تفاجأ الجميع ببيان صادر من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يزعم فيه أنّ النظام الرئاسي هو الأوفق مع الدين والشريعة، ويدعو فيه الجماهير التركية بالتصويت بنعم على الاستفتاء الذي سيجري الشهر القادم لتغيير النظام السياسي التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وكان مما جاء في نصّ البيان:

يستنكر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الممارسات الهولندية، غير المقبولة سياسيا وأخلاقيا، ضد المقيمين في هولندا، وضد الساسة الأتراك، والدولة التركية، فهذا تدخل في شأن تركي خالص، ومحاولة للتأثير على قرار الناخب التركي المستقل، ويدعو الاتحاد العالم العربي والإسلامي والعالم الحر للوقوف مع تركيا والتضامن التام معها، في حق مواطنيها في اللقاء بساستهم، والتعبير عن رأيهم في الدول التي يقيمون بها. وبخاصة أن النظام الذي يدعو إليه أردوغان هو النظام الذي يتفق مع التعاليم الإسلامية، التي تجعل أمير المؤمنين أو الرئيس الأعلى هو رقم (1) في السلطة!

وإذا كان الشيخ القرضاوي هو رئيس الاتحاد وهو المُوقّع الرئيسي على البيان، وإذا كان منهجُ الشيخ طيلة حياته هو مخالفة الأئمة الكبار السابقين، لاختلاف الزمان والمكان، واختلاف العلل والمناطات، فإنه أيضا من حقنا أن نخالف فضيلة الشيخ، تماشياً مع نفس المنهج الفقهي الذي خطّه منذ زمن.


مآخذ على البيان

أولاً: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي دليل على حرمتها، والقول بأنّ النظام البرلماني لا يتوافق مع الإسلام قولٌ يحتاج إلى دليل. وهذا القول لا يتماشى مع منهج الشيخ نفسه الذي يتحاشى تحريم أيّ شيء إلا بدليل قطعيّ، كما قرر هو في كُتيبه حول المصافحة، وكتابه الحلال والحرام؛ ومن ثم فالقول بأنّ النظام البرلماني هو نظام لا يتماشى مع الإسلام والشريعة قول لا يمكن تكييفه فقهيا وأُصوليًّا. بل إنّ النظام البرلماني يعبّر عن مركزية الأمّة ومكانتها في صناعة القرار السياسي أكثر من النظام الرئاسي، هذا من الناحية السياسية. وعلى كلّ حال: فليست هذه المقالة معنية بأيهما أنسب شرعياً، بقدر ما تعتني بمناقشة الأصل الذي اعتمد عليه البيان.

السياسة في مجملها هي علمّ الظنيات، فالقطعيات فيها قليلة جدا، ومن ثمّ فالخلط بين القطعيات والظنيات، والثوابت والمتغيرات هو السبب في المخرجات النهائية للفتوى، وعدم صوابيتها.

ثانياً: السياسة في مجملها هي علمّ الظنيات، فالقطعيات فيها قليلة جدا، والثوابت نادرة، لا تكاد تُشكّل عنصرا حيويا فيها، ومن ثمّ فالخلط بين القطعيات والظنيات، والثوابت والمتغيرات هو السبب في المخرجات النهائية للفتوى، وعدم صوابيتها. وقديماً كان رئيس الدولة أو أمير المؤمنين هو رقم واحد لأن الفقهاء اشترطوا فيه أن يكون مجتهداً عادلاً فقيهاً، متصفاً بالأمانة والورعِ، لكن مع مرور الزمن استحال اجتماع تلك الشروط كلها في شخص واحد، فتفرّقت تلك الخصائص على المؤسسات فصارت هناك مؤسسات للفتوى، ومؤسسات للاجتهاد، ومؤسسات رقابية وهكذا. فإيراد وصف «أمير المؤمنين» بدون استصحاب موارده وصفاته الواجب توافرها فيه هو تدليس علمي لا شكّ. وقد قرر الفقهاء أنّ إجراء الأحكام التي مُدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كلّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة والعرف إلى ما تقتضيه العادة المتجددة [1].

ومصطلحات من قبيل «أمير المؤمنين» و«الرئيس الأوحد» و«زعيم القبيلة» كانت جميعها في نظام قديم يتسم بعادات وتقاليد وأعراف زمانية ومكانية، وقد تغيرت تلك المنظومة بكليتها اليوم. هذا النظام القديم التفت إليه العلماء في مسألة شرعية اختيار الحاكم من أهل الحل والعقد، بين حاكم له منَعة وشوكة في قومه وقبيلته ويمكنه بسط نفوذه وسطوته، وإنفاذ القانون والشريعة، وبين حاكم متصف بصفات الحكم لكن ليس له شوكة في قومه، فأنفذوا حكومة الأول دون الثاني [2]. أي أن المقبولية لدى الجماهير كانت ضمن إطار القواعد الحاكمة التي تُشرعن النظام الحاكم، وسعوا إلى إيراد تلك المقبولية قبل تنصيب الحاكم. مع الوضع في الاعتبار أن كل تلك الاجتهادات قبل ظهور الدولة الحديثة، وقبل إمكانية قولبة كلّ مقاصد الشريعة في قوانين ودساتير.

أيضاً قول الفقهاء مثلا بأنّ ثمة إجماعاً على كون الخليفة أو أمير المؤمنين من قريش، أبطله الجوينيّ ولم يعتدّ به، وهذا يدلّ على ظنية الممارسة السياسية لا قطعيتها، ويدلّ على أنّ هذا الشرط إنما وُضع أولا قبل انتشار بقعة الإسلام لأن مقبولية المؤمنين منحصرة في قريش زعيمة القبائل وأمها وقتئذ، ولكن لما انتشرت البقعة، وخرجت الحدود شرقا وغربا وجب إدخال المؤمنين الجدد والكثر في محلّ الولاية على أنفسهم وعلى النظام، فتم إلغاء هذا الشرط الذي انعقد عليه الإجماع من قبل. وإن استعمال لفظ أمير المؤمنين الذي جاء في البيان والإيحاء بأنه أقرب للإسلام بالضبط كمن يزعم القرشية في عالم اليوم! فالسياق مختلف، والزمان مختلف، والملاكات غير الملاكات.

المأخذ الآخر المهم على تلك الفتوى أنها ليست بفتوى فقهية، لأن الفقيه مهمته أن يقول بأنّ العدالة الاجتماعية واجبة، وليس من مهامه أن يقول بأنّ العدالة الاجتماعية في النظام الرئاسي واجبة! هذا ليس داخلا في عمله الإفتائي، بل قوله الأول داخل في مهامه، وقوله الثاني داخل في مهام اختصاصيين آخرين. والتفت العلماء إلى هذه التفرقة، فقالوا إننا إذا قلدنا آحاد العلماء في الأسباب إنما نقلدهم في كونها أسباباً لا في وقوعها. ففارق بين قول الفقيه السرقة موجبة للعقوبة، وبين قوله فلان سارق. فنقلده في الأول دون الثاني، لأنّ الثاني خارج عن مهامه كفقيه، فلابد من شهود وقاضٍ وما أشبه.

رغم أنّ مذهب الشيخ القرضاوي أنّ الشورى مُلزمة إلا أنه لا يلتزم به هنا، وكيف تكون الشورى ملزمة من غير قولبتها في مؤسسات ودساتير؟

وعندما قال الإمام مالك بأن مصر فتحت عنوة وانبنى على ذلك الكلام إبطال البيع والشُّفعة والإجارة في أرض مصر، قال الفقهاء إنّ تقليد مالك في إبطال الشفعة والبيع في أرض العنوة تقليد صحيح، لكن تقليده في إبطالها في أرض مصر لأنها فتحت عنوة تقليد غير صحيح؛ لأن التقليد في مسائل الواقع لا يجوز، ذلك أن الإمام مالك لم يُباشر فتح مصر بنفسه، فخرج الأمر عن مهامه كفقيه إلى آخرين غيره مختصّين في الرواية والحديث والتاريخ. وقالوا إنّ قول مالك هنا ليس بفتوى بل تجري مجرى الشهادات. ومثل هذا قول الفقيه بأنّ القبلة تُجاه اليمين، فلا يجوز تقليده هنا، لأنّ تحديد القبلة ليس داخلا في مهامه كفقيه بل في مهام اختصاصيين آخرين؛ فتقرّر من كل هذا أنّ بيان الاتحاد خرج من كونه فتوى فقهية إلى كونه بياناً سياسياً، يعبر عن رأيّ سياسي محض، لا علاقة له بالفقه والشريعة.

ثالثاً: تجاهلت الفتوى مركزية الأمة في صناعة القرار السياسي، وولايتها على نفسها، وعدم تخليق أوصياء يمارسون الاستبداد عليها. وهذا نابعٌ من جهل عميق بالفقه السياسي الإسلامي، والخلط العجيب بين الزمكاني والماضوي وبين إشكالات الواقع وتعقيداته وتشابكاته. فإنّ الدولة الحديثة لا تقوم على الرئيس ولا أمير المؤمنين، ولا كل تلك المصطلحات التي لا وجود لها على أرض الواقع، بل إن الدولة الحديثة –وكذلك الدولة في الفقه السياسي الإسلامي- ترتكز على المؤسسات، منها مؤسسات رقابية وتشريعية وقضائية، ودستور جامع ترتضيه الأمّة ينظم العلاقة بين تلك المؤسسات، ويُقلّم أظافرها جميعا كي لا تتوغل سلطة على أخرى، وهذا مردّه إلى علم السياسة والإدارة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ولا علاقة للأحكام الشرعية الخمسة هنا. فهذا كله يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم «أنتم أدرى بشئون دنياكم». فتلك كلها وسائل وآليات لتطبيق الشورى.

ورغم أنّ مذهب الشيخ القرضاوي أنّ الشورى مُلزمة إلا أنه لا يلتزم به هنا، وكيف تكون الشورى ملزمة من غير قولبتها في مؤسسات ودساتير، ومقبولية الأمّة لأيّ قرار سياسي يتخذه الرئيس أو حتى أمير المؤمنين كما يحلو للبيان أن يصفه.


عضو «الاتحاد» يعارض بيان الاتحاد

هذا العجب من تجاهل مركزية الأمة يزول إذا عرفنا أن الدكتور جاسر عودة وهو عضو مجلس أمناء الاتحاد قال بأنّ البيان لم يصدُر عن أمانة الاتحاد، ولا تمّت المشاورة والمناقشة لأعضاء الاتحاد حوله، بل تمّت صياغته ونشره بدون علم أعضاء الاتحاد النافذين. وهذا نصّ كلام الدكتور جاسر عودة:

انتهى كلام د. جاسر عودة. والجدير بالذكر أيضا أن الدكتور معتز الخطيب تلميذ الشيخ القرضاوي خالف البيان وفنّده على صفحته بالفيس بوك، وكذلك الشيخ تليمة تلميذ الشيخ القرضاوي.

فحتى عضو أمانة الاتحاد يشكو من غياب الشورى الحقيقية داخل الاتحاد، وغياب المؤسسية في صناعة القرار، وهذا الكلام يحلّ إشكالات كثيرة لنعرف من خلاله موقع الجمهور وموقع أهل الحل والعقد داخل العقل الجمعي لمشايخ الاتحاد وعلى رأسهم فضيلة الشيخ القرضاوي، بعيداً عن التنظيرات في الكتب. فالتنظيرات وحدها لا تكفي إلا إذا تمّ تطبيقها.


زجّ الشريعة في معركة لا تخصّها

بصفتي عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أتتني استفسارات كثيرة عن بيان الاتحاد الأخير بخصوص الصراع السياسي الأوروبي التركي والنظام الرئاسي التركي. وغني عن القول أن هذا البيان وغيره من البيانات ذات الطبيعة السياسية الحزبية يخرج عن دور الاتحاد كهيئة علمائية تستهدف أن تمثل مرجعية شرعية للأمة. ولكن ما لا أجد بداً من التصريح به كعضو في مجلس أمناء الاتحاد أن تلك البيانات تتعارض مع قرارات مجلس الأمناء المتكررة منذ سنوات والتي نكررها في كل اجتماع لمجلس الأمناء، وفحواها أنه ليس من مهمات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إصدار البيانات أصلاً ولا يصح أن تصدر عن الاتحاد أو باسمه بيانات عامة إلا في النوازل الكبيرة التي تتطلب موقفاً شرعياً عاماً وذلك بعد الرجوع للهيئة التنفيذية وفِي ضوء المواقف العامة التي تصدر عن مجلس الأمناء المنتخب من الجمعية العمومية. ضعف المؤسسية وشكلية الشورى من الإشكالات العامة في المؤسسات الإسلامية خصوصاً وفِي أمتنا الإسلامية عموماً، وأرى أننا نحتاج إلى جيل جديد من القيادات الإسلامية يحترم المؤسسية ويعمل من خلالها.

والحقّ أن فلسفة الاستفتاء تقتضي أن يكون هناك جماهير وهناك مؤيدون ومعارضون، والزجّ بالدين في هذه المعركة السياسية المحضة لجانب دون آخر هو تجارة محضة بدين الله، وتطويع للفقه، في براجماتية السياسة. والرئيس أو السلطة التنفيذية تقرّ بحقّ الجمهور في الاختيار وتطلبُ من الشعب تقرير مصيره وشكل نظامه الذي يبغيه، فيأتي الفقيه ويمارس الوصاية على الأمّة قبل أن تبدي رأيها!

إن مهمّة الفقيه ليست «تبرير» أيّ فعل للسياسي أو للنظام الحاكم، بل مهمته أكبر من ذلك بكثير، فمنصب الفقيه فوق المماحكات السياسية، وفوق التجاذبات الداخلية لأيّ نظام سياسي. الفقيه يجب أن يكون رقيبا على البلاط السلطاني إذا خالف قطعياً من القطعيات وثابتا من الثوابت، وما سوى ذلك من طور الاجتهادات والمقاصد فلا ينبغي للفقيه أن يتدخل فيها؛ لأنّ المجال غير مجاله والتخصص غير تخصصه.

وأخيراً فقد كان من الأولى بتجمع كبير على غرار الاتحاد العالمي أن ينظم مؤتمرات وورش عمل ويستكب علماء ومختصين، ويطور من منظومة الفقه السياسي الشبه متوقفة تماماً عن النمو والتطور، ومواكبة العصر الراهن بإشكالاته وتعقيداته، الأمر الذي وفر غطاء لمتشككين في وجود نظرية سياسية للنظام الإسلامي متكاملة ومبلورة. وبكل صدق فلو قارنا جهود فقهاء السنة مع جهود فقهاء الشيعة حول منظومة الفقه السياسي والنظريات السياسية سوف نجد أن الشيعة تطوروا تطورا ملحوظاً واستقر العلم عندهم، وصارت له قواعده وأبوابه ومداخله، في حين أننا لا زلنا نتكلم عن أمير المؤمنين وقرشية الحاكم رقم واحد في الدولة؟!


[1] – الإحكام للقرافي ص218، و الفروق 3/ 161.[2] – راجع الغياثي: 251.