصة البحيرات والأنهار – يصبح أكثر حامضية مما يؤدى لموت بيض الأسماك والكائنات المائية.

نرى الآن أن المشكلة البيئية لا تكمن في المطر بأي كمية، ولكن في ما يقابله المطر عند هطوله وكيفية التعامل معه. فكل هذه الملوثات لا ينحصر تأثيرها في الأماكن المحيطة بها فقط -وإن كان أكثر تركيزا- بل تتحرك لمسافات شاسع، فبإمكان الملوثات التي تصل للأنهار أن تسافر من بلد لأخر مدمرة في طريقها للأحياء المائية، كما حدث عام 2000 عندما وصلت مخلفات منجم في رومانيا إلى الدانوب عبر نهر تيسزا ودمرت الحياة المائية فيه بشكل درامي، فقد مات ما بين 80 : 100 % من الأسماك في المنطقة القريبة من المنجم. أيضا بإمكان المياه المتنقلة تحت السطح -كمياه الأمطار- نقل ملوثات مثل مخصبات الأرض الزراعية أو المبيدات الحشرية كما حدث مع مبيد الحشرات DDT فيما يعرف باسم Grosshopper Effect.

بالطبع لا يمكن أن نغفل تأثير انتقال الملوثات الجوية من أكاسيد النيتروجين والكبريت الناتجة عن حرق الوقود الحفرى سواء في المصانع أو وسائل النقل. فقد عانت اليابان مثلا من أثر الملوثات الناتجة عن الصين وكوريا. فكيف بالحياة قرب مصانع لا تتخذ الاحتياطات اللازمة لتنقية الغازات الناشئة عنها وهو ما يعتبر القاعدة الثابتة في الدول النامية.

ماذا يعني كل هذا؟

إذا تأملنا فى المسببات الجذرية للتلوث الأكثر تأثيرا و ضراوة والمتسبب فيه الانسان نجد أن المشكلة تكمن في ثلاثة شقوق: السكان والاستهلاك والصناعة. يأتي معظم النمو السكاني من المناطق الأفقر في العالم. ولذلك نرى تيارا ساحقا من السكان يهاجرون من القرى إلى المدن لأسباب اقتصادية، مما يؤدى لازدحام ضخم في هذه المدن. وبالطبع تظهر تبعات هذه الهجرة في زيادة عدد أطفال المدن بشكل عام. ويمكنك أن تتخيل كم المخلفات الناتجة عن هذه المدن المكتظة التي يصل عدد سكانها لعشرين مليون شخص وأكثر ومدى تأثيرها على الموارد الطبيعية هناك. ويكمن الرعب في كون الأمراض هي الطريقة التي عادة ما تلجأ اليها الطبيعة لاستعادة توازنها فأمراض مثل الفشل الكبدي أو الايدز تعد نتائج حتمية لمثل هذه الظروف المفتقرة للحدود الدنيا من الظروف الاّمنة صحيا كما بينا سالفا.

كذلك فإن للاستهلاك المبالغ فيه أثرا بالغا على البيئة. فمع كثرة الاستهلاك تكثر المخلفات -وإن كانت الدول الغنية تستهلك النسبة الأكبر من موارد الطبيعة والتي كثيرا ما تكون موجودة في دول أفقر- ومع كثرة المخلفات يصبح التخلص منها بإرسالها للدول الأفقر أمرا شائعا. كذلك تستهلك الدول الأكثر تقدما مصادر طاقة أكثر. فعلى سبيل المثال نجد أن سكان الولايات المتحدة الأمريكية الذين يمثلون 5% من نسبة سكان العالم يستهلكون 25% من إجمالي طاقة العالم المتاحة و موادها المصنعة، كما يمتلك 20% فقط من سكان العالم ما يصل الى 87% من سيارات العالم و 57% من الطاقة. أخيرا وليس آخرا نجد أن المناجم لكى تنتج ما تتطلبه الصناعات المختلفة من المعادن مثلا فإنها تتسبب في تأثير مدمر على البيئة والكائنات الحية في محيطها بنواتجها مثل الأصباغ السامة التي يتم التخلص منها في البحار والأنهار وكذلك المخلفات. فمثلا لك أن تتخيل أنه عند استخراج الرصاص، نجد أن الصخور المنتجة له تتكون من 2.5% رصاص، أما الباقي فهو مخلفات. أما الذهب فمن كل 7235 طن من الصخور هناك 0.00033 % فقط ذهب و 99.99967 % مخلفات.

الحل

لا يمكن حل مشكلة التلوث إلا بالعمل المتوازي على شقى المشكلة الأسوأ؛ السكان والصناعة. وفى الاتجاهين نجد أن تنفيذ القوانين هو السلاح الحاسم. فبمقدور القوانين الفعالة تحجيم ممارسات المصانع التي غالبا ما تكون غير متوافقة مع أبسط قواعد السلامة والأمن البيئي، حيث لا تتوانى عن إلقاء مخلفاتها حيثما اتفق بدون رادع. كذلك فكما قال توبفر، فإن محاربة الفقر ورفع مستوى المعيشة بشكل غير مركزي – أي الاهتمام بمستوى حياة سكان القرى وليس المدن فقط أو تحويل القرى لمدن خضراء – هي أمور حاسمة في النضال نحو بيئة أكثر استقرارا و حياة أكثر صحية. أما التجاهل والتأجيل فلهم عواقب ستكون أسوأ من أسوأ كوابيسنا.