بينما أطلق الجميع على أنفسهم اسم «حكماء»، كان فيثاغورث أول من أطلق على نفسه اسم «فيلو-سوفوس» أو محب الحكمة. لم يكن هذا الميل للتواضع أمام الأسئلة الأكثر عمقًا إلا جزءًا من نظام حياتي متكامل صنعته تجارب الرياضياتي الشهير وأسفاره بين مصر والهند ومستعمرات الإغريق.

في مصر تعلم فيثاغورث لغة الرياضيات العاملة وفي الهند تعلم كيف يسمو بها إلى الرياضيات الإلهية. في كروتون الإغريقية حاول دعوة الناس للإيمان وتبعه تلاميذه في رحلة صفاء روحي يتحد فيها الجسد والروح مع الرقم لصنع كون شديد التنظيم ومطلق الدقة لا تشوبه شائبة ولا يطاله اعوجاج.

يمكنك أن تلاحظ قوة العدد وهي تعبر عن نفسها لا في شؤون الجن والآلهة فحسب، وإنما كذلك في كافة أفعال الإنسان وأفكاره، وفي كافة الحرف اليدوية وفي الموسيقى. كما أن تناغم العدد وطبيعته لا يسمحان بزيف أو بهتان.
فيلولاوس

ابن أبوللو

http://gty.im/2637234

تبدو القراءة في تاريخ مولد فيثاغورث أقرب للميثولوجيا من التأريخ الفلسفي بمفهومنا الحالي. لقد حدث ذلك عندما كانت الفلسفة والميثولوجيا والعلوم تندمج جميعًا في بوتقة معرفية ضخمة وساحرة. يحكي أوائل مؤرخي حياة فيثاغورث –فرفوريوس الصوري Porphyry of Tyre ويامبليخوس الخلقيسي Iamblichus of Chalcis ومعهم بالطبع أرسطو وديوجينيس- عن ميلاد كائن خارق يتمتع بصفات الآلهة ولد من امرأة بشرية وإله هو أبوللو.

يروي يامبليخوس عن ميلاد فيثاغورث أن ابوه –منيسارخوس أو منيمارخوس- قد زار كاهنة معبد ديلفي الشهيرة Oracle of Delphi ليسألها عن مصير رحلته إلى سوريا. أجابته العرافة بأن الرحلة ستكون السبب في الثراء والنعم الوفيرة عليه وعلى عائلته، وأن امرأته تحمل في أحشائها جنينًا سيولد ليمتلك من الحكمة ما لم يملكه بشر. استبشر الرجل أيما استبشار وغيّر اسم زوجته من بارثينيس إلى بايثيس وانتظرا معًا تحقق النبوءة.

على الناحية الأخرى لدينا التأريخ الحقيقي لحياة فيثاغورث أو المحاولة لتركيب ما يمكن تركيبه من ملابسات حياته. ولد فيثاغورث حوالي العام 570 قبل الميلاد في جزيرة ساموس الإغريقية شرقي بحر إيجة. كان الأب تاجرًا ثريًا مستفيدًا من الانتعاش التجاري للجزيرة في عصرها الذهبي، وكانت الأم من خلفية غنية وعلى جمال باهر. تم توفير أفضل تعليم إغريقي متاح آنذاك للصبي الصغير الذي نشأ مدربًا في الشعر والموسيقى، وهي مضامير لا تعني ما تعنيه لنا الآن. فالشعر هو تدريب في اللغة وتدابيرها بشكل عام، والموسيقى هي علم الرياضيات الذي تتلمذ فيه فيثاغورث على يد صانع فلسفة الإغريق الأول؛ طاليس.


أوان الرحيل

جرت العادة أن يشد طلاب المعرفة رحالهم إلى مختلف عواصم الحكمة في العالم القديم ساعين إلى تشرب تعاليم روادها. نظرًا لوضع عائلته، كان فيثاغورث على اتصال بحاكم ساموس بوليقريطس الذي أمن له بعثة إلى مصر لينضم –بعد بعض المعاندة من كهنتها لاستقبال الغرباء- إلى مهنة معبد ديوسبوليس في طيبة.

في مصر تعلم فيثاغورث الرياضيات التطبيقية المتطورة التي استخدمها المصريون في حياتهم اليومية. انصبت تلك الرياضيات على علم مساحات الأراضي، حسابات الميل للري وكيفية تقسيم الكميات المختلفة من الغلال والرياضيات اللازمة للبناء وحساب السنوات. لم يكن التجريد قد استولى على فيثاغورث بعد.

ستبدأ حياة الروح غزوها لفكر فيثاغورث عندما غزا الإمبراطور الفارسي قمبيز الثاني مصر عام 525 قبل الميلاد. أُخذ فيثاغورث سجينًا وتم ترحيله إلى الهند حيث سيشغل نفسه بالتعلم ثم بالتعليم وسيندمج مع الثقافة الهندية ليولد فيثاغورث الذي نعرفه الآن.

في الهند تعلم فيثاغورث أن يسمو عن رياضيات تقسيم الأراضي والمحاصيل، وأن يمعن بنظره في الصورة الكبرى لربما يسعفه هذا النظر لرؤية النسيج الكوني ذاته. كانت الروح في الهند هي بداية كل مادة ومنتهاها. تعلّم هناك ألا يقتل كائنًا حيًا أبدًا مهما بلغ في الصغر والبداية، وأن يعيش على النباتات التي لا تملك جذورًا فقط. لا حشرة ولا حيوان حياته مستباحة. تعلّم أن يمشي بروية لكيلا يدهس نملة أو خنفساء في طريقه.

سينال فيثاغورث حريته في عام 520 قبل الميلاد وستصبح هذه التعاليم الأساس للمدرسة الفلسفية الأولى التي سيؤسسها والتي ستصبح تعريف الرحمة لدى إغريق هذا الوقت. كان أن تكون فيثاغورثيًا هو أن تكون رحيمًا لأقصى مدى.

بعد عامين سيستأنف ترحاله ليحط هذه المرة في جنوب إيطاليا، كروتون تحديدًا. هناك أسس مدرسته الثانية وهي الأشهر لنا اليوم، لكنها لم تكن مدرسة رياضية فحسب هذه المرة، بل كانت ديانة. تكونت الطائفة من دائرتين؛ الخاصة والعامة. التزمت الدائرة الخاصة بأقصى تعاليم الرحمة والنباتية الشديدة وتجريم قتل كل ما يملك أكثر من حاسة واحدة. آمنت تلك الدائرة أيضًا بانتقال الروح من جسد إلى جسد ومن صورة إلى صورة عقب الموت، لذا كان عليهم الالتزام بالحرص الشديد لأن أفعالهم السيئة مهما بدت طفيفة كانت كفيلة بتوجيه أرواحهم إلى اتجاهات قد لا يرتضونها عقب الموت.

أما الدائرة الخارجية فهي المحرك الأساسي لأشهر منجزات المدرسة؛ نظرية فيثاغورث.


ديانة الرقم

يتمثل الإرث الحقيقي لتعاليم فيثاغورث وجهود الفيثاغورثيين في الإطار الفلسفي الكبير الذي عملوه من خلاله. لم يتعامل الفيثاغورثيون مع الرياضيات كعلم بل كتعبد في محراب الكون. لم تكن الأرقام “تعبر” عن الآلهة بل كانت الأرقام بذاتها مؤلهة، كانت هي الأصل الذي صنع منه الكون وإليه سيرتد، وكانت كامنة في عمق كل شيء وكانت هي الأرواح.

بدأ الأمر بصدفة مبهرة عندما مر فيثاغورث أمام حانوت يعمل فيه مجموعة من الحدادين يضربون بمطارق النسبة بين أوزانها 12:9:8:6. بواسطة الإصغاء لاحظ أن النغمة الموسيقية يمكن التعبير عنها بضربات مطارق ذات أوزان لها نسبة ثابتة بالنسبة إلى بعضها.

دون الغوص في التفاصيل التقنية، نقول إن فيثاغورث استطاع استنتاج أن المسافة التي نطلق عليها الجواب الموسيقي Octave يمكن تبسيطها للنسبة 1:2، ثم أن النغمة الخماسية Perfect fifth يمكن أن نعبر عنها بالنسبة 3:2، وهكذا كان الأمر ساحرًا.

عندما لاحظ فيثاغورث حقيقة أن المسافات الموسيقية التي تحقق التناغم للأذن يمكن تبسيطها على نسبة ثابتة بين رقمين، فكر أنه ربما يكون لهذا الاتفاق أبعاد أكثر عمقًا في الكون ذاته. فكر فيثاغورث أن طبيعة الكون ذاتها هي عبارة عن علاقات بين أرقام مقدسة أهمها الأرقام الصحيحة 1 و 2 و3 و 4 والتي تمسح بقداستها على مجموعها أيضًا ليصبح الرقم عشرة قدس الأقداس.

فيلولاوس

استمرت المدرسة في تطوير هذه الأفكار ومحاولة صناعة الكون من مواده الأولية. كان الرقم 1 يعبر عن النقطة، الرقم 2 يعبر عن الخط، الرقم ثلاثة يعبر عن المسطح بينما يعبر الرقم أربعة عن المجسمات وأهمها بالطبع رباعي السطوح Tetrahedron. من هنا انطلق الفيثاغورثيون في تشكيل الكون ومن ثم تشكيل دينهم الجديد، ومارسوا الحياة السياسية والاجتماعية بناءً على تعاليم هذا الدين الجديد.


فيثاغورث حائرًا

انظر إلى تأثيرات العدد وطبيعته وفقًا للقوة التي تكمن في العدد عشرة. إنه عظيم، كله قوة، وفيه الكفاية لكل شيء. إنه الأساس الأول والدليل في حياة الآلهة والسماوات والناس. بدونه تنعدم حياة كل شيء ويعم الغموض وتتعذر الرؤية.

دفع الفيثاغورثيون بنظرية الأعداد والهندسة إلى أبعاد جديدة من خلال اعتكافهم في رحابها. ظهرت لأول مرة الأعداد غير النسبية irrational numbers التي لا يمكن كتابتها على هيئة كسر بسطه ومقامه –الذي لا يساوي الصفر- أعداد صحيحة.

كانت الصدمة في عدم قدرتهم على التعبير عن الجذر التربيعي لرقم 2 بواسطة كسر هي الطريق لانتشار مصطلح “رقم غير منطقي” بينهم، وهو المصطلح الذي مثّل معضلة وجودية لمدرسة قامت على فكرة الاكتمال والتناغم التام. فالأرض هي مركز الكون والشمس والقمر، والأجسام السماوية تتحرك كلها في دوائر تامة الاستدارة. لم يكن الأمر بالسهل أبدًا.

بالطبع لا يجب الاعتقاد بأن الفيثاغورثيين هم أول من توصلوا لكل ما عرفوه. لقد شاع في العالم القديم أن يتم اكتشاف أشخاص مختلفة لحقائق مختلفة كل على حدة بشكل مستقل. حدث هذا مع الأعداد غير النسبية، لكن الأهم هو حدوثه مع النظرية الأشهر على الإطلاق في الرياضيات بأكملها؛ نظرية فيثاغورث.

ببساطة a^2+b^2= c^2، هذه هي الصورة التي نعهدها جميعًا للنظرية التي نعرفها باسم نظرية فيثاغورث. حسنًا، لم يكن فيثاغورث ليفهم من هذا حرفًا واحدًا.

إن هذه الصورة الجبرية لنظرية فيثاغورث الهندسة لم تكن ممكنة إلا بعد ألفي عام بعد فيثاغورث. عندما تحدث فيثاغورث عن «مربع» فإنه كان يعني مربعًا حقًا. إن الصيغة الطويلة للنظرية: «في المثلث القائم الزاوية، مجموع مربع طول الضلعين المحاذيين للزاوية القائمة يساوي مربع طول الوتر» تنطوي على رسم مربعات فعلية على هذه الأوتار. هكذا فهم فيثاغورث نظريته ووضع لها إثباتها، وهكذا كانت الحضارات التي اكتشفتها قديمًا قد فهمتها أيضًا. كان الأمر يتعلق بالمربعات وليس «فكرة» المربعات العددية.

رغم تشتت جماعة الفيثاغورثيين، إلا أن تأثير فلسفاتهم وصنعتهم الرياضية قد كتبت لهم الخلود والبقاء ما بقيت الرياضيات والفلسفة. سيحمل إقليدس شعلة الفيثاغورثيين الرياضية وسيحمل أفلاطون لواء الفيثاغورثيين الفلسفي. وبينما ستخفت فكرة «شخصية الأرقام»، ستزدهر فكرة تناغم الكون المثال، وستبقى مربعات الفيثاغورثيين شاهدًا على جماعة تخلت عن صراعات الحياة الدنيا والأذى ووجهت بصرها نحو الكون الكبير وموسيقاه.

المراجع
  1. A New History of Western Philosophy, Vol1-Anthony Kenny
  2. Pythagoras, His life, teaching and influence – Christoph Riedweg
  3. A to Z of mathematicians- Tucker McElroy
  4. Greek Science- Benjamin Farrington
  5. Pythagoras and the pythagoreans: a brief history – Charles Kahn