لم تزل الأمة ترى أن من أقرب القربات إلى الله تعالى مدح نبيه (صلى الله عليه وسلم)، خاتم رسله والمبلغ عنه دينه، صاحب الدرجة الرفيعة والمقام المحمود، وتوالى على ذلك الشعراء من لدن حسان بن ثابت (رضي الله عنه) إلى عصرنا.

ولم يكن لأحد من أهل العلم والأدب نكير على الشعراء المدّاحين، بل كان بعضهم يلقَّب بشاعر الرسول حتى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومرور قرون على وفاته، يلتمسون بذلك أن يكونوا في ظل قول النبي، صلى الله عليه وسلم، لحسان: «قل وروح القدس معك».

بل إن نكيرهم اشتد على الشاعر الكميت في قوله:

إلى السراجِ المنير أحمدَ لا … يعدلني رغبةٌ ولا رهَبُ عنه إلى غيره ولو رفع الن … اسُ إليَّ العيونَ وارتقبوا
وقيل: أفرطتَ!

فقال: بل قصدتُ ولو … عنَّفني القائلون أو ثلبوا، لجَّ بتفضيلك اللسانُ، ولو … أُكثِر فيك الضجاجُ واللجبُ.

إذ عده الجاحظ من غرائب الحمق، وقال: «فمن رأى شاعرًا مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، فاعترض عليه واحدٌ من جميع أصناف الناس، حتى يزعم هو أناسًا يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه؟!»، وتأوّل له الطبري: «أخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته، فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين؛ لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي، صلى الله عليه وسلم، وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله».

فهذا الكلام يتضمن إجماعًا من المسلمين على فضل هذا الأمر.


المدائح النبوية فن صوفي

كان مدح النبي (صلى الله عليه وسلم) في القرون الأولى جزءًا من غرض المدح عند العرب، ولم يتطور بعد ليكون غرضًا قائمًا بذاته من أغراض الشعر. وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) انصرف الشعراء عن المدح النبوي إلا ما كان من بعض شعراء الشيعة كالكميت، أو غيرهم من شعراء السنة كأبي العتاهية.

وظل المادحون فرادى بين الشعراء، وقصائدهم فرادى بين جمهرة أشعارهم، حتى أواخر القرن السادس الهجري بعد أن ظهرت الحركة الصوفية ظهورًا تنظيميًّا بنشأة الطرق الصوفية، فقد اعتنت الصوفية بهذا النوع من المديح وجعلوه غرضًا قائمًا بذاته، فلم يخلُ ديوان شاعر صوفي من قصائد في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، وأفرد بعضهم ديوانًا كاملا من شعره لهذا الغرض، بل إن الشيخ يحيى الصرصري (ت ٦٥٦ هـ) رحمه الله، لم يكتب في غير هذا الغرض من الشعر، وقال عنه ابن شاكر الكتبي: «لا أعلم شاعرًا أكثر من مدائح النبي، صلى الله عليه وسلم، أشعر منه». وبلغت قصيدته «الروضة الفاخرة في أخلاق محمد المصطفى الباهرة» خمسين وثمانمائة بيتًا.

حتى ظهر المدَّاح الأكبر البوصيري، رحمه الله، وكتب للناس رائعته البردة التي نقلت هذا الفن نقلة كبيرة، فلا يخلو ديوان شاعر صوفي مدّٙاحٍ للنبي، صلى الله عليه وسلم، من معارضة لهذه القصيدة أو تشطير أو تخميس أو تسبيع، بل نشأ في علم البلاغة فن من القصائد اسمه البديعيات، وهي قصائد في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، كل بيت منها يتضمن فنًا من فنون البديع على وزن بردة البوصيري وقافيتها، ابتدأ هذه البديعيات الإمام صفي الدين الحلي، وتوالى الشعراء والبلاغيون على نظم مثل هذه البديعيات حتى شاركت النساء في نظمها كالشاعرة عائشة الباعونية من شاعرات العصر المملوكي في بديعيتها «الفتح المبين في مدح الأمين».


نقود على مدائح الصوفية

وقد ضمن الصوفية في هذا الفن اعتقادهم في النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، واختياراتهم الفقهية والعقيدية التي خالفوا بها المادحين الأوائل ببعض الغلو في النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يألوا جهدًا في تضمين هذه الاختيارات بكل ما أتاحته لهم العربية بفنونها من مجاز وكناية وتعريض، واتساع تراكيبها للمعنى ونقيضه، فأصابوا وأخطأوا، واقتصدوا وغٙلٙوا.

فظهر على استحياء تيار يتناول مسائل التوسل والاستغاثة بغير الله، جل وعلا، وبالنبي، صلى الله عليه وسلم، تحديدًا، والغلو في مدحه = بالنقد والتصحيح، وكان على رأس هذا التيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكانت إشاراته في نقد نصوص المدائح الغالية في النبي، صلى الله عليه وسلم، موجزة، بنقد أبيات من قصائد للصرصري والبوصيري فيها غلوٌّ في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، أو استغاثة به، أو توسل إلى الله تعالى به، ولم يقتصر الإنكار على السلفيين فقط، بل كان في الصوفية منكرون على هذه المبالغات الشيخ عبد الله الغُماري، رحمه الله.

ثم مرت القرون، والمدائح النبوية محتفظة بطابعها الصوفي ملتزمة باختيارات الصوفية الفقهية والعقيدية، وخفت ضوء التيار السلفي الناقد لهذه الاختيارات، إلى أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وتبنت آراء شيخ الإسلام ابن تيمية واجتهاداته بقوة، وكثر نقدهم لأدب الصوفية في المدح النبوي، لا سيما بردة البوصيري التي أصبحت علمًا على المدح الصوفي للنبي، صلى الله عليه وسلم.

واشتهرت فتاوى علماء نجد المنكرة لبعض ما جاء في أبيات البردة من غلو، وأفرد بعض علماء الدعوة الوهابية رسائل في الرد على البردة، لكن لم يظهر في الدعوة الوهابية اتجاه أدبي في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، يظهر لنا نموذجًا خاليًا من غلو الصوفية، متضمنًا اختيارات الدعوة العقيدية كما فعل الصوفية، بل اكتفى علماء الدعوة والعلماء المؤيدون لهم بالنكير على مخالفيهم، والتوجيه لقصائد المدح النبوي الأولى التي كتبها شعراء الرسول من الصحابة الكرام وتبيين فضلها، كشعر حسان بن ثابت، رضي الله عنه، وبردة كعب بن زهير، رضي الله عنه، بل كانت هذه القصائد دليلا لهم على خروج قصائد الصوفية عن المدح المشروع الذي يرضى عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.


محاولات سلفية للخروج من النقد إلى الإبداع

نعم، ربما ورد في ديوان شاعرٍ مدح للنبي، صلى الله عليه وسلم، لكنها كانت مقطوعات، كبيتَي الأمير الصنعاني (ت ١١٨٢ هـ) رحمه الله الرائقَينِ، وقد سألوه عن سبب صلاته على النبي، صلى الله عليه وسلم، كلما تطيَّب:

يقولون: عند الطيب تذكرُ أحمدًا :: فهل عندكم من سنةٍ فيه تؤثَرُ؟ فقلتُ لهم: لا، إنما الطيب أحمدٌ :: فأذكره، والشيء بالشيء يُذكرُ

أو كانت أبياتًا من قصائد في الرد على المخالفين، والحض على اتباع سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكن لم تفرد القصائد في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، كما عند الصوفية.

هذا الإنكار الشديد على الصوفية جعلهم يتهمون الوهابية بجفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، ونسبوا إليهم أقوالا لم تصدر عن علمائهم، وظهر في المنتسبين للوهابية من يغالي أيضًا في الإنكار حتى حرّٙم بعضُهم مباحاتٍ بل مستحباتٍ مأثورةً عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في السلام عليه بذريعة التوسل والاستغاثة.

وهذا ما دعا الشاعر السيد عبد الحميد الخطيب إلى كتابة عدة دواوين في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد روى عن أحد الحجاج السوريين أن منتسبًا للوهابية يدَّعي العلم منعه من أن يقول «السلام عليك يا رسول الله»، وروى الخطيب شيئًا مما تعرَّض له من مثل هذا، وذكر إنكار كبار علماء الوهابية لهذا الغلو، فأراد أن ينفي عن الدعوة ما نُسب إليها من جفاء لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرافٍ عن مدحه، وأن يبين عمليًّا النهج السليم في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، دون غلوٍّ فيه، أو نسبة ما لا ينبغي إلا لله إليه، صلى الله عليه وسلم، وأراد أيضًا أن يرد على غلاة الوهابية الذين يغالون في تحريم المباحات بدعوى التوسل والاستغاثة بغير الله عز وجل.

فكانت دواوينه هي المحاولة الأدبية الأولى التي تتخذ من مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، غرضًا خاصًّا من أغراض الشعر كما كان فعل الصوفية وما زالوا يفعلون.

اشتمل ديوانه في «حب الله ورسوله» على تحية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومعارضة لبردة البوصيري، وهمزيته، ومعارضة لبردة كعب بن زهير، رضي الله عنه، وقصيدة في الثناء على الله تعالى، وكانت كل قصائده مطولات. وقدَّم لديوانه الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله فقال: «كان فيها الأسوة الحسنة للمؤمنين في مقام التوحيد الخالص والتوسل بسيد المرسلين».

ولم يكن هذا الديوان هو ديوانه الوحيد في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد كتب منظومة «سيرة سيد ولد آدم» وهي تائية مطولة في ألفي بيت.

لكن – كعادة المحاولات الأولى – لا تصلح هذه القصائد للمقارنة بقصائد الصوفية، فشعره أقرب للمنظومات، وأسلوبه مباشر يميل للوعظ، وحِجاجُه فقهي أفسد روح الشعر في قصائده، وأعجزته القوافي فلجأ للقوافي السهلة وكررها، مع ركاكة في الألفاظ، وربما أخطأ في قواعد النحو، وعروض الشعر، وقد لمح لذلك العلامة محمد بهجت البيطار في عرضه لمؤلفاته بمجلة مجمع دمشق، وكذلك معجم شعراء البابطين. لكن لم يقف الأمر على الضعف اللغوي، بل نتج عن هذا الضعف أنه وصف النبي، صلى الله عليه وسلم، ببعض ما لا يليق بجنابه كقوله:

ودونكم ما بين بيتي ومنبري :: مكان بها يُجلى الصدى وهمومُ لكم فيه حقًّا روضة ذات زخرف :: من الخلد فيها قد أُعِد نعيمُ وصلُّوا به دومًا فإني بقربكم :: أُسرُّ بتقوى أمتي وأهيم

فنسبة الهيام للنبي، صلى الله عليه وسلم – وهو كما في المعاجم: كالجنون من العشق – مما لا يليق به أبدًا بل هي من إساءة الأدب، ولولا حسن نية صاحبها لكان القول فيه أغلظ من هذا.

وهنا تظهر ميزة المدح الصوفي أنه قد يكون فيه غلو في النبي، صلى الله عليه وسلم، لكنه على كثرة المادحين، لا ترى فيه انتقاصًا من قدره أبدًا، مهما كان ضعف الشاعر المادح في العربية، أو خلو مدحه من الشعر.

ظهرت بعد ذلك أشعار سلفية في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، كشعر الشاعر الفحل العلامة محمد بهجت الأثري، رحمه الله، لكن لم تشكل هذه الأشعار اتجاهًا ينافس الطابع الصوفي الغالب على مدائح النبي (صلى الله عليه وسلم).

وعلى هذا المنوال الصوفي نسج كثير من الشعراء غير المنتسبين للتصوف مدائحهم النبوية كأحمد بخيت وتميم البرغوثي وسمير فراج، فالتزموا المضمون والشكل الصوفي للمدائح النبوية، واستبدلوا بالاستغاثة والتوسل بالنبي، صلى الله عليه وسلم، الشكوى إليه من حال المسلمين واستباحة العدو دماءهم وأراضيهم.

المراجع
  1. جامع البيان عن تأويل آي القرآن = تفسير الطبري، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف 1374هـ.
  2. البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي 1998.
  3. المدائح النبوية، د. محمود علي مكي، لونجمان ١٩٩١.
  4. في حب الله ورسوله مجموعة قصائد، السيد عبد الحميد الخطيب، مطابع دار الكتاب العربي ١٩٥٤.
  5. سيرة سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم = تائية الخطيب، السيد عبد الحميد الخطيب، المطبعة السلفية ١٣٦٢هـ.