ما رأيكم لو أن الكاميرون والبرازيل يتواجهان في مباراة كرة القدم، أيهما ستتمنى فوزه؟ بالطبع الكاميرون، فهم الطرف الأضعف في هذه المعادلة، الناس دائمًا يميلون إلى التعاطف مع الطرف الأضعف.
البروفيسور، مسلسل LA CASA DE PAPEL

بصورة لامعة أمام الشاطئ، وبملابس أنيقة على الرغم من بساطتها، حصلت عدسات الكاميرا على الصورة التي زينت غلاف مجلة التايم الأمريكية، معلنة عن أصغر شخصية في التاريخ الحديث تحصل على لقب شخصية العام، وهي الناشطة في مجال المناخ جريتا ثانبيرج، السويدية التي نجحت بصورة لافتة في أن تلفت أنظار متابعين حول العالم، بل خرجت المظاهرات في عدة مدن حول العالم، تحديدًا في أوروبا، دعمًا لما أعلنته من مطالب أمام زعماء العالم.

تحول الأمر وبصورة مفاجئة من تعاطف مع طفلة قررت أن تحمل لوحة مدوَّن عليها جملة من 3 كلمات، إلى رمز ملهم يتحدث الكثيرون حول العالم عنه، باعتباره أمل الجيل القادم في التحرر والنجاة، فهل تبدو حقيقية تلك القصة كما نراها على الشاشة؟

من بوابة المدرسة إلى بوابة البرلمان

لقد سرقتم أحلامي وطفولتي ومستقبلي بكلماتكم الجوفاء.
جريتا ثانبيرج، موجهة حديثها لقادة العالم بقمة المناخ التابعة هيئة الأمم المتحدة

نحن نتحدث عن طفلة بعمر السادسة عشرة، قررت وللمرة الأولى أن تغادر المدرسة، وأن تذهب إلى مقر البرلمان السويدي، حاملة معها لافتة تطالب فيها بالتحرك لإنقاذ العالم من كارثة التغير المناخي والاحتباس الحراري.

للوهلة الأولى، سيبدو الكلام صاعقًا ومؤلمًا، ستشعر أن جريتا في سنها الصغيرة تلك، ومع كل مشاعر الغضب التي تملأ وجهها وهي تتحدث، والدموع في عينيها، ستدرك أن كارثة قد وقعت بالفعل، وأن جريتا قد فقدت طفولتها كما تقول، وأن أحلامها المستقبلية وأفكارها لعمر الستين قد صارت أدراج الرياح، وبقليل من النظر، ستدرك أن جريتا تشعر بكل تلك المخاطر بسبب تغير المناخ.

خرج السهم من أمام البرلمان السويدي، ولم يعد بإمكانه الرجوع إلى القوس، فتلقفه العالم كأنه يرى من يصرخ للمرة الأولى، فقد أعلنت جريتا عن «جمعة لأجل المستقبل» التي دعت فيها أطفال العالم إلى الخروج يوم الجمعة وترك المدرسة، في تظاهرات حاشدة لإجبار قادة العالم على اتخاذ موقف حاسم وفعَّال تجاه أزمة المناخ، والعمل على حلها بصورة جدية.

وكأن الكثير من الأطفال في مثل سنها، كانوا في انتظار دعوة ما ليتلقفها الجميع، فكان رد الفعل أن خرج 4 ملايين طفل في مختلف المدن حول العالم، فيما عُرف بتظاهرات الاحتباس الحراري، والتي تدعو قادة العالم، إلى وقف ضخ ثاني أكسيد الكربون بتلك الكميات الكارثية.

وصل الأمر إلى درجات متقدمة من التفاعل العالمي، فزعماء الدول الإسكندنافية مثل النرويج، تحدثوا عن أهمية الالتفات لتصريحات جريتا، حصلت بعدها جريتا على فرصة للتحدث في الأمم المتحدة أمام كافة زعماء العالم خلال قمة المناخ.

في مدة لم تتجاوز 14 شهرًا، أصبحت جريتا ثانبيرج رمزًا مهمًّا حول العالم، وتكلل الأمر في الأخير بوضع صورتها كغلاف على مجلة التايم الأمريكية، باعتبارها الشخصية الملهمة الأكثر تأثيرًا في عام 2019.

قابلت جريتا مجموعة من المُشرِّعين في الولايات المتحدة، للنقاش حول نوعية القوانين والتشريعات التي يمكن إصدارها للتعامل مع مسألة المناخ بصورة جادة، ثم التقت بعدها بمجموعة من علماء المناخ لتقدم لهم آراءها في مسألة ما يجب الإقدام عليه لحل تلك الأزمة.

ألا يكفي أن يعاديك ترامب!

بمجرد أن بدأت جريتا حراكها أمام البرلمان السويدي، ومن ثم انتقل الأمر إلى مراحل أكثر تقدمًا، وبدأت وسائل الإعلام تتعامل مع الأمر بصورة جدية، كان لرئيس الولايات المتحدة رأي آخر، وهو السخرية من جريتا، لكن أحدًا ربما لم يلاحظ السبب.

كتبت جريتا في الجملة التعريفية الخاصة بها على حسابها على موقع تويتر أنها «فتاة صغيرة سعيدة تحلم بمستقبل مشرق»، فما كان من ترامب إلا أن كتب على تويتر معلقًا عليها قائلًا: «يبدو لنا حقًّا أنها فتاة صغيرة سعيدة تحلم بمستقبل مشرق» كشكل من أشكال السخرية مما قالته بشكل عام، وهو الأمر الذي أثار استياء البعض، بما فيهم بعض مسئولي اللجنة الإعلامية في البيت الأبيض.

ربما يمكن القول إن السؤال الذي نبحث عن إجابته هنا هو «ما الذي يدعو رئيس الولايات المتحدة للسخرية من طفلة بعمر السادسة عشرة؟».

تبدأ الإجابة من حيث قرر ترامب سابقًا الانسحاب من قمة المناخ المنعقدة في باريس، باعتبارها غير ذات أهمية، وقد كان ذلك القرار منذ مدة طويلة، تسبق حركة جريتا برمتها، وبقليل من التنقيب، فسيتكشف أن الكثير من أعضاء حكومة ترامب، بما فيهم مايك بنس نفسه، لديهم مشروعات تنقيب عن بترول وآثار في عدة مناطق من العالم، بما فيها مشروع التنقيب في القطب الشمالي، وهو مشروع كارثي بالمعنى الحرفي للكلمة.

ولأن العالم يحيا في فترة يمكن تسميتها ببساطة بفترة الجنون، فمن الطبيعي أن يخرج رئيس أكبر دولة في العالم، ليسخر من طفلة صغيرة، مدافعًا عن المصالح الاقتصادية – بشكل غير مباشر – تلك التي يمتلكها أعضاء حكومته واللوبي الداعم له في الولايات المتحدة.

من هنا تشكلت حلقة جديدة في تلك السلسلة، تبعها سخرية ترامب مجددًا من فوز جريتا بصورة شخصية العام.. تلك هي اللعبة التي يلعبها البشر دائمًا، هناك شيطان وهناك ملاك، هناك طرف قوي وأمامه طرف ضعيف، والبشر بطبيعتهم يفضلون الطرف الأضعف في تلك الحكاية، والأضعف هنا لا تعني بالضرورة فاقد القدرة أو الإمكانية، بقدر ما تعني ذلك المنادي بالحقوق في وجه من يملكون السلطة، وهو ما حدث في حالة جريتا وترامب.

تلك هي اللعبة التي لعبها صناع مسلسل LA CASA DE PAPEL الشهير، مجموعة من اللصوص، قرروا سرقة ثروة لا تخطر على بال أحد تحت اسم “مقاومة الرأسمالية التي تتحكم في العالم وتسحق الفقراء”، وبمجرد أن تحصل العصابة على الثروة تنسى الفقراء، ويحصل كل فرد في العصابة على نصيبه من الثروة، ليحيا به في مكان آخر من العالم حياة المليونيرات.

وحينما تفكر العصابة مجددًا في إعادة الكَرة، يفكر القائد حينها في تقديم حفنة لا بأس بها من المال للجموع المحتشدة في شوارع مدريد لخلق حالة من الفوضى، تستطيع العصابة من خلالها الوصول إلى مبتغاها، تلك هي النقطة الوحيدة التي استفاد من خلالها الفقراء والمهمشون من الاستيلاء على الثروة من قلب الرأسمالية.

لكن النقطة الأهم في القصة أن الجميع يتعاطف مع العصابة، لماذا؟ الإجابة ببساطة قدمها قائد الفريق في إحدى حلقات المسلسل.. الناس يحبون الطرف الأضعف، يفضلون دائمًا فاقدي القدرة أمام أصحاب السلطة.

وبعيدًا عن كل نظريات المؤامرة التي لن يكون لها أي محل من الإعراب في تلك القصة، فقد نجحت جريتا في استغلال ذلك أفضل استغلال، لكنها لم تكن تدرك أن الأمور قد تنقلب رأسًا على عقب.. دون تخطيط منها.

حاول أن تكون الضحية.. دائمًا!

مدينة تورين بإيطاليا، حيث وقفت جريتا تلقي كلمتها أثناء أحد أيام الجمعة التي تشارك فيها جريتا في العواصم الأوروبية ضمن رحلاتها، حيث قالت بلغتها السويدية والتي ترجمت للجميع بالإنجليزية متحدثة عن رؤساء الدول: «يجب علينا أن نضعهم في مواجهة الجدار، حتى يقوموا بتنفيذ مطالبنا والقيام بمهامهم».

بينما تحاول جريتا أن تظهر طوال الوقت بصورة الضحية المنتهك حقها، والتي تسعى لإصلاح العالم، أخذتها الحمية ذات مرة، ووجدت نفسها توجه حديثًا اعتبره البعض غير لائق، ووجدت جريتا نفسها في موقف يستدعي الاعتذار، ففعلت.

وجدت جريتا نفسها في مواجهة أولى أزماتها التي لم يفيدها فيها أن تكون الضحية، حيث انهالت الاتهامات عليها باعتبارها تحرض على العنف، حتى أن ديفيد فانس، وأحد معدي البرامج في الولايات المتحدة، علق قائلاً على تويتر: «وماذا بعد أن نضعهم في مواجهة الجدار يا جريتا، سنخرج السلاح ونطلق النار على من لا يعجبك منهم».

كان حظ جريتا سيئًا هذه المرة، فالتعبير الذي خرج في الترجمة الإنجليزية كان Put them to wall وهو تعبير يوحي دائمًا بالخطوة التي تسبق القتل، فإذا ما سمعت أحدهم يتحدث بتلك الجملة في بريطانيا أو الولايات المتحدة على سبيل المثال، فالخطوة التالية هي أن يخرج مسدسه وأن يطلق النار على رأس من وضعه في مواجهة الجدار.

بدا الأمر صعبًا هذه المرة حتى جاء الاعتذار من جريتا قائلة إنها لم تكن تقصد ذلك المعنى الذي فهمه الكثيرون، فالجملة التي قالتها باللغة السويدية تعني أن نضعهم تحت الأضواء، أي تحت أمام المسئولية والمحاسبة، وأن الخطأ في هذه المرة يقع على عاتق المترجم الذي نقل الحديث من السويدية إلى الإنجليزية!

لعبة الضحية لم تتوقف.. فجريتا التي قامت بجولتها الماضية في أوروبا عبر قارب، لأن وسائل التنقل التي تعتمد على المحروقات تساهم في تلوث البيئة، وجدت نفسها في اختيار أن تستقل قطارًا في إحدى المدن الألمانية، وما حدث حينها هو أن جريتا لم تجد مقعدًا ضمن مقاعد الرحلة في القطار، فجلست على الأرض مع حقائبها، ثم شاهد متابعوها صورتها المنشورة مع الحقائب على الأرض وهي تنظر بعمق نحو الأفق، وقد كتبت أنها لم تحظَ بمقعد في القطار بسبب الزحام الشديد في قطارات هذه الشركة.

لكن هذه المرة لم يكن هناك ثمة مترجم يمكن أن يتحمل عبء الأمر، فقد أصدرت الشركة بيانًا مدحت فيه دور جريتا في أزمة المناخ، وأكدت أن جريتا لم تذكر في تغريدتها أنها حصلت على مقعد في الدرجة الأولى بين مدينتي كاسيل وهامبرج، وأن فريقها المعاون كانوا في مقاعد الدرجة الأولى بالفعل حتى مدينة فرانكفورت، وأنها وكامل فريقها تلقوا معاملة خاصة وطيبة من جميع العاملين في القطار.

فما كان من جريتا إلا أن غردت عبر تويتر قائلة: «بالطبع لم يكن هناك مشكلة وأنا لم أقل إن هناك مشكلة، كما أن القطارات المزدحمة مؤشر جيد على ازدياد الطلب على السفر بالقطار».

بمجرد أن تجد ذلك النوع من الردود غير المنطقية والتي تحاول دائمًا إخلاء المسئولية والامتناع عن الاعتذار، عليك أن تفتش دائمًا عن شركات العلاقات العامة، والتي تتولى بشكل أساسي مسئولية إعداد وتجهيز الردود والبيانات الرسمية والتصرف في أوقات الأزمات، والتي لا يستبعد على الإطلاق أن تكون هي من رتبت مسألة تحمل المترجم المسئولية عن التصريحات.

إذن.. هل هناك شركات علاقات عامة تعمل مع جريتا؟ بالطبع هناك، وليست شركة واحدة بل اثنتين، أولهما هي شركة Climate Nexus وهي شركة علاقات عامة متخصصة في أمور التغير المناخي، وثانيها شركة GSCC وهي كذلك شركة علاقات عامة تهتم بنفس الشأن.

وإذا كنت من هواة المتابعة والتدقيق، فجريتا نفسها قالت في إحدى كلماتها إن المطالب تصل لزعماء الدول، لكنهم لا يهتمون إلا بأمور المحاسبة المالية والعلاقات العامة، في إشارة منها للدعاية السياسية التي يقوم بها بعض الأنظمة عبر الاتفاق مع شركات معينة.

قدم للعالم ما يحتاجه

العالم بحاجة إلى رمز يلتف حوله، أيًّا كان نوع أو حجم المطالب التي يقدمها ذلك الرمز، ذلك هو نوع الإشباع المحبب إلى الجميع، لكن السؤال الأكثر إلحاحًا هنا، هل كانت جريتا بحاجة إلى أن تعقد لقاءات مع مشرعين وعلماء ليسمعوا توصياتها بخصوص أزمة المناخ، وما هي نوعية تلك التوصيات التي يمكن أن تقدمها فتاة غاضبة في السادسة عشرة من عمرها، في حين أن هناك فتيات في مثل سنها يعشن في مخيمات اللاجئين لا يجدن ما يسترهن وما يطعمهن ولم يفكر أحد من صناع القرار أو المشرعين أن يجتمع بهن لسماع طلباتهن، ولم يفكر أي من صناع القرار على سبيل المثال في إيقاف تمدد الكوليرا والجوع في أرجاء اليمن، والذي يهدد بقتل مليون طفل، أصغر عمرًا بكثير من جريتا.

لذا فمن الضروري القول إن مطلب جريتا هو مطلب شرعي من حقها طرحه، لكن تلك المبالغات التي تصل إلى تعيين شركات علاقات عامة لتحسين صورتها أمام العالم، في حين أن جريتا نفسها لم تفكر في أي من تلك الكوارث السابق ذكرها، فهو ما يدفعنا إلى السؤال حول حقيقة الرموز التي يصدرها العالم للجميع باعتبارها نماذج ملهمة، ويقدم لها أكثر مما تحتاج، وعلى الجانب الآخر يتجاهل بشكل تام من هم في كوارث حقيقية تدمر حاضرهم قبل التفكير في مستقبلهم.