اتسم القرن التاسع عشر الميلادي، باضطرابات فكرية وثورات نفسية بخاصة في الشرق الإسلامي بجنوب آسيا، واشتد أكثر هذا الاضطراب في الهند، فكان الصراع بين الحضارتين الغربية والشرقية وبين الإسلام والمسيحية في ذروته، ففي سنة 1857م وقعت الهند تحت الاحتلال البريطاني، وقوبل بثورة من المسلمين شملت معظم البلاد قادها آخر حُكام المسلمين المغول وقتها «بهادر شاه»، ولكن فشلت الثورة، ثم نقل الاحتلال كل العلماء والشخصيات المؤثرة إلى جزيرة «أندمان»، ازدهرت في تلك الفترة البعثات التبشيرية بالمسيحية[1].

في تلك الفترة من تاريخ بلاد الهند ظهرت حركة «أحمد خان» التي تدعو المسلمين إلى مسالمة الإنجليز وعدم الثورة عليهم، ثم دعا أحمد خان المسلمين إلى اقتفاء وتقليد الحضارة الغربية، وأظهر الرجل للإنجليز تبجيلًا شديدًا؛ فأخذوا في تعزيزه وتكريمه، وساعدوه على بناء مدرسة في «عليكرة» سماها مدرسة المُحمدين، كتب أحمد خان تفسيرًا للقرآن الكريم وأوّل القرآن على وجه يتفق مع فكره الخاص، فقامت حركة خان على الافتتان بالعلم الطبيعي والحضارة الغربية المادية، تاركًا التعاليم الإسلامية.

المِرزا «غلام أحمد» والأحمدية القاديانية

في القرن السادس عشر الميلادي، هاجرت عائلة «مِرزا غلام أحمد» -كلمة مِرزا هي لقب بمعنى أمير أو سيد، ولها أصل تركي وفارسي- من إيران إلى الهند، يذكر لنا المحاضر والباحث «عَديل حُسين خليل» أستاذ الدراسات الدينية في جامعة «لويولا في نيو أورلينو» في كتابه « From Sufism to Ahmadiyya – a Muslim minority movement in south Asia» ، بأن «غلام أحمد» كان دائم الذكر لشجرة الأنساب الخاصة بعائلته، التي يترأسها الجد الأكبر الذي كان أول المهاجرين من إيران إلى الهند، وهو «هادي بك» وانتسب بعد ذلك لقبيلة «موغال بارلاس[2]» الهندية[3].

وفي عام 1839م ولد «غُلام» في مدينة «قاديان» إحدى مدن مقاطعة «بنجاب» في الهند، في عائلة ثرية فكان جده «عطا محمد» صاحب قرى وأملاك في البنجاب، ولكن خسرها في حرب دارت بينه وبين السيخ، الذين دمروا أملاكه وطردوه وأسرته من قاديان، ثم سمح لهم الإنجليز بالرجوع إليها مرة أخرى، نظير خدمات عسكرية قدمها لهم والد «غُلام» فأعادوا إليهم تلك القرى، وأصبح والده من المقربين لحكومة الإنجليز وله مقعد خاص في الحفلات التي تقام في البلاط الإنجليزي آنذاك، وكَتب «غُلام أحمد» في كتاب «الاستفتاء» عن تلك الحادثة: «في تلك الأيام صُبت على أبي المصائب ونُهبت أموالهم على أيد الكفرة … ثم رد الله إلى أبي بعض القرى في عهد الدولة البريطانية»، وكما وضح «أبو الحسن الندوي» في كتابه «القادياني والقاديانية»، بأن والده أمد الإنجليز خلال الثورة الهندية الكبرى التي اندلعت عام 1857م، بخمسين فرسًا اشتراها من ماله الخاص[4].

فَصل لنا أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة القدس المفتوحة عبد الجبار رجا، في بحثه «تاريخ الطائفة الأحمدية من مصادرها»، بأن الأحمدية القاديانية مرت بعدة مراحل مهمة، حتى الادعاء الأخير بنبوة «غُلام أحمد».

المرحلة الأولى (1880 – 1888م) وكان وقتها يظهر للناس بمظهر العالم المسلم الزاهد، يدافع عن الإسلام، والمرحلة الثانية بدأ فيها يظهر على أنه مُجدد؛ وأن العناية الإلهية قد اختارته ليجدد للأمة الإسلامية دينها، وفي تلك المرحلة -لم يدع النبوة مُطلقًا- فقد ورد في كتاب «القاديانية ومصيرها في التاريخ» لدكتور طه الدسوقي حبيشي أستاذ العقيدة والفلسفة بالأزهر الشريف،، أنه قال: «ما ادعيت النبوة قط، ولا قلت إني نبي ولكنهم تعجلوا وأخطأوا فِهم قولي، وإني ما قلت للناس سوى ما كتبت في كتبي إني مُحدث، وأن الله يُكلمني كما يكلم المحدثين! وقال أيضًا: «لا نقول بوحي النبوة وإنما نقول بوحي الولاية الذي يتلقاه الأولياء، فهي دعوة ولاية وتجديد وليست دعوة نبوة»[5].

ثم بدأت مرحلة جديدة عام 1891م، وبها أعلن أن المسيح عيسى -عليه السلام- قد مات، ولم يُرفع، وادعى أنه المسيح الموعود الذي ذُكر في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وإنه المُصلح الذي تنتظره البشرية منذ ثلاثة عشر قرنًا، فكتب كتابه الإعجاز الأحمدي[6]، مُحدثًا نفسه: «ثم بقيتُ اثنتي عشر سنة وهى مدة مديدة غافلًا كل الغفلة عن أن الله تعالى قد خاطبني بالمسيح الموعود بكل إصرار وشدة في براهين الأحمدية، ما زلت على عقيدة نزول عيسى العامة، ولكن لما انقضت اثنتا عشرة سنة آن أن تتكشف على العقيدة الثابتة، فتواتر علىَّ الإلهام إنه أنت المسيح الموعود[7]».

ولكي يدعم آراءه وأفكاره، ابتدع حكاية اكتشاف قبر المسيح -عليه السلام- في كشمير، حيث زعم أن المسيح توفي في كشمير ودُفن فيها، في سرنجار قرب كشمير، والمشهور أنه قبر أحد الأولياء يُدعا يوسف أساف (أبو ذاسف) -لا أحد يعلم عنه الكثير- وقال غُلام: «إن عيسى فر من اليهود عندما شُبه لهم ونجا من الصلب، وألقى به الترحال في هذا المكان، حيث أدركه الموت ودفن في هذا القبر، وبهذا خالف عقيدة المسلمين في رفع عيسى عليه السلام إلى السماء[8].

في سنة 1900م، بدأ أتباع «غلام أحمد» يُلقبونه بالنبي صراحة، فنجد أحد أهم أتباعه «المولوي عبد الكريم» يقول في خطاب ألقاه في 7 أغسطس 1900م، «اعلموا أنكم إن لم تحكموا المسيح الموعود في كل ما يشجر بينكم وتؤمنوا به كما آمن الصحابة بالنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، فإنكم تخرجون عن الدين».

ثم بعد عام أي في 1901م، أعلن «غلام أحمد» أنه نبي مثل سائر الأنبياء، وأنه يوحى إليه، وملك الوحي هو جبرائيل، وهنا بدأ يبلور عقيدته، فأخذ يقول لأتباعه، إن باب النبوة بعد الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم، لم يُقفل بعد، وإنه هو رسول ونبي، أرسله الله في قاديان، ليصحح العقيدة ويجددها وينشرها بين الناس.

ثم بدأ يجمح أكثر، ففي محاضرة له عام 1904م، ألقاها في «سيالكوت» قال: «إنه هو كريشنا»، وكريشنا هو معبود من معبودات الهندوس، وهو تجلي من تجليات الإله فيشنو[9].

الأحمدية اللاهورية والأحمدية القاديانية

توفى «غلام أحمد» عام 1908م، بمرض الكوليرا، وخلفه أحد أتباعه الطبيب «نور الدين»، وبويع بالخلافة بعد وفاة غلام أحمد، ولُقب بالخليفة الأول واستمرت خلافته إلى يوم وفاته في 1914م، ثم بدأ يظهر خلافات عقائدية بين أفراد الطائفة الأحمدية، أثارها «بشير الدين» ابن غلام أحمد، بعدما تمسّك بنبوة أبيه.

يذكر لنا الباحث البريطاني «سيمون روس فلنتاين» وهو متخصص في مقارنة الأديان والدراسات الإسلامية في جامعة «باردفورد» في بريطانيا، في كتابه « Islam and the Ahmadiyya Jama’at: History, Belief, Practice» أنه حدث انقسام على إثر ذلك الرأي:

فالفرقة الأولى هي القاديانية بزعامة «بشير الدين محمود»، مركزها قاديان، وتؤمن هذه الفرقة أن غلام أحمد نبي مرسل من الله ومسيح مُخلص وهو المهدي المنتظر الذي ذُكر في الأحاديث النبوية، الذي سيأتي في أخر الزمان.

الفرقة الثانية وهي اللاهورية، بزعامة محمد على اللاهوري، ومركزها لاهور، تعتبر هذه الفرقة «غلام أحمد» مجدد القرن الرابع عشر الهجري، ولا تؤمن بنبوته، ولكن تراه المسيح الموعود. وكلتا الفرقتين تؤمن بوحي «غلام أحمد»، وفي الواقع لا اختلاف سوى في المسمى، فالاثنتان تؤمنان بأن غلام أحمد شخص مُوحى له من قبل الله.

يذكر لنا «أبو الحسن الندوي» رئيس ندوة العلماء في الهند، بأن غلام أحمد اعتقد في تناسخ الأرواح والحلول، وأن أرواح الأنبياء كانت تتناسخ، ويتقمص روح بعضهم البعض، ففي كتاب «ترياق القلوب»، ادعى «غلام أحمد»: «أن مراتب الوجود دائمة، فقد وُلد بعد إبراهيم بعادته وفطرته ومشابهته القلبية، بعد وفاته بنحو ألفي عام وخمسين في بيت عبد الله بن عبد المطلب، وسمي محمدًا صلى الله عليه وسلم…»، ويقول في كتاب البراءة: «تَحل الحقيقة المحمدية وتتجلى في متبع كامل، وقد مضى مئات من الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية، وكانوا يسمون عند الله مُحمدًا وأحمد».

ألغى غُلام أحمد فكرة الجِهاد وتحريمه -عصر ظهور المسيح الموعود- فكان تعطيل الجهاد وتحريم قتال الاستعمار الإنجليزي في هذا العصر هدفًا استماتت القاديانية لنشره والدفاع عنه، فقاموا بالتحريف آيات القرآن والسنة التي تشير إلى الجهاد، ومن أقوال «غلام»:

آن الأوان أن تفتح أبواب السماء، فقد عُطل الجهاد في الأرض وتوقفت الحروب، كما جاء في الأحاديث أن الجهاد يُحرم في عصر المسيح، فكل من يرفع السيف ويقتل كافر يكون عاصيًا لله ورسوله… وفي موضع آخر «أن تعاليم الإسلام هي تعاليم السلام[10].

الأحمدية في فلسطين

لم يقتصر وجود الأحمدية في الهند فقط، بل انتشر أتباعها فنجدهم بجانب الهند في باكستان، وكندا وبريطانيا، ونجد لهم مساجد خاصة بهم، ولكن نجدهم أكثر تمركزًا في فلسطين، فاحتضنت -إسرائيل- الطائفة الأحمدية؛ ظنًا منها أنها يمكن أن تقضى على فكرة الجهاد، والحركات الثورية ضدهم ولتسهيل إقامة المستوطنات، فبدأ وجود الطائفة في فلسطين عام 1924م عندما سافر الخليفة الثاني «بشير الدين محمود أحمد» إلى حيفا.

وبعد قيام دولة الاحتلال 1948م، الذي أيدها الخليفة، بدأت عمليات طرد سكان فلسطين، بينما سُمح للقاديانية بالإقامة والاستمرار في عمليات الدعوة دون أذى، كما أن الصحف الإسرائيلية ومنها «מעריב -معاريف» تقوم بالترويج لأفكار ومعتقدات الطائفة الأحمدية، فقالت: «الإسلام ليس مثلما تعتقدون»، توطدت علاقتهم بكيان الاحتلال، فأسس المولوي جلال الدين شمس عام 1928م، مركزًا للقاديانية في حيفا، وبه مسجد ومكتبة، ومدرسة، وصدرت لهم مجلة شهرية باسم «البُشرى» باللغة العربية، وطبعت الكتب والنشرات لتوزع في مختلف أرجاء العالم.

 ومع ذلك تقول الأحمدية في إحدى مجلاتها:

إن اليهود لا يستحقون تولي بيت المقدس؛ لأنهم ينكرون رسالة محمد، والمسيحيون لا يستحقون أيضًا؛ لأنهم أنكروا رسالة محمد؛ فغير المحمديين لا يستحقون توليته يقينًا[11].

والجدير بالذكر أن تسمية الطائفة بالأحمدية؛ ليس نسبة إلى غُلام أحمد، بل نسبة إلى الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم، الذي أُطلق عليه اسم محمد وأحمد[12].  والآن يرأس الطائفة الخليفة الخامس «ميرزا مسرور أحمد».  

المراجع
  1. تاريخ الطائفة الأحمدية من مصادرها، أ. عبد الجبار رجا محمود العودة، مشرف غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة، فلسطين.
  2. قبيلة بارلاس كانت لها جذور تركية ومغولية، ورغم ذلك استمر الميزرا في تأكيد أصله الفارسي.
  3. Adil Hussain Khan, From Sufism to Ahmadiyya – a Muslim minority movement in south Asia, Indiana university press, USA, 2015, P: 21 – 22.
  4. تاريخ الطائفة الأحمدية من مصادرها، عبد الجبار، ص: 5.
  5. القاديانية ومصيرها في التاريخ، طه الدسوقي، ص: 119.
  6. Life of Ahmed as the founder of the Ahmadiyya movement, by: A.R. Dard, (ex: Imam London mosque), Islam international publications limited, U.K, 2008, P: 300 – 302.
  7. المرجع السابق، ص: 127- 133.
  8. تاريخ الطائفة الأحمدية، ص: 6 – 7.
  9. تاريخ الطائفة الأحمدية، ص: 10 – 11.
  10. تاريخ الطائفة الأحمدية، ص: 24.
  11. المرجع السابق، ص: 30 – 31.