لماذا تتكبدُ عناءَ الدخول في صراعٍ سياسيّ، أو في حربٍ حقيقيةٍ أحيانًا، بينما يُمكنك استباق الأحداث، وتجنب تلك المُنغّصات، والعيش بسلامٍ مع أحلامك التوسعيّة، ورغبتك التي لم تخبُ يومًا في السيطرةِ على العالم.

تُقدم لنا روسيا أسلوبًا جديدًا لخوض المعارك؛ ألا وهو تجنّبها. ويتحقق ذلك باختيار مُنافسيك، والسماح لمن تراه مناصرًا، أو أقل حدةً في عدائك، بالوصول إلى الحُكم، بطريقةٍ قذرةٍ،أجل، ولكنها نظيفةٌ لا تتمخضُ عن دماء، ولاحاجةَ لتزوير جوازاتِ سفرٍ، أو تمرير أسلحة، إنّها السلاح الروسيّ الأحدث، والأبرز على ساحات الأحداث اليوم «الهجمات الإلكترونية».


القيصر والحربُ المُقدسة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

في عمر السادسة عشرة كتب الشاب/فلاديمير بوتين، المولود عام 1952، إلى المُخابرات الروسية طالبًا منهم العمل معهم، فوعدوه بقبوله بعد انتهاء دراسته الجامعيّة؛ لما رأوا فيه من حُبٍ شديد لمبادئ الوطن السُوفيتيّ، وبالفعل انضم إليهم بوتين، لينشأ فردًا في أحد أسوأ الأنظمة الحديدية التي رأتها البشرية، مُؤمنًا بأهمية الدولة كحجر الزاوية في حياة المواطن، وحقها الكامل في التحكّم بمسار تطوّره الفكري والحياتي والمهني.

ويُمكن القول إنّ تلك الفترة في حياته كانت هى التي تشكل فيها مُعظم قناعات بوتين التوسعيّة، والتي ستقودنا لاحقًا إلى الهجمات الإلكترونية. من تلك القناعات التي امتزجت بخلايا جسده، وصارت هي الهواء الذي يتنفسه، القناعةُ بـ «دونية» الشعوب الأخرى، وخاصةً الأقليّات المُستضعفة، والازدراء الصريح لتراثها وثقافتها، والسخرية التي لم يتكلف عناء إخفائها – ولو من أجل الدبلوماسيّة – من الغرب، ونمط حياته، ومن المُنظمات الدُوليّة ودورها.

والإيمان بأنّ «انهيار الاتحاد السوفيتيّ» كان كارثةً ألمت بالبلاد، وأن مُهمة روسيا هي إعادة تلك الإمبراطورية، وأن تكون روسيا هى عاصمة المسيحيّة، كما كانت روما بعد سقوط القسطنطينيّة، ويتم الترويج لذلك على قدمٍ وساق، حتى أننا لنجد مُؤلَفًا كـ «عودة الإمبرطورية الثالثة – روسيا كيف يجب أن تكون»، للكاتب ميخائيل يورييف والذي صدر عام 2006، توقع حربًا أو اجتياحًا روسيًا لجورجيا وتقسيم أوكرانيا.

ولأنّ الهوى الشخصي يغلب أحيانًا، تجدر الإشارة إلى تأثر بوتين الشديد بالكاتب والمفكّر الروسي ليف غوميلوف (1912-1992) والشاعرة الروسية أنّا أخماتوفا، اللذين أطلقا نظرية «القدرة الذاتية الكامنة والخارقة للفرد الروسي»، والتي تتحدث عن عن قوّة روسيا وجبروتها، وأن حلفاء روسيا يمكن أن يكونوا العرقَين التركي والمنغولي، دون الإنجليز، أو الألمان، أو الفرنسيين، فالأخيرين لا يمكن أن يكونوا أصدقاء حقيقيين.

ولكي نصل إلى محطتنا التي انطلقنا منها، يجب أن نعلم أن بوتين أدرك أن النهوض للسيطرة على العالم لم يُعد مُمكنًا بالقوة العسكرية؛ فالأمور صارت أشد تعقيدًا من هذا، لهذا فالإمبراطورية التي يحلم بها بوتين ليست إمبراطوريةً عسكريةً هدفها سحق العالم – وإن كان يرغب في ذلك – لكنها تهدف إلى اتساع النفوذ، وتوطيد أواصر الشراكة مع الأعداء، والقدرة على زعزعة استقرارهم، وتأخير النمو الاقتصادي في بلادهم، مع استمرار سباق التسليح الروسي، إذا لزم الأمر.

إذًا فقد خلصنا إلى أن الفرنسيين أعداءٌ، لا يمكن أبدًا أن يكونوا أصدقاء، ولا يُمكن مُحاربتهم في نفس الوقت، فلا يُمكن هنا اللجوء إلى طريق بوتين المُعتاد، من قتلٍ، وعمليات اغتيال وتصفية، لا تُبالي بالثمن البشري. ولكن هناك طريقة مُجرّبة، وقد نجحت بالفعل في أمريكا، وهى أن «نُوّلي أقل الطرفين عدواةً لنا، أو أكثرهم حبًا لنا»، وتُشير التقارير المُتواترة إلى ثبوت وجود تدخلٍ روسيّ إلكتروني في حملة هيلاري كلينتون، بشكلٍ حسم الأمور لصالح ترامب.

اقرأ أيضًا:كيف جاءت روسيا بترامب إلى سدة الحكم؟ 4 أسئلة تجيبك

لنصل إلى اليوم، حيث صدر تقريرٌ عن شركة «ترند ميكرو»، التي تتخذ من طوكيو عاصمةً لها، أنّها رصدت أربعة أسماء زائفة، مشابهة لأسماء حملات ماكرون، في محاولةٍ لخداع العاملين في الحملة، من أجل اختراق البريد الإلكتروني الخاص بهم. لم يوضح التقرير إذا ما كان أحدٌ من العاملين قد خُدع بالفعل أم لا.

قال فيك هاكيبورد، في تصريحٍ لشبكة سي إن إن: «إنّه لا يستطيع التأكيد إذا ما كان المخترقون هم من الروس»، لافتًا إلى أنّ هذا الاختراق كان مماثلًا لما حدث في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، حين كشف مسئولو المخابرات الأمريكية ارتباطه بالمخابرات الروسية. وأضاف هاكيبورد أنه «من الصعب تعقّب المخترقين والتأكّد من هويتهم، لكن هذا لا ينفي أن هناك بعض المؤسسات الفرنسية التي تم اختراقها في وقت سابق من قبل قراصنة لهم علاقات مع روسيا».

وليست تلك هى المرةُ الأولى، ففي فبراير/شباط الماضي كانت حركة «إلى الأمام» قد تعرضت إلى مُحاولة قرصنة، بجانت حملات تشويه طالت ماكرون واصفةً إياه بـ «مثليّ الجنس». ونفى ماكرون تلك الشائعات قائلًا: «إنّها قديمة، ولكن وسائل الإعلام الروسيّ بدأت بنشرها مُؤخرًا». وأشار القائمون على الحملة الرئاسية إلى أن تلك العمليات تحظى بدعمٍ تكتيكي من الحكومة الروسية عبر وسائل إعلام غير مُستقلة مثل روسيا اليوم وسبونتيك.

وكان منير محجوبي، المسئول عن الأمن الإلكتروني لحملة ماكرون، قد أعلن في تصريح لوكالة أسوشيتد برس، أن الموقع الإلكتروني لحملة ماكرون تم ضربه واختراقه لفترة وجيزة من الزمن، لكن المخترقين والقراصنة لم يستطيعوا الدخول إلى قواعد البيانات على الموقع، والتي كانت شديدة الأمان.


الكره المُتبادل بين روسيا وماكرون

إيمانويل ماكرون

ماكرون ثابتٌ منذ وقتٍ طويل، ولفترة طويلة، على موقفٍ مُعادٍ لروسيا صراحةً، وضمنيًا. فقد أعلن خلال مناظرةٍ جرت بين جميع مرشحي الرئاسة الفرنسية، في باريس، في مارس/آذار الماضي، أن «على فرنسا تجنب التقارب في علاقاتها مع روسيا»، مبررًا ذلك بأن بلاده بحاجة «لاستقلالية القرار في عملها مع الشركاء الأوروبيين». وكرر ذلك الأمر في مَعرض تنديده باستخدام النظام السوريّ للسلاح الكيماوي، وإشادته بالضربة العسكرية الأمريكيّة قائلًا: «إذا ثبت استخدام النظام للأسحلة الكيماويّة فسوف نطلب من روسيا على وجه الخصوص، حليفة بشار الأسد، إعطاءنا ضمانات عن تدمير مخزونات الأسلحة الكيماوية السورية».

وتُظهر خطط وبرامج ماكرون التي تسعى إلى تقوية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، ومحاولة الوصول إلى «أوروبا أفضل»، وفتح الأبواب للاجئين، الاختلاف الشديد بين شخصتيّ بوتين وماكرون، والذي يصعب معه حدوث تقاربٍ بين الطرفين، وإن كان ماكرون في مقابلة مع قناة «بي إف إم تي في» التلفزيونية قد تراجع عن حدته هذه، قائلًا: «نحن بحاجة إلى إجراء حوار بنّاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتحت أي ظرف من الظروف لا يمكننا التغاضي عما يستحسنه أحيانا أو يدعمه»، ثم أضاف بخجلٍ: «ويجب وضع روسيا وجها لوجه أمام مسئولياتها».

وحتى مع هذا التراجع من ماكرون، لماذا تُراهن روسيا على مُرشحٍ يترنح بين العدواة، والصداقة المشروطة، أو تحتال من أجله، في حين توجد الابنة البارة مارين لوبان؟


مارين لوبان: الابنة البارة

إيمانويل ماكرون
زعيمة الجبهة الوطنية، والمرشحة لانتخابات الرئاسة الفرنسية «مارين لوبان»

تجمع لوبان وبوتين علاقةٌ قويةٌ، فقد التقت أفكارُهما، قبل أن يلتقيا في روسيا فعليًا. فمثلًا، أوضحت لوبان في تصريحات مع محطة «أوروبا 1» الإذاعية أن الفشل بالنسبة لها يعني عدم موافقة الشعب الفرنسي في استفتاء شعبي على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. وأكدّت أنّ 70% من خططها لا تتوافق مع الاتحاد الأوروبيّ. وهذا من أعظم ما يحلم به بوتين ، «فركسيت» بعد الـ «بركسيت»، ضربتان قويتان للاتحاد الأوروبي، الذي يكرهه بوتين بشدة.

انتقلت العلاقة بين لوبان وبوتين إلى مرحلةٍ أشد عمقًا، فلقد صرّحت لوبان لقناة يورو نيوز، في شهر ديسمبر/كانون الأول 2014، أنّها معجبةٌ بالرئيس بوتين، وأنها معجبةٌ بمقاومته للحرب الباردة الجديدة التي يريد أن يفرضها الغرب عليه. ويُذكر أنّها وصفت – فى حوارٍ لها مع شبكة سي إن إن الأمريكية – العقوبات، التى فرضها الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، على روسيا لاتهامها بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم، بأنّها «غبية تمامًا».

ثم تجلى الأمر في زيارةٍ يُمكن وصفها بالتاريخيّة دون أدنى مُبالغة، فهي المرةُ الأولى التي يدخلُ فيها الكرملين مُرشحٌ رئاسيّ، والتي يُقابل فيها رئيسُ دولةٍ ما مرشحًا لرئاسة دولة أخرى، مُخاطرًا باحتمالية تدهور علاقات دولته بفرنسا حال فاز المُنافس ماكرون، وألا يُثير ذلك الشك أيضًا، حول القرصنة الروسيّة الإلكترونية، أو بكلماتٍ أخرى: هل تبدو روسيا مُتأكدةً إلى هذا الحد من فوز لوبان؟ التي صرحت خلال لقائها مع أعضاء لجنة الشئون الخارجية التابعة لمجلس الدوما الروسي في موسكو أن العلاقات الروسية الفرنسية تطورت دائمًا بشكل ودي، ولا توجد اليوم أسباب واقعية لتدهورها.

وتبدو مواقف لوبان من سوريا أقرب إلى روسيا من مواقف ماكرون، فموقف لوبان، كما يرويه جان مسيحه، مُدير المشروع السياسي في حملتها، قائلًا: «إن العلاقات الدولية تنظر بحسب المصالح المشتركة، فلا يوجد من هو ملائكي في علاقات الدول ببعضها، وفيما يتعلق بالموقف السوري، فلا يمكن أن ننظر للرئيس بشار الأسد باعتباره أضر الديموقراطية، ولا بد أن ننظر بواقعية للأزمة السورية، وتواجد الأسد هو أمر داخلي، ولكن بنظرة واقعية هل يرحل الأسد عن حكم سوريا ويتركها للمليشيات المسلحة والإرهابية مثل ما حدث في ليبيا والعراق سابقًا؟ وعلى أساس ذلك، لابد من بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، ونترك للشعب السوري اختيار تكوّن دولته. وهو ما تُدافع عنه روسيّا بشدة».

لهذا؛ لا تبدو الجولة الثانية محسومةً كما تفاءل الكثيرون، فحتى وإن كان الكثيرون قد تكتلوا خلف ماكرون هربًا من المصير القاتم الذي تعدهم به لوبان، فإنّه من الواضح أنّ لوبان تخوض المعركةَ بأسحلةٍ أكبر من مُجرد إقناع الناخبين بجدوى وجودها، فليس من المُفاجئ أن يتكرر ما حدث في الولايات المُتحدة، فيجد الفرنسيّون أنفسهم أمام «المخلصة لهم بدلًا من ماكرون الخائن»، والمُخَلّصة لهم من الاتحاد الأوروبي بدلًا من ماكرون الذي يُريد بيعهم إليه. حينها يُمكن أن تكتمل الحلقة الثالثة في مُثلث رُعبٍ، لم يكن في أسوأ كوابيس البشرية (بوتين، ترامب، ولوبان).