في السطور التالية، نحاول الإقتراب من الحالة العراقية وتتبُّع أصل الأزمات التي تعصف بالبلاد، ثم التركيز على أبعاد الأزمة الحالية ومستقبل النظام السياسي للبلاد في ظلها.


الطائفية والمحاصصة منبع الأزمات

بالرغم أن الأزمات في العراق تعود إلى ما قبل الغزو الأمريكي بفترة طويلة، إلّا أن دخول الأمريكيين وحلفائهم إلى العراق في العام 2003، قد أدّى إلى تفجير الأوضاع في العراق بشكل كبير وغير مسبوق خصوصًا مع قيام الولايات المتحدة بإسقاط أركان الدولة العراقية التي كانت قائمة، و إعادة تكوينها على أسس جديدة رسّخت لسيادة مفاهيم الطائفية والمحاصصة الدينية والعرقية والحزبية على حد سواء.

أدّت حالة المحاصصة والطائفية السياسية إلى حجز أغلب المناصب الحكومية من رأس الدولة ورئاسة الحكومة حتى الوظائف الدنيا في الجهاز الإداري.على سبيل المثال أصبحت رئاسة الجمهورية مرتبطة بالأكراد، ورئاسة الحكومة مرتبطة بالشيعة، ورئاسة مجلس النواب مرتبطة بالعرب السُنّة.

وقد أدّى هذا الأمر إلى نتائج خطيرة؛ فأصبحت الأولوية إلى الإنتماء الحزبي وليس الولاء الوطني. فكل حزب داخل كتلة معينة، شيعية أو سنية أو كردية، أصبحت له مناصب بعينها يشغلها مسؤلوه بغض النظر عن معيار الكفاءة. وقد أدّى هذا الأمر الأخير إلى استشراء الفساد بشكل كبير في مؤسسات الدولة العراقية؛ حيث تحولت المناصب الحكومية إلى دوائر للمصالح بين المسئولين والمنتفعين.

وما فاقم من الأوضاع في العراق هو وجود بعض اللاعبين الإقليميين،خصوصًا إيران، الذين استخدموا العراق كساحة لتصفية الخلافات مع بلدان أخرى أو فصائل أخرى، وحاولوا إثبات النفوذ وتوسيعه لتكوين المحاور دون اعتبار جدّي للحساسيات داخل العراق. وهو ما دعّم ورسّخ النظام الطائفي.

بالتالي دعّم مشاعر الرغبة في الانتقام لدى بعض القوى الأخرى التي تم تهميشها، كما في حالة السُنّة الذين تم تهميشهم فلجأوا إلى التحالف مع تنظيمات كداعش للثأر، وهو ما يؤدي في النهاية إلى محصلة من الفشل المتتابع والمتزايد في العراق.

وبالرغم من أن الأوضاع العراقية بشكلٍ عام تحت حكم العبادي هي أفضل وأقل توترًا من حقبة سلفه، «المالكي»، إلا أن الأوضاع لاتزال مضطربة ومتأزمة بدرجة كبيرة. فالإحتقان الطائفي لايزال موجودًا بدرجة كبيرة، خصوصًا على جبهات القتال حيث تقوم قوات الحشد الشعبي التي تعترف بها الحكومة بتجاوزات كبيرة ضد السُنّة في المناطق المحررة من داعش.

كما أن الاحتجاجات الأخيرة التي خرجت مطالبة بالإصلاح قد خرجت في عهده بسبب استشراء الفساد، بيد أنه من غير العادل أن يتحمل الرجل أوزار هذه المشكلات بشكلٍ كامل. فما وصل إليه الوضع من طائفية وفساد، هو محصلة لسنوات طويلة من التراكمات وليس فقط نتاجًا لفترة حكم العبادي القصيرة.


الاحتجاجات: فساد ووعود بالإصلاح

خرجت الاحتجاجات في شوارع العراق -خصوصًا في المناطق الشيعية في الجنوب وبغداد-للمطالبة بمطالب اجتماعية كتحسين الخدمات، ومحاربة الفساد، وتعزيز الإصلاح، وتفعيل محاسبة المسئولين، وقد خرجت هذه الاحتجاجات في إثر الحر الشديد الذي واجهه العراقيين هذا الصيف والذي تزامن مع وجود نقص في الطاقة والكهرباء.

فتشير بعض التقارير إلى أن العراقيين لا تتوافر لديهم الكهرباء سوى نحو 12 ساعة فقط يوميًا في ظل طقس شديد الحرارة تجاوزت فيه الحرارة نحو 50 درجة في بعض الأحيان. واللافت في هذا الأمر أن الاحتجاجات قد انطلقت في البصرة، في جنوب العراق قبل أن تمتد بعد ذلك إلى بغداد ومناطق أخرى، بالرغم من أن المدينة بثرواتها ومينائها تُعَد من أغنى مدن العراق، لكن تدني الخدمات وانتشار الفساد هو الذي دفع المواطنين إلى الشوارع.

واللافت كذلك إلى أن هذه المناطق هي بالأساس مناطق التركز الشيعي في العراق، وهذا ما يشير إلى أن الفساد بالرغم من كونه قد نجم بشكل أساسي عن استشراء الطائفية، إلّا أنه قد أثّر على الجميع دون تفرقة طائفية، وهي نتيجة هامة على الجميع تفهُّمها وإدراكها واستخلاص العِبَر منها في العراق.

وتجدر الإشارة إلى أنه بجانب انتشار الفساد كسبب رئيسي لتدني الخدمات، وضجر المواطنين من الأوضاع القائمة ما تسبب في خروجهم إلى الشوارع، فإن التراجع في أسعار النفط إلى جانب زيادة النفقات العسكرية لمواجهة تنظيم داعش في شمال وغرب البلاد؛ قد ساهما بشكل كبير أيضًا في الضغط على النفقات الاجتماعية.


استشراء الفساد

يبقى الفساد هو السبب الأبرز في التدهور الاقتصادي العراقي بالرغم من الثروات الطبيعية الهائلة التي تحويها البلاد. وفي هذا الصدد، فإن العديد من التقارير قد أشارت إلى وجود فساد واسع في مؤسسات الدولة العراقية، والتي أشرنا إلى أهم أسبابها في السطور السابقة، ويمكن الإشارة إلى عدد من المؤشرات التي تدلل على حجم ما وصل إليه الفساد في هذا البلد المتأزمة أوضاعه.

أشارت هيئة النزاهة العراقية إلى أن السنوات العشر السابقة قد شهدت خسائر للعراق نتيجة للفساد المالي والإداري بما يتجاوز حاجز الـ 250 مليار دولار. وأشار رئيس هيئة النزاهة السابق في عهد المالكي «موسى فرج»، أن قادة الفساد هم الساسة وكبار رجال الحكومة.

وصرّح بأن الموازنات السنوية للعراق تجاوز إجمالي أحجام موازنات كل من الأردن، سوريا، لبنان، ومصر مجتمعين، وأن معدل الفقر في العراق يُجاوز معدلات الفقر في هذه البلاد في حين أن عدد سكان العراق لا يُجاوز ثلث عدد سكان مصر وحدها.

بل وذهب إلى القول بأن أمانة رئاسة الوزراء كانت هي بؤرة الفساد في العراق، والأخطر من تصريحه السابق هو تصريحه بأن رئيس الوزراء السابق شخصياً، نوري المالكي، قد «استأذب» في حماية الفاسدين المحيطين به.

كما أن مستشار رئيس الوزراء «مظهر محمد صالح» أثناء محاضرة عن موازنة العام 2015، قد أشار إلى أن المشاريع التي رُصِدت لها موازنات وتم تنفيذها بالفعل لم تتجاوز حاجز الـ 20% من جملة المشروعات. بل ويذهب مستشار رئيس الوزراء أبعد من ذلك ويصرّح بأن حتى هذه الـ 20% التي تم تنفيذها لم يتم إعداد دراسات جدوى جيدة لنحو 90% منها ما أدى في النهاية إلى خسائر فادحة ومساهمة كبيرة في وصول نسبة البطالة بين الشباب إلى حدود الـ30%.

أمّا في قطاع الكهرباء تحديدًا، والذي كان القشة التي قصمت ظهر المواطنين ودفعتهم إلى التظاهر للتعبير عن رفضهم واستيائهم من الأوضاع في بلادهم،فيقول مسئولون أنهم اكتشفوا 50 ألف راتب وهمي تكلف الدولة نحو 5 مليارات دولار سنويًا. كما تشير دراسات إلى أن هذا القطاع وحده قد أُنفِق عليه نحو 30 مليار دولار من أجل تحسينه دون حدوث أي تحسُّن ملحوظ.

وبناء على ما سبق، لم يكن من الغريب أو المفاجئ أن تحتل العراق مراتب متأخرة للغاية في مؤشر الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية؛ فقد صنّفت المنظمة العراق في عام 2014 على سبيل المثال؛ كسادس أكثر البلاد استشراءًا للفساد في العالم ولا يسبقها في هذا المجال سوى كل من جنوب السودان، أفغانستان، السودان، كوريا الشمالية، وصومال.


إجراءات إصلاحية: العبادي يستجيب والمتضررون يهددون

وكما أسلفنا، فقد أدّي الانتشار الكبير للفساد في العراق وما أدّى إليه بدوره من تدني في مستوى الخدمات، إلى جانب الشعور بالإحباط مع استمرار صمود، بل وتمدد تنظيم الدولة في مواجهة القوات العراقية والحشد الشعبي.

كل تلك العوامل ساهمت في خروج المواطنين إلى الشوارع للإحتجاج في بداية الأمر على الأوضاع الاجتماعية، وتطورت في مراحل لاحقة إلى احتجاجات على الأوضاع القائمة بشكل عام، و تنديد بالدور الإيراني والأحزاب الإسلامية في العراق. وقد تسبب هذا الحِراك في دفع رئيس الوزراء «العبادي» إلى اتخاذ إجراءات إصلاحية لتهدئة الأوضاع على الأرض.

قدّم «العبادي» وحكومته العديد من الإجراءات الإصلاحية السريعة لمواكبة تحركات الشارع ومحاولة السيطرة عليها، تضمنت إلغاء بعض المناصب مثل؛ نواب رئيسي الجمهورية والوزراء، وهو الإجراء الذي خلّف لغطًا دستوريًا بعد ذلك.

كما تضمّنت الخطة الإصلاحية تقليصًا لحمايات المسئولين، بما فيهم رؤساء الجمهورية والوزراء والنواب ونوابهم، والتي تتطلب مبالغ طائلة، بالإضافة إلى تقليص الدرجات الخاصة والمديرين العامين، والمحافظين وأعضاء مجالس المحافظات ومن بدرجاتهم، وإلغاء المخصصات الإستثنائية لرئاسات والمؤسسات والهيئات، مع وضع اعتبارات المهنية والعدالة في الحسبان.

ومن أهم الإصلاحات، إبعاد المناصب العليا من هيئات مستقلة ووكلاء وزارات، ومستشارين ومديرين عامين عن نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والإلتزام بمعيار الكفاءة، وقد كانت هذه المحاصصة سببًا أساسيًا في انتشار الفساد. كما تم تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد وفتح ملفاته السابقة والحالية.

وفي ظل هذه الدفعة الإصلاحية، وافق مجلس النواب بالإجماع على خطة الإصلاح، بل وقدم هو الأخر عدة إصلاحات جديدة بعد أن اعتبر إصلاحات «العبادي»غير كافية. وقد تضمنت إصلاحات المجلس تقليص نفقاته، وإقالة أعضاء المجلس المتغيبين بما يجاوز الفترة المسموحة ودون عذر مقبول، والنظر في أداء رؤساء اللجان النيابية.

أيضًا مطالبة مجلس القضاء الأعلى بتقديم تصور عن إصلاح القضاء بما يضمن استقلاليته، بعد أن خرجت اتهامات عديدة للقضاء بعد الاستقلالية، خصوصاً في عهد المالكي. وبالإضافة إلى ذلك، تخيير المسئولين ذوي الجنسية المزدوجة بين الاحتفاظ بمناصبهم وإسقاط جنسيتهم الاخرى، أو التخلي عن المنصب.

وفي وقت لاحق، قدّم «العبادي» حزمة جديدة من الإصلاح تضمّنت تقليص أعضاء حكومته من 33 إلى 22 فقط بعد إدماجه لبعض الوزارات، وإلغاء وزارات أخرى. ثم وجّه بفتح المنطقة الخضراء في بغداد أمام المواطنين وتسهيل دخولهم إليها؛ فالمنطقة الخضراء لا يمكن دخولها إلا للمقيمين فيها، وهم كبار رجال الدولة والمسئولين والدبلوماسيين الغربيين، أو العاملين بها، أو الحاصلين على تصريح خاص بالدخول.

هذا بالرغم من أن هذه المنطقة تضم المقار الحكومية الرئيسية كرئاسة الجمهورية والوزراء ومجلس النواب ومقار دولية كالأمم المتحدة وسفارات الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا. كما وجّه بفتح الطرق والشوارع الرئيسية والفرعية المغلقة من قِبل شخصيات نافذة.

وبالرغم من كل هذه الإصلاحات التي قدمتها الحكومة ومجلس النواب، إلّا أنه تجدر الإشارة إلى أنه من الصعب تخيُّل اتخاذ مثل هذه القرارات في غياب الدعم الواضح الذي قدّمته المرجعية الشيعية، أكبر مرجعية دينية في البلاد، للحكومة وتوجيهها لها بأن يكون «أكثر جرأة» في خطوات الإصلاح.

فقرار مثل إقصاء نواب رئيس الجمهورية كان يصعب تصور أن يتم اتخاذه من قبل «العبادي» في ظل وجود شخص واسع النفوذ كالمالكي في المنصب، وهو المنصب الذي وصل إليه بموجب تسوية سياسية قضت بتولي «العبادي» ذاته لرئاسة الحكومة.

غير أنه يبدو أن الاحتجاجات وما تبعها من إصلاحات قد أزعجت البعض مما دفعهم إلى تهديد منظميها، وفي مرحلة لاحقة تصفية بعضهم فعليًا. وقد أتي ذلك بشكل خاص بعد تعالي الأصوات المنددة بالتدخل الإيراني، والأحزاب الإسلامية في العراق باعتبارها عوامل أساسية في تردّي الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد.

ويبدو أن مثل تلك الأفعال يُراد منها توجيه رسائل إلى المحتجين، ومن ورائهم رئيس الحكومة، أن كفى وأن هناك حدوداً لن يُسمَح بتخطيها، خصوصًا وأن الجميع، في الداخل وفي الخارج، يعلم بأن مُطلقي التهديدات يستطيعون تنفيذها.


شيعة العراق ليسوا على قلب رجل واحد

وعلى اعتبار أن التظاهرات قد خرجت بشكل أساسي في المناطق الشيعية في العراق، فإنه تجدر الإشارة إلى أن التيار الشيعي ذاته توجد خلافات في الرؤى بداخله حول قضية الاحتجاجات.

فيمكن القول بأن هناك تيارين كبيرين، بالرغم من عدم تجانس رؤى مكونات كلا منهما بشكل دائم. فهناك التيار الأول الذي يُعتبَر أكثر تشددًا، وهو يتمتع بعلاقات جيدة مع الحرس الثوري في إيران، كمنظمة بدر بقيادة «هادي العامري»، وينظر هذا التيار إلى الاحتجاجات بشئ من الريبة، خصوصًا بعد تعالي أصوات التيار المدني بداخلها بانتقادات لإيران والتيار الديني في العراق.

وقد دفع هذا الأمر شخصية كـ«العامري»، بالرغم من تأييده الظاهري للاحتجاجات، بتوجيه تهديد مباشر لهذه الاحتجاجات من «مغبة المساس بالرموز الدينية»، وذهب أبعد من ذلك حين تحدث عن مؤامرة من الأعداء لـ«سحب المحافظات الوسطى والجنوبية إلى عدم الاستقرار» وأن بعض السفارات الأجنبية تلعب بالنار.

أمّا التيار الأخر، فهو أقل تشددًا وأكثر انفتاحًا على التيارات العراقية الأخرى، وأقل ارتباطًا بطهران واهتمامًا بتعزيز نفوذها من التيار الأول. يمثل هذا التيار بشكل واضح التيار الصدري بزعامة «مقتدى الصدر». وتختلف نظرة هذا التيار عن التيارات الأخرى إلى التظاهرات؛ فهو أكثر انفتاحًا عليها وتأييدًا لمطالبها، الإصلاحية، وانخراطًا فيها.

فـ«مقتدى الصدر»، على سبيل المثال، قد هدد بالمشاركة في الاحتجاجات في حال لم يوافق البرلمان على إصلاحات العبادي، بل و دعا أنصاره إلى المشاركة في هذه الاحتجاجات في مرحلة لاحقة بالرغم من أن البرلمان قد أقر هذه الإصلاحات للمطالبة بإصلاحات أكبر.


الخلافات بين المالكي والعبادي

وليس بعيدًا عن الخلافات الكثيرة داخل العراق بين مختلف القوى والطوائف، نجد كذلك ما يبدو أنه خلافًا بين رجال العصر الحالي والعصر الفائت. ونقصد هنا بالعصر الحاضر، رئيس الوزراء الحالي «حيدر العبادي»، وبالفائت رئيس الوزراء السابق «نوري المالكي»، وهو ليس عصرًا فائتًا تمامًا في حقيقة الأمر؛ إذ لازال الرجل يتمتع بنفوذ كبير في السلطة، إلى جانب توليه لمنصب نائب رئيس الجمهورية حتى يتم تنفيذ قرار إلغاء المنصب.

بالرغم من أن المقربين من الرجلين ينفون وجود لخلافات بينهما، إلّا أن العديد من المؤشرات تشير إلى عكس ذلك. فالعديد من الساسة قد تحدثوا عن اتهام من قِبل العبادي، للمالكي ببث الشائعات للإطاحة بحكومته، كما أن بعض المصادر التي تواجدت خلال جلسة سرية لمجلس النواب قد تحدثت عن أشياء مشابهه تضمّنت تلميحات من جانب العبادي، بأن المالكي يشن حملات إعلامية ضده.

وما يجعل هذه التسريبات أقرب إلى الصحة، بالرغم من نفيها، هو أن الطريقة التي تم من خلالها إبعاد المالكي من الحكومة في ظل تمسكه الشديد بها تجعل من الصعب الاعتقاد بأن الرجل قد سلّم فعلاً بالخروج من الحكومة.

ويبدو أن وصول «العبادي» إلى رئاسة الحكومة بدلًا من «المالكي»، ولمعان نجمه كشخصية سياسية وسطية أكثر ميلًا للحوار والتهدئة مع الكتل السياسية الأخرى من سلفه، قد رفع من أسهم الرجل في مواجهة «المالكي». بل ويمكن القول كذلك أنه ثبّت الصورة التي كان يتم النظر بها إلى «المالكي» حينما كان يترأس الحكومة على أنه شخص طائفي أكثر ميلًا للصدام مع القوى السياسية الأخرى.

ويبدو كذلك أن الصراع بين الرجلين قد انتقل إلى داخل الحزب، فهما ينتميان لحزب الدعوة الإسلامية، وظهر الحديث عن صراع للأجنحة داخل الحزب، خصوصًا بعد حزمة الإصلاحات التي اتخذها «العبادي»، وتضمّنت إقصاء «المالكي» من منصب نائب الرئيس.

وجاءت دعوة زعيم كتلة حزب الدعوة في مجلس النواب «خلف عبدالصمد»، إلى حل الحكومة الحالية وإقامة حكومة تكنوقراط بديلة لها، فيما يبدو أنه استغلالاً لحالة الاحتجاجات، للتأكيد على وجود ما يبدو أنه صراع داخل الحزب. وبالرغم من أن «المالكي» قد قَبِل إقصائه من منصب نائب الرئيس ضمن خطة «العبادي»، إلّا أنه -كما أسلفنا- يبدو أن هذه الموافقة جاءت تحت ضغط الدعم الكبير الذي قدمته المرجعية الشيعية للعبادي.

فالمالكي لم يلبث أن وافق على خطة «العبادي» حتى استغل فرصة انتقاد التظاهرات للأحزاب الدينية وانقض عليها يصفها بأن «جهات ومشاريع أجنبية مكملة لداعش» تقف ورائها. فهذا الموقف يدلل على أن الرجل لم يوافق على الإصلاحات لقناعته بها وبعدالة المطالب التي يحملها المتظاهرين، بل قبلها قبول المضطر الذي سرعان ما انفجر منتقدًا لها حين واتته الفرصة.

كما تمثل الحرب على داعش، وعلاقة «المالكي» بمليشيات الحشد الشعبي إحدى حلقات ما يبدو أنه صراعًا بين الرجلين؛فيشير البعض إلى أن انسحاب قوات الحشد الشعبي من بعض جبهات القتال ضد داعش كانت بمثابة ورقة للضغط على «العبادي» لتخفيف الضغط على المالكي، خصوصًا أن التنظيم قد استغل هذا الانسحاب والاحتجاجات بشكل عام ووسّع من رقعة سيطرته.

وما يدعّم من صحة هذا التحليل هو التصريح الذي خرج به «العبادي» ووجه فيه دعوة إلى الجماعات المسلحة ذات الأغلبية الشيعية؛ أي الحشد الشعبي الذي تتمتع عديد من فصائله بعلاقات جيدة مع «المالكي»، إلى «عدم الانجرار لخوض الصراع السياسي»، وذلك بعد أن تحدث عن أنه يتوقع أن «يحاول السياسيون الفاسدون تخريب جهوده لإصلاح الحكومة».

العلاقات الجيدة السابقة التي تجمع «المالكي» بقادة المليشيات الشيعية في الحشد الشعبي، بالإضافة إلى الأدلة التي سُقناها على وجود صراع بين الرجلين، تجعل من الممكن الربط بين تجاوزات هذه المليشيات بحق السُنّة في المناطق المحررة من داعش، وبين الصراع بين الرجلين.

إذ يمكن تفهُّم أن «المالكي» من خلال علاقاته بهذه المليشيات قد رغب في وضع «العبادي» في موقف محرج، وهذا بالطبع لا ينفي وجود انتهاكات نابعة من نزعات طائفية خالصة، خصوصًا أن «العبادي» قد اعترف بعد ذلك على مضض. حيث اعترف بأن الحشد الشعبي يرتكب فعلًا انتهاكات في بعض المناطق المحررة، فيما قد يكون محاولة منه لنفض يده من نتائج أفعالهم، وتبرئة ساحته بعد أن فشلت محاولات إثنائهم عن ارتكاب هذه الانتهاكات.

وفي النهاية، يمكن القول بأن المرجعية الشيعية ستحافظ على دعمها لـ«العبادي»؛ لأن أي صراع سياسي جديد على السلطة على شاكلة الصراعات التي قادها «المالكي»، وفَقَد على إثرها دعم المرجعية بسبب نتائجها الكارثية في البلاد بعد كل انتخابات تقريبًا في العراق؛ سيؤدي إلى تقوية التيار المتشدد، ويصب في مصلحة تنظيمات كداعش، وهذا هو ما لا تريده المرجعية.


الاحتجاجات ومستقبل النظام السياسي

يبدو أن السيناريو الأقرب للتحقق في العراق في ظل هذه الاحتجاجات هو أن الحكومة العراقية ستقوم بمحاولة تسريع تنفيذ بعض الإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها وأقرّها البرلمان بالفعل، بما لا يؤثر على جوهر البناء السياسي في العراق.

وفي المقابل، تساهم في تهدئة الأجواء الاحتجاجية في الشارع حتى تتمكن الحكومة من التركيز في مواجهة داعش الذي استغل الاحتجاجات، وتمدد في مزيد من المناطق. وربما يتمدد بشكل أكبر إذا لم تستطع الحكومة السيطرة على الاحتجاجات ويقوم باستغلالها، بطريقة ما، كما استغل أزمة فض اعتصامات الأنبار من قبل في عهد «نوري المالكي»، ولو أن الظروف لا تبدو متشابهة كثيرًا بين الحالتين.

ففي حالة «المالكي»، كانت التظاهرات فيها سُنّيّة، واستطاع التنظيم فرض نفسه كبديل للدولة العراقية قادر على تحقيق الثأر للعشائر العراقية السُنّيّة. هذا الطرح السابق يحافظ في محصلته النهائية على البنية الأساسية للنظام القائم، كما هو لسنوات عديدة قادمة دون حدوث أي اختراق حقيقي لنظام المحاصصة الطائفية أو الحزبية.

وما يدعّم من هذا الطرح هو أن الإصلاحات التي طرحها «العبادي» ومجلس النواب قد تم اتخاذها بشكل أساسي استجابة لتحرك الشارع في المحافظات الشيعية. في حين أن السُنّة مشغولون في مواجهة داعش في مناطقهم، والأكراد مشغولون في أزمة رئاسة الإقليم هناك، والتي يرغب فيها «بارزاني» في الترشح لمرة جديدة مخالفًا للدستور، بالإضافة إلى خلافات حول طريقة انتخاب الرئيس.

والمساس ببنية النظام، الآن أو لاحقًا، يحتاج إلى توافق كبير بين مختلف المكونات العراقية، ويبدو أن هذا الأمر بعيد المنال، على الأقل خلال المدى القريب بسبب تجذُّر فكرة الطائفية والمحاصصة داخل النظام السياسي العراقي.

أمّا أي تحرك أحادي من جانب المكون الشيعي لرسم مستقبل العراق فسيكون بمثابة إعلان جديد لتمزُّق جديد كبير في العراق؛ فكما يقول أحد الباحثين العراقيين أن نظام المحاصصة هذا بالرغم من آثاره السلبية، إلّا أنه هو الذي يحمي النظام السياسي في العراق من السقوط خلال هذه الفترة.

والجدير بالذكر أن فكرة حدوث تحرك شيعي أحادي في الأساس تشوبها عدة صعوبات بسبب الاختلافات والخلافات الشيعية-الشيعية. ويبقى التساؤل المطروح هو «هل ينجح العراقيون في الانتخابات القادمة في الإتيان بمن يستطيع قيادة إصلاحات حقيقية في البلاد؟».

وفي محاولة لتقديم إجابة على هذا التساؤل نذكِّر بأن «المالكي»، وفي خضّم كل المشكلات التي عصفت بالبلاد في عهده، ومنها فقدان السيطرة على نحو ثلث البلاد لصالح تنظيم داعش، ووصول الاحتقان الطائفي إلى مستويات قياسية، قد استطاع زيادة عدد مقاعد ائتلافه، دولة القانون، في مجلس النواب بنحو 3 مقاعد في انتخابات 2014 مقارنة بسابقتها في 2010.

لكن مع تعالي الأصوات المحتجة في الشارع العراقي الشيعي، فإن الإجابات على هذا التساؤل تبقى مفتوحة ومرتبطة بشكل كبير بمدى جدية الحكومة الحالية في تنفيذ إصلاحاتها وتمكُّنها من تحقيق آمال المحتجين.