«الطب في مصر للمصريين»، لم تكن مجرد مقولة، بل رسالة آمن بها الطبيب الأسترالي فرانك مادن، منذ الوطأة الأولى إلى أرض مصر أواخر القرن التاسع عشر. وصل مادن في رحلة عمل قصيرة ليتفاجأ بمستشفيات تنافس نظيرتها في أشهر عواصم العالم، لكن أبناء البلد وأصحاب الأرض يتم إقصاؤهم من دراسة الطب بلغتهم الأصلية أو سفرهم لتلقي بعثة في الخارج، متخذاً قراره بالبقاء فيها حتى وفاته مدافعاً عن المصريين ومناضلاً من أجل حقوقهم في التعليم، ورغم جهوده فإن حياته في مصر ووفاته وإنجازاته الطبية ما زالت منسية حتى الآن.

فرانك مادن: طبيب أسترالي أصبح مصرياً

على مدار سبعة عقود منذ رحيله في عام 1929، ظلت سيرته غامضة، حتى بدأ حفيده «ديفيد مادن» -الألماني لأب فنزويلي- في بدء البحث عن تاريخ عائلته وتدوينها، ومن بينها تاريخ وحياته جده فرانك في مصر، وفي حوار خاص مع «إضاءات» يروي ديفيد مادن، حفيد الدكتور فرانك مادن، تفاصيل حياته في مصر والمناصب التي شغلها وعمله في القصر العيني وسبب بحثه عن ذكريات جده في مصر حتى وفاته ومكان دفنه بها.

ظلت كثير من المعلومات غامضة عن سيرة فرانك مادن، باستثناء مؤلفاته المُتاح منها نسخ عبر الإنترنت لا يتوفر كثير عن حياته الشخصية، ويقول ديفيد: «تواصلت مع جدي لأسأله عن تاريخ العائلة وأرسل لي نسخة مطبوعة من السيرة الذاتية لجدي الأكبر – فرانك مادن».

بين هذه الأوراق القديمة، سيرة فرانك، المناصب التي شغلها وخطابات قديمة بخط يده، وكان قد شغل أستاذ الجراحة بكلية الطب الحكومية في مصر، وجراح أول بمستشفى قصر العيني بالقاهرة، والمستشار الطبي للواء السير ريجنالد وينجيت، المفوض السامي لمصر، وجراح مدني في قوة المشاة المصرية.

وبحسب يومياته، التحق فرانك بكلية سكوتش في ملبورن عام 1886، وفي نوفمبر 1887 حصل على شهادة البجروت، وظل في سكوتش حتى ديسمبر 1887، ولم يتمكن من دخول الجامعة إلا بعد 16 عاماً، وفي مارس عام 1889 التحق بجامعة ملبورن وفي العام نفسه اجتاز السنة الأولى في دراسة الطب تخصص جراحة.

وكانت دراسة الطب خمسة أعوام وتخرج في مارس 1893، وعُين من قبل الحكومة الأسترالية كطبيب لمدة 6 أسابيع كان مسؤولاً خلالها عن 400 مريض، وتدرجت مناصبه في ملبورن حتى سافر إلى لندن عام 1895، وتولى زمالة الكلية الملكية للجراحين في إنجلترا في نوفمبر 1896.

في عام 1898 انتدبته بريطانيا إلى مصر، وتم تعيينه أستاذاً للجراحة بكلية الطب الحكومية المصرية وجراحاً أول بمستشفى قصر العيني بالقاهرة، ولم تنقطع علاقته بأستراليا – بلده الأم- حيث حصل على دكتوراه الطب من ملبورن في عام 1904.

قصر العيني أواخر القرن التاسع عشر

حرص مادن على تدوين يومياته، وكتابات خطابات للأهل والأصدقاء باستمرار، وخلال إقامته في مصر لم يكتب عن حاله فقط بل وصف في خطاباته أحوال الطب في القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بشكل دقيق، ووصف المدينة أيضاً، وأرسل حفيده ديفيد نسخة من خطابات مادن إلى «إضاءات».

حديث من أصل أسترالي
القاهرة
1 أغسطس 1899
إلى محرر مجلة المنظار

أنا الآن أسترالي وحيد في وسط واحة مصر الشاسعة، أرسلت طلباً للعمل في مصر بعد ثلاث سنوات ونصف من مغادرتي ملبورن، وجدت نفسي مثبتاً في منصب رفيع في مستشفى قصر العيني، عند وصولي، وجدت مستشفى كبيراً يضم أكثر من 400 سرير، مجهزاً جيداً ومفروشاً بأرقى طراز إنجليزي حديث. جميع الأرضيات من الموزايك الفاخر، والأسرة المكسوة على مبدأ لوسون-تايت، وغرف العمليات، مجهزة وفقاً لمبادئ التعقيم الصارمة، بل هي مشابهة لأي مؤسسة طبية في إنجلترا أو في أستراليا، العمل رائع.

ويضيف:

يوجد ما يقرب من 80 سريراً في القسم، للانتشار الكبير في أمراض الجهاز البولي التناسلي، وبخاصة البلهارسيا، والحالات الاستثنائية تتزايد مثل حالتين من العمليات القيصرية، وعديد من عمليات استئصال المبايض، جميع الطلاب من السكان الأصليين وهم ممتنون جداً لأي تدريس، وفي قسم النساء خصوصية حريم محروسة بغيرة إلى حد ما، فالممرضات فتيات عربيات صغيرات ، يعملن منذ التحاقهن بالمدرسة وتحافظ عليهن المستشفى لحماية خصوصية النساء.

ويتبع:

تمتد الدراسة على مدى أربع سنوات، وفي علم التشريح وجدت أن الطلاب لديهم معرفة جيدة جداً بعمله، على الرغم من العيوب الكبيرة لمزيج اللغات. بعض الأوراق مكتوبة بالعربية والبعض الآخر بالفرنسية والأغلبية بالإنجليزية، يجب أن يكون المرء لغوياً تماماً لمثل هذا العمل، ووقت فراغي مشغول بالصراع مع العربية والفرنسية العامية.

تفضلوا بقبول فائق الاحترام..فرانك سي مادن

كتاب عن أمراض المصريين

كان عمله في مصر، سبباً في اختياره البقاء فيها حتى الموت، رفض أن يغادرها رغم قبوله أكثر من عرض للعمل في بلاد أخرى، وبسبب حبه للكتابة، حرص على إنتاج كثير من الكتب، أكثرها شهرة كتاب «الجراحة في مصر» الصادر عام 1919 عن مطبعة النيل بالقاهرة، يوثق مادن أساليب الجراحة في أعضاء مختلفة بالجسد، ويسرد عبر صفحاته أساليب التعامل مع المصريين والأمراض الشائعة في مطلع القرن العشرين.

بحسب ما ذكره أستاذ الجراحة في كلية قصر العيني، يستهدف الكتاب الطلاب في مصر، ونصح بقراءته لأنه لا يشرح أساليب الجراحة بشكل عام فقط، لكن تأثر الجروح أيضاً بعوامل أخرى شهدها في مصر مثل المناخ والظروف الاجتماعية.

لم تقتصر أهميته لأنه كتاب طبي متخصص في الجراحة، لكنه يعد أول دليل طبي عن جروح السكان الأصليين في مصر، ويقول في المقدمة: «عانى المصريون الذين تعرضوا للعدوى منذ الطفولة، وأبرزها البلهارسيا التي يُصاب بها كل بريطاني عائد إلى بلاده من مصر».

أصبح بمثابة مُرشد لأي جراح يجد نفسه في مصر، لدرجة أن المجلة البريطانية للجراحة استعانت به لنشره ليكون دليلاً للجراحين الإنجليز المُنتدبين في مصر.

أمراض المصريين في مطلع القرن العشرين

لكن هذا ليس الكتاب الوحيد لفرانك مادن، حيث أصدر خلال إقامته في مصر 12 كتاباً طبياً، كان أولها كتاب «التمريض للأطفال والرضع» عام 1901، وكرس 9 سنوات لدراسة البلهارسيا وأنتج خمسة كتب عنه، ومنها كتابان يحملان عنوان «البلهارسيا» في عام 1907، وكتاب «شريطان بلهارسيا» عام 1909، وكتاب «بلهارسيا فتحة الشرج» عام 1909 و«بلهارسيا الأمعاء الغليظة» عام 1910.

واستكمل معلوماته الطبية بمجموعة متنوعة من الكتب، من بينها كتاب «اليود معقم لجروح العملية» إصدار عام 1912، وجاء هذا الكتاب في وقت كان يموت فيه بعض المرضى من تلوث الجروح.

وفي كتابه «التخدير النخاعي» الصادر عام 1912 رصد فرانك مادين تطور التخدير عبر دراسات جمعها على 1000 مريض، مستعيناً بملاحظات الدكتور حسن شاهين طبيب التخدير في المستشفى.

ويكشف هذا الكتاب التاريخ الحقيقي لاستخدام التخدير النخاعي في مصر (البنج النصفي) وهو عام 1908، ويقول عن إجراءات التخدير: «يتم طلاء العمود الفقري بالكامل باليود، وجعل المريض يجلس على حافة السرير ثم يتم حقنه بينما يحني المريض رأسه إلى أسفل على الصدر، والمرفقان يستريحان على الفخذين ليتقوس الظهر وتكون الفقرات واضحة».

وعن إجراءات تجهيز حقنة التخدير، كان يتم تسخينها بشدة بمحلول «الستوفين»، وإذا فشل الطبيب في تخدير المريض عبر وضع الحقنة في المكان الصحيح يُعاد تسخينها مرة أخرى.

صراع فرنسي إنجليزي على الطب

يكشف كتاب «الثورة المصرية عام 1919: الموروثات والنتائج» إصدار عام 2022 لـ«ها هيلير» و«روبرت سبرينغبورغ»، محاولات بريطانيا للسيطرة على الطب في مصر، حيث جعل البريطانيون تعليم اللغة الإنجليزية إجبارياً، وكان هذا جزءاً من من مشروع إمبراطوري لاستخدام الطب لاستعمار مصر واستعمار الطب في مصر.

في غضون عامين من الاحتلال البريطاني، استولى البريطانيون على إدارة الصحة في مصر، وحولوها إلى إدارة للصحة العامة تتيح فتح المختبرات وجمع الإحصاءات.

واستمر البريطانيون في محاولتهم للسيطرة، ومنها إضافة شرط جديد في كلية الطب وهو أن يكون الأطباء المدربون أو المسئولون بالمستشفيات إنجليزاً، وعدد قليل من الألمان، أما الأطباء المصريون فتم نقلهم أو تخفيف نسبة عملهم، وعلى سبيل المثال اضطر طبيب العيون علي بك حيدر للعمل في قسم الجلدية.

قمْع البريطانيين للأطباء المصريين كان على عكس المحاولات الفرنسية، وجاء قرار آخر بمنع كل البعثات الطبية الأجنبية مفضلين إبقاء المصريين أخصائيين فقط أو يعملون تحت إشراف الأطباء البريطانيين والأجانب الآخرين من ذوي الرتب عليا، وهذا على عكس وضع المصريين عندما كان الطب في مصر تحت التأثير الفرنسي.

لكن فرانك مادن كان ساخطاً على هذا الوضع فبدأ في المناداة بضرورة أن يكون الطب في مصر للمصريين فقط، وكانت الشرارة الأولى لحرية الطب في مصر، وحرص على حصول طلابه على كل المعلومات التي من الممكن أن يدرسوها خلال سفرهم للخارج، وبحسب الكتاب فإن دكتور نجيب باشا محفوظ تعلم الجراحة على يد دكتور فرانك مادن ودكتور فرانك ميلتون.

فرانك المناضل: أصبحتُ مصرياً

منذ اليوم الأول لمادن وعمله في مصر، حرص على أن يكون الطب للمصريين حقاً أصيلاً، حيث لاحظ تشتتهم لدراسة الطب باللغة الإنجليزية والفرنسية وأي لغة أخرى لطبيب وافد، لكن ماذا عن اللغة العربية؟

يقول حفيده ديفيد مادن لـ«إضاءات»: «ناضل فرانك مادن لحق المصريين في دراسة الطب باللغة العربية، وهو أول طبيب في مصر يطالب بدراسة الطب باللغة العربية. لديّ القليل من أوراقه ورسائله، عاش في القاهرة لأكثر من 30 عاماً وكان قائماً بأعمال رئيس الجامعة وعميد كلية الطب ومدير مستشفى قصر العيني، كتب عدداً من الكتب الطبية منها جراحة مصر، الذي وصف الحالات الطبية في ذلك الوقت».

ووصلت جهوده إلى القادة السياسيين في ذلك الوقت، ومنحه سلطان مصر رتبة القائد من الدرجة الثالثة، وحصل أيضاً على الوسام العثماني من الخديوي ولاحقاً وسام النيل، ورغم ترحيبه بالتكريم من قادة مصر لكن الأمر نفسه قُوبل برفض شديد مع قادة القوات البريطانية، ففي يونيو 1915 تم تعيينه جراح عمليات للقوات البريطانية، لكنه أمر بعد أخذ رتبة عسكرية او تكريم أو المشاركة في الحرب، وفي عام 1919 حصل على وسام شخصي من الملك في قصر باكنجهام عندما كان في إجازة في لندن.

نجاح ساحق ووفاة غامضة

لكن هذا النجاح الساحق كان خلفه جهود نفسية قوية، فالأسترالي المناضل قرر إنهاء حياته، واحتل خبر إنهاء حياته عن عمر يناهز 56 عاماً، غلاف عدد مجلة المصور بتاريخ 8 مايو 1929 بعنوان «عميد كلية الطب يطلق الرصاص على نفسه»، ووصف الخبر وفاة الدكتور مادن عميد كلية الطب ونائب مدير الجامعة المصرية بأنه انتحر في صباح يوم الجمعة 26 أبريل 1929، بأن أطلق رصاصة من مسدسه اخترقت الفم إلى الرأس ولم يُعرف السبب الذي دفعه إلى ذلك فراح مسكيناً – عليه رحمة الله».

وعن تفاصيل خبر وفاة الدكتور مادن، المنشورة بالمجلة نفسها: «روعت الأسرة الطبية يوم الجمعة الماضي بنعي أحد أساطينها وهو الدكتور مادن عميد كلية الطب ووكيل الجامعة المصرية في منزله صباح ذلك اليوم إذ أطلق رصاصة من مسدسه فاقتحمت الفم إلى الرأس وقضت على حياته، ووجده خادمه الخاص مضرجاً بدمائه على مقعد بغرفته الخاصة ولم يجد المحققون أي خطاب تركه».

لكن وفاته أثارت كثيراً من الشكوك حيث كان بمفرده في منزله بحي الزمالك ذلك الوقت، ويستكمل الخبر: «كانت عقيلته وأولاده فد سافروا إلى إنجلترا لتمضية فصل الصيف هناك قبل عشرة أيام من هذا الحادث المروع، وتضاربت الأقوال وقد ذاعت إشاعات كثيرة في سبب انتحاره، وشيعت جنازته في موكب مهيب بعد ظهر يوم السبت التالي لوفاته، وسار في الجنازة مندوب الملك ونائب رئيس الوزراء ووزير المعارف والأطباء وغيرهم».

خدمات طبية رائعة لمصر

في وقت وفاته ، كان الدكتور مادن رئيساً بالنيابة لجامعة القاهرة، وعميداً لكلية الطب ، ومديراً لمستشفى قصر العيني بآلاف المرضى الداخليين وخمسة آلاف مريض خارجي، ومستشفى قصر العيني. كلية الطب العينية، تضم أربعة أقسام، وتسعمائة طالب وطالبة، كان واضحاً لزملائه أنه كان مرهقاً، لكنه لم يشتك أبداً، بالأمس ترأس اجتماعا طويلاً لمجلس الشيوخ للتحضير لتوقيع كان من المقرر أن يتم مع أمناء «كيتشنر ميموريال» وهو اتفاق ستنشئ الحكومة بموجبه مدرسة للطبيبات ملحقة بمستشفى «ميموريال». في الليلة الماضية، وجده أحد أصدقائه الأطباء منزعجاً لدرجة أنه أقنعه بتفويض حفل اليوم إلى مساعد العميد.

أرسل الدكتور حافظ عفيفي وزير الخارجية المصري، رسالة أخرى من المندوب المصري، قال فيها: «أود أن أقول كلمة تقدير له ، كطالب له وكصديق شخصي، يعود معرفتي به إلى عام 1905، حيث سعدت أن أدرس تحت قيادته. في مستشفى قصر العيني، وحظي عمله بتقدير كبير في مصر، وكرس كل طاقاته لرفع مستوى مستشفى قصر العيني، واستحق التقدير الكبير لكل من عمل تحت إشرافه ، الذين هم الآن من بين الجراحين الرائدين في مصر، وكوزير للخارجية، كان لي علاقة بتفويض الحكومة المصرية له كممثل لمصر في مؤتمر المستشفيات المقرر عقده في نيويورك الشهر المقبل، لم يكن الدكتور مادن جراحًا عظيمًا فحسب، بل كان يتمتع أيضاً بقدرة رائعة في البحث العلمي، بخاصة في المظاهر الجراحية للبلهارسيا.

وإلى الآن تأوي منطقة المقابر المسيحية في حي القاهرة القديمة مقبرة الجراح الأسترالي، كُتب عليها

بفضل من الله
في محبة ذكرى الدكتور،
فرانك كول مادن
الزوج المُحب لـ مادلين مادن
مات في 26 أبريل 1929
عن عمر يناهز 56 عاماً
طوبي للراحلين، استراحوا من أعمالهم، وأعمالهم تلحق بهم