اتخذت الحكومة قرارًا مهمًا بعد اجتماعها الأخير وقررت أن تجعل عام 2019 عامًا سعيدًا لعدد كبير من المواطنين. المواصلات العامة ستكون مجانية في صيف العام المقبل؛ للأمانة لم يخلُ الاجتماع من حيرة بعض المسئولين، وتساءلوا فيما بينهم:

بربكم؛ ماذا سنفعل في الدرجة الأولى والثانية من القطارات؟

كان التساؤل منطقيًّا، لا بد أن رُكاب الدرجة الأولى والثانية ليسوا من الفقراء المساكين الذين يحصلون على راتب ضئيل جدًّا، وهو الأقل في البلاد «2195 دولارًا» شهريًا، أليس كذلك؟!

على كل حال قررت الحكومة تأجيل النقاش حول مجانية الدرجة الأولى والثانية من القطارات، واتفقوا جميعًا على مجانية كل المواصلات العامة، بالمناسبة كل من لم يصل عمره 20 عامًا بعد، هو بالفعل يستخدم المواصلات العامة مجانًا؛ لأن الحكومة تعتبره غير مؤهل لدفع تذاكر المواصلات، ما زال لم يتخرج من الجامعة بعد، ولم يحصل على وظيفة في شركة ما، فلا بد أن تدعمه الحكومة.


نصف مليون نسمة فقط!

السطور السابقة تتحدث عن «لوكسمبورج» التي يبلغ عدد سكانها نحو نصف مليون نسمة. لا بد أن أول سؤال قد يخطر على بال العديد:

ليس بالضرورة أن تكون الدولة ذات الأقلية السكانية غنية، وإلا أصبحت دولة «ناورو» التي يبلغ تعداد سكانها حوالى 10 آلاف نسمة أغنى بلاد العالم، ومع ذلك تُعدّ من أفقر جمهوريات العالم، إضافة إلى أن شعبها يعاني مجموعة من الأمراض المزمنة، وأكثر من 90% من السكان يعانون من البطالة، و95% منهم يعانون من السمنة المفرطة، وتتصدر ناورو قائمة الدول المصابة بالسكري، بنسبة تزيد عن 40% من إجمالي الشعب.

كما أنه إذا كان الفقر لا بد أن يكون ملازمًا للدول ذات الكثافة السكانية العالية، لغرقت الصين التي وصل تعداد سكانها 1.393 مليار نسمة في بحار الفقر؛ لكنها مع كل هذه الكثافة السكانية تعد ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد الولايات المتحدة.

ولأنه ما زال لدى البعض قناعة بأن الاستشهاد بالتعداد السكاني منطقي في نسبة ثراء الدولة أو فقرها، سنُنحي «لوكسبمورج» جانبًا؛ ونكتب عن دولة عظمى، وصل تعداد سكانها بلغ نحو 83 مليون نسمة، إنها ألمانيا.

تعتزم حكومة ألمانيا مع الولايات والبلديات إتاحة مواصلات داخلية مجانية لخفض أعداد المركبات الخاصة داخل المدن، كما تفكر الحكومة في تطبيق مجانية المواصلات العامة في كل المُدن إذا لزم الأمر؛ هذه الخطوة التي تخطط لها ألمانيا بقوة، هدفها الحفاظ على نقاء الهواء في المدن. لكن ما يعطل اتخاذ الخطوة هو اتحاد شركات النقل الداخلي في ألمانيا.

يعتقد الاتحاد أن الظروف غير ملائمة حاليًا لتوفير المواصلات العامة بالمجان؛ ليس بسبب خسارة الدولة ملايين الدولارات، لأن الدول المتقدمة لا تنظر إلى المواطن على أنه مصدر دخل لها؛ وإنما خوفًا من تزايد أعداد الركاب بشكل سريع سيرهق شبكات المواصلات الحالية؛ لذا طلب الاتحاد من الحكومة تطوير قدرات شبكات المواصلات أولًا قبل اتخاذ الخطوة.

ما يعني أن فقراء ألمانيا الذين يحصل أقلهم على راتب شهري لا يقل عن 1703 دولارات شهريًّا؛ في انتظار مواصلات متطورة مجانية. هذا بالإضافة إلى أنه حاليًا تدعم ألمانيا بعض الأشخاص لديهم الحق في استخدام المواصلات العامة، باستخدام بطاقة مخفضة، مثل الأطفال، والطلاب، والمتقاعدين، وطالبي اللجوء، في برلين مثلًا.

أما إستونيا فهي أيضًا من الدول التي اتخذت خطوة مجانية المواصلات العامة في العاصمة «تالين» عام 2013 لحل مشكلة التكدس المروري. المسألة ببساطة أن المواصلات المجانية ستشجع عددًا كبيرًا على الاستغناء عن سياراتهم واستخدام المواصلات العامة بداعي التوفير الاقتصادي، ما سيؤدي إلى السيولة المرورية؛ والاقتصادية كذلك.


مصر ليست لوكسبمورج

في الوقت الذي تتجه فيه دول عديدة لتطبيق مجانية المواصلات العامة اتخذت مصر قرارات اقتصادية عديدة أسقطت بعض «المتشعلقين» في أطراف الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة، وربما أنزلت الطبقة الفقيرة تحت خط الفقر، أما عمن هم تحت خط الفقر؛ فهؤلاء لا ندري أين هم الآن!

بالنسبة لمترو الأنفاق مثلًا؛ ضاعفت الحكومة المصرية سعر التذكرة في مارس/آذار 2017، ليدفع المواطن في التذكرة الواحدة جنيهين بدلًا من جنيه واحد؛ وقالت الحكومة حينها إن تلك الخطوة جاءت بسبب زيادة تكلفة التشغيل، وإن الخسائر السنوية للمترو وصلت إلى 200 مليون جنيه، وإن ديونه وصلت إلى 500 مليون جنيه.

بعد مضاعفة السعر كان من المنتظر أن تعلن الدولة عن حل المشكلة بعد عام، فمترو الأنفاق بحسب وزير النقل السابق يستخدمه يوميًّا نحو 5 ملايين مواطن؛ بحسبة بسيطة جدًّا؛ هذا يعني أن الدولة زاد دخلها 5 ملايين جنيه يوميًّا؛ ما يعني أنه في 365 يومًا عدد أيام السنة، ستحصل الدولة على زيادة سنوية قدرها مليار و825 مليون جنيه، ما يعني أن الدولة لا بد أنها سددت ديونها وعوضت خسائرها، وربما مثلًا تبقى بعض الأموال لتطور بها أي شيء.

لكن ما حدث أن الدولة لم تُصدر أي بيانات رسمية عن مسألة الربح والخسارة بعد تطبيق الزيادة، بل جاءت تصريحات رئيس الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق، علي فضالي، لتناقض تصريحات الحكومة، وقال إ ن الشركة لا تسعى أصلًا لتحقيق أرباح. بعد 14 شهرًا من مضاعفة سعر تذكرة المترو فاجأت الحكومة شعبها برفع أسعار تذاكر المترو مرة أخرى بنسبة بين 250 و300%، وقالت شركة المترو إن الزيادة جاءت بسبب العجز في مصاريف الصيانة والتجديدات.

لم تكتف الحكومة بالزيادة، لكنها قررت اعتقال من يعترض، وألقت قوات الأمن القبض على 28 محتجًا في محطة مترو حلوان، و11 شخصًا من محطة مترو السادات، بسبب اعتراضهم على رفع أسعار تذاكر المترو. ويبدو أن قطار ارتفاع سعر تذكرة المترو لن يتوقف الآن، التصريحات الحكومية تدل على هذا، وزير النقل هشام بركات صرح في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن سعر تذكرة المترو يجب أن يكون 16 جنيهًا، وأشار في تصريحات أخرى إلى أن الوزارة تدرس تطبيق زيادة جديدة على تذكرة المترو.

لذا، من المتوقع أن نسمع قريبًا أن الحكومة تدرس زيادة رفع تذكرة المترو إلى 200 جنيه مثلًا، هذه ليست مبالغة؛ لا سيما إذا طبقت الحكومة رفع الدعم عن المحروقات نهائيًّا؛ وهي اقتربت.


الدولة مُجبرة؟

ماذا يعني نصف مليون نسمة بالنسبة لبلاد يسكنها ملايين البشر؟ لا بد أن هذا العدد سيجعل الدولة ثرية بما يكفي ولا تحتاج أن تضع يدها في جيب مواطنيها.
بتقول لهم سامحوني ليه يا دكتور؟ هو كان فيه خيار تاني، قرار زيادة أسعار المترو مش قرار حكومة، ده قرار دولة، ومش مفاجئ.

هكذا مازَحَ الرئيس عبد الفتاح السيسي الدكتور هشام عرفات، وزير النقل والمواصلات، بعد اعتذاره للشعب المصري على رفع أسعار تذاكر المترو

ودائمًا ما يضع الرئيس ووسائل الإعلام المحسوبة على الدولة مصر والبلاد الأوروبية في مقارنة مع الدول الأخرى من حيث أسعار المواصلات العامة. بما أن الحكومة تُصرّ دائمًا على ذلك، فالمقارنة لا بد أن تكون في صالح الشعب لا عليه؛ والمقارنة لو أُخذت على محمل الجد، فسنجد أنه لا بد من دعم تذكرة المترو وتذاكر المواصلات العامة بشكل أكبر، لا أن ترتفع الأسعار. كيف؟!

الحد الأدنى للأجور في لوكسمبروج مثلًا 2195 دولارًا شهريًّا، وفي مصر الحد الأدنى نحو 66 دولارًا شهريًّا، هنا يظهر ببساطة من يقدر على شراء تذكرة مرتفعة، ومن يستحق الدعم.

في كثير من دول العالم التي يحصل مواطنوها على أكثر من نحو 20 ضعف المواطن المصري؛ تتلقى وسائل المواصلات العامة تمويلها من مصادر عديدة؛ الإعلانات، الأكشاك، المطاعم، المحلات، الضرائب؛ والأخيرة هي الأهم؛ فالجميع يدفعون الضرائب، إن قطعة حلوى صغيرة يأكلها أحدهم في أي دولة كانت، لا بد أنه دفع ضرائب عديدة من أجل أن يأكلها؛ ضريبة للدقيق، للسكر، للماء، للبيض، للحليب، للورقة التي وضعت فيها قطعة الحلوة، للطباعة على الورقة، ثم للعامل الذي صنعها، والذي يبيعها؛ وهكذا… كل هذه الضرائب لا بد أن تصب في مصلحة المواطن مستحق الدعم، لا أن تضع الدولة أموال الضرائب في جعبتها لتكسب أكثر، إنها ليست شركة، الضرائب في الدول تدعم كل الخدمات العامة بما فيها المواصلات.