من الشائع والمتداول، وربّما المسلّم به، أن الربيع العربيّ شكّل نقطة تحوّل جذريّة في علاقة الإنسان العربيّ بالمجال العامّ، فمشهد الإنسان العربي وهو يملأ الميادين مادّيا بالحشد الغفير ومعنويّا بشعارات المطالبة بسقوط الأنظمة والحرية والعدالة الاجتماعية يبدو مناسبا تماما لاستنتاج من هذا النوع، إذ بدا بالفعل أن الشعوب العربيّة تستعيد زمام المبادرة وتحاول تحرير جزء من مجالها العامّ المستلَب. لكنّ سؤالا مشروعا يجب أن يُطرَح حول ما إذا كانت الثورات العربية قد أعادت الإنسان العربيّ بالفعل إلى دائرة “السياسيّ”، أي إلى دائرة المساهمة الفاعلة في القضايا المتصلة بتدبير الشأن العام واتجاهات الدولة وشكل نظام الحكم.

لعلّ من الممكن الاتفاق على أن الفضاء السياسيّ قبل الربيع العربيّ كان مسدودا بوجه عام، فلو أردنا أن نبحث عن أمثلة لما يمكن أن نصفه بالفعل بـ “عمل سياسيّ”، فسنظفر غالبا بالتالي:

أولا: الأحزاب

وهذه تنقسم إجمالا إلى: أحزاب سلطة تعتمد أساسا على كونها أحزاب سلطة، أي على كونها مرتبطة بمنظومة الأمن/الثروة في الدولة من دون رؤية تسندُها قاعدة اجتماعية مؤمنة بتلك الرؤية، من قبيل البعث في سوريا والوطني في مصر والتجمع في تونس، وأحزاب ليبيرالية ويسارية هشة لا تستند إلى قاعدة شعبية ولا تعبّر حقيقة عن رؤية اجتماعية-سياسية-اقتصادية، والإخوان المسلمون بمشاركتهم المتفاوتة في الانتخابات زمانا ومكانا والعلاقة القائمة على الشدّ والجذب مع الحكومات.

ثانيا: مؤسسات المجتمع المدني

وهذه تنقسم بدورها إلى النقابات المهنية التي يتنافس فيها غالبا الإخوان واليساريون، والمنظمات غير الحكومية التي تعنى بالحريات وحقوق الإنسان والصحافة، ويتقاسمها الليبيراليون واليساريون عموما.

ثالثا: الأجسام الطلابية في الجامعات

وهذه تشبه عموما توزيع الأحزاب والنقابات، وتتمتع غالبا بهامش حركة أوسع، كونها أبعد عن العمل السياسي بمعناه المباشر.

ما جرى في الربيع العربي كان تحرّكا جماهيريا واسعا حاولَ التأثير المباشر والجذري في شكل السلطة، وهذا متوقع في ظل انعدام فضاء سياسي حقيقي يجري فيه تداول الآراء والتناوب على السلطة ونقد أداء الحكومات بشكل علني، وفي ظلّ غياب قدرة المواطن على المساهمة في تغيير الممسكين بزمام السلطة وبالتالي انعدام قدرته على تكوين معرفة حقيقية بحدود وإمكانات السلطة في بلده، وما إذا كان العجز والفشل في أدائها نابعا من خلل بنيوي في منظومة السلطة أو مقدرات الدولة، أو خللا نابعا من الفاعلين السياسيين ضمن نظام الدولة ومقدراتها.لكن ما يثير التساؤل بالفعل، هو الضمور الملحوظ في حضور الشأن السياسي، والنقاش السياسي، ومفردات السياسيّ، ومطالبات السياسيّ، وآفاق السياسيّ في المجال العربيّ العامّ، سواء في الدول التي قامت فيها الثورات أو الدول العربية الأخرى. لا يبدو أن الهبة الجماهيرية الواسعة التي بدت سياسيّة بامتياز قد تركت خلفها حيزا مكافئا للحجم الذي احتله السياسيّ في دعواتها ومطالبها.هناك اليوم حالة عامة من العزوف عن السياسي. لا نعني العزوف عن الممارسة فحسب، فهذا قد يكون مفهوما في ظلّ حالة القمع الشديد التي أعقبت الثورة في مصر، وتحول الثورة السورية بفعل قمع النظام إلى حالة ثورية عسكرية، بل نعني العزوف حتى عن النقاش السياسي والقول السياسي والتنظير السياسي. لا يبدو إفراطا في المبالغة أن نقول إن النقاش السياسي يكاد يكون تراجع بعد الثورات عن حجمه قبلها، فقضية الديموقراطية ونظام الحكم والتوجهات الاقتصادية للدولة وعلاقة الدولة بالدين والدولة بالمجتمع لم تكن غريبة عن النقاش الثقافي في المجال العربي قبل الثورات، لكن فتح ملفّ الديموقراطية اليوم على سبيل المثال سيبدو أكثر غربة منه ما قبل الثورات.

غياب السياسيّ، سبب أم نتيجة

ربما يبدو تعليل الأمر واضحا، فأي مجال للنقاش السياسيّ في مصر في ظل النظام العسكري، أو في سوريا في ظل أجواء الثورة المسلحة، أو في اليمن في ظل الحرب الإقليمية على أرضه؟ لكن هذا التعليل لا يبدو كافيا بذاته، ففي ظل الحروب الأهلية والثورات الشعبية والمسلحة كان هناك دائما نقاش في السياسي، وكان هذا النقاش جزءا أصيلا من حالة الثورة نفسها ورؤيتها لنفسها وأهدافها المتوخاة، وكان امتلاك الثورة لرؤية سياسية أخلاقية عاملا مهما في توسيع قاعدتها وإضعاف خصومها. ولئن كانت الأوضاع المعقّدة التي آلت إليها هذه البلدان كافية لتفسير هذا الضمور، فما تفسير هذا الضمور في الدول العربيّة الأخرى التي لم تتردّ فيها الأوضاع بقدر مُشابِه؟

ما نقترحه هنا هو وجوب التساؤل عما إذا كان غياب السياسيّ سببا في هذه الأوضاع التي نشأت بعد الثورات، لا نتيجة لها، أي البحث فيما إذا كان غياب السياسيّ أو ضعفه، نقاشا وممارسة، سببا في أن تؤول الأحوال بعد الثورات العربية إلى ما آلت إليه، أي إلى أوضاع تُفاقِم من غياب السياسيّ وتهمّشه أكثر فأكثر، وتُبعده عن حيز الفعل والنقاش.

كيف أدّى غياب السياسيّ إلى مزيد من غياب السياسيّ؟

ما نقترحه هو أن الثورات العربيّة، في بدايتها على الأقلّ، كانت محاولة بلا ملامح لإيجاد السياسيّ، أي اندفاعا عارما نحو مساحة مجهولة أدرك العربيّ الحديث أنّها موجودة دون أن يكون ملمّا بمعالم محددة لها، وحين وجد العربيّ نفسه فجأة أمام السؤال السياسيّ، شعر أنه أمام سؤال لم يألفه، وبدل أن ينهمك في تحديد طبيعة السؤال وملامحه وإجاباته المحتملة، انساق إلى اتجاهات أخرى لأسباب متعددة، فما لبث السؤال السياسي أن انحلّ وتفكّك، ولو بحثنا في المسارب التي انحلّ فيها فيها السياسيّ، فسنجد أنّه قد انحلّ في أكثر من اتجاه، من بينها الدينيّ، والثقافيّ، والمعيشي، والاجتماعي، وغيرها.

انحلال السياسي في الدّينيّ:

لا شكّ أن علاقة الديني بالسياسي في مجالنا العربيّ من أكثر العلاقات التباسا، ولعلّه لم يوجد سؤال ألحّ على المثقفين العرب إلحاح هذا السؤال عليهم، وتفاوتت الرؤى بشأنه من القول بالتمايز الكامل إلى التماهي الكامل، وبينهما محاولات شديدة التنوع والتفاوت من الفصل والتمييز وتوضيح الالتقاءات والافتراقات. غير أنّ ما نزعم أنّه غاب عن جانبي الصراع حول السؤال -من يوصفون عموما بالإسلاميين والعلمانيين- هو أن الحيّز السياسيّ بالمعنى الحديث، أي “السياسي” الذي كانت الثورات تبحث عنه، هو حيّز يقع خارج الدينيّ بمعناه المعروف، بمعنى أن الثورات كانت تحاول اجتراح مساحة للسياسيّ مرتبطة بالدولة الحديثة، ولا يمتلك الفقه بخصوصها تأسيسا ولا تنظيرا ولا حتى معالجة التحاقيّة مُرضية، وأقصى ما يمكن أن يحققه “الدينيّ” بأشكاله الشائعة فيها من حضور لن يتجاوز المبادئ الأخلاقيّة العامّة وأدبيّات المقاصد والمصالح.

بدل أن يدرك الطرفان المتصارعان هذا، وينكبّا على محاولة جادّة لتحديد هذا السياسيّ وتدبيره وترشيده، انكفأ “الإسلاميّون” إلى إغراق هذا الحيّز بجدالات كلاميّة لا تطاله ورؤى فقهيّة لا تتجاوب معه، وارتكس العلمانيون إلى سرديّة التنوير والدعوة التقليدية لـ “فصل السياسة عن الدين” دون انتباه إلى أنّ المجال السياسيّ الذي كان ينبغي أن يدور النقاش حوله منفصلٌ بطبيعته عن الدينيّ بمعناه المحدّد، وتجاوز الأمر ذلك إلى هجوم على الدينيّ والمقدّس، اعتمادا على ظنّ خاطئ مفادُه أن إضعاف “الدينيّ” بمعناه العقديّ سيؤدّي إلى إضعاف حضور الإسلاميين من خلال الضرب على جذورهم مباشرة، وهي الاستراتيجية التي أثبتت باستمرار أنها تأتي بنتائج عكسية.إذن، عاد النقاش إلى مربعات كلاميّة خارج الحيز السياسيّ الذي حاولت الثورات استكشافه، بدلا من توسيع دائرة المشاركة في الشأن العام وتعميق مضامينها، ونقاش مسألة الديموقراطية، وعلاقة السلطة بالمال، والسلطة بالطبقات، والتداخل بين السلطات، والدولة بالمحيط وبالاقتصاد العالمي، فعادت قوى الاستبداد والفساد وخنقت الحيّز الذي حاولت الثورات استيلاده.

انحلال السياسيّ في المعيشيّ، لا الاقتصاديّ

لعلّ الشكلَ الوحيدَ الذي كان يمكنُ تقبّله من انحلال السياسي في حيّز آخر هو انحلالُه في “الاقتصادي”، أي في الشأن الاقتصادي، وذلك بسبب الارتباط الوثيق بين السياسة والاقتصاد في الدولة الحديثة. كان هناك الكثير مما ينبغي كشفُه ونقاشُه في هذا الصّدد، من قبيل كشف زيف دعاية السلطة العربية المتمثّلة في دعوى علمانيتِها مقابل التطرّف الإسلامي الذي يخشاه الغرب، وتبيين حجم المصالح الاقتصادية للسلطة والجيش وأجهزة الأمن وارتباطاتهم المشبوهة مع طبقة رجال الأعمال الموالية للسلطة، وامتداداتهم الاقتصاديّة-السلطوية داخل الطبقة الوسطى متمثّلة في البيروقراطية، وبالتالي تبنّي سياسات اقتصاديّة مدمّرة لا تحقّق عدالة اجتماعية ولا سوقا مفتوحة، وبالتالي تدمير منظومة السلطة لأي إمكانات اقتصاد ناجح ومتطوّر، سواء انطلق من مقدّمات ليبيرالية أو يساريّة. وكذلك التساؤل عن الفشل الاقتصاديّ الذريع الذي لا يمكن تبريره بمجرد التبعية للغرب والمؤسسات الدولية في ضوء نجاح اقتصاديات تتبع هذا الخطّ عموما مثل تركيّا وماليزيا، وغيرها.

استطاعت الثورات بشكل مؤقّت الاستفادة من “المعيشيّ” لخدمة “السياسيّ” من خلال شعار “العدالة الاجتماعية”، حيث استطاع منطق الثورة البسيط والخام أن يربط بين التردّي المعيشي وفساد السلطة وديكتاتوريتها، لكن السلطة أدركت بسرعة أن المعيشيّ يمكن أن يُستخدَم ضدّ الثورات أكثر من استخدامه لصالحها، وبالتالي بَنَتْ دعايةَ الثورةِ المضادة على الاستقرار ومنع المزيد من التردّي والرضا بالواقع المعلوم بدلا من الآتي المجهول. بالتالي، لم تطوّر الثورات تحليلا اقتصاديّا يربطُ السياسيّ بالاقتصاديّ -وحتى لو نجحت في تطويره، فوصول هذا التحليل لرجل الشارع بلغة يفهمُها معضلةٌ أخرى- ولم تنجحْ في جعل الديموقراطية والإصلاح السياسيّ مطلبا شعبيا بحدّ ذاته، فانحلّ السياسيّ في المعيشيّ، وربحت الثورة المضادّة.

انحلال السياسيّ في الثقافيّ

يشيع اتّهام عامّ للمثقّفين العرب بأنّهم لا يرتقون إلى مستوى اللحظة التاريخية، وبأنّهم متخاذلون عن حراك الشعوب أو منفصلون عن الواقع، ولهذا ما يبرّره ويجعله مفهوما، لكن قلّما يحصل الالتفات إلى شُحّ المجال العامّ العربيّ بالسياسيّين الجيّدين، أي بمحترفي سياسة وطنيّين، أي شخصيّات تمارس السياسة كمهمّة قوميّة شديدة الخطورة، تُمثّل قيمَ الجمهور وتطلعاته وتعبّر عن رؤى وطنيّة بخصوص الشأن العام، وتناضل في سبيل توسيع هذا الحيّز وتفعيلِه. ولعلّ من الأسباب التي تساهم في هذا الفقر الشديد، انصراف كثير من النخب والعقول العربيّة عن السياسيّ إلى الثقافي، ولعلّ من أهمّ الظواهر الدالة في هذا السياق، ذلك الانتقال السريع من مناقشة أوضاع الدولة العربية الحديثة، وفساد منظومة السلطة، وغياب مكوّنات المجتمع المدنيّ الحيّ، ودور هذه السلطة المهترئة الفاسدة المستبدّة في التردّي الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافيّ.. الانتقال من ذلك كلّه إلى نقد الديموقراطيّة بدعاوى ثقافويّة من بينها أنها -الديموقراطية- ذات مضمون ليبيراليّ، أو نقد الدولة الحديثة بعموم باستخدام أدبيات غربية ذات سياق مغاير تماما.

إذن، تحول النقاش السياسيّ بعد الثورات من حرية في مقابل استبداد، ومن ثورة شعبيّة في مقابل مجال عام مُفسَد ومهيمَن عليه، ومن فرصة لتحرير السياسيّ من قبضة السلطويّ، إلى جدالات يسار مقابل ليبيرالية، وما بعد حداثيّة في مقابل ليبيرالية محافظة، وما بعد كولونيالية في مواجهة تنوير، وسلفية في مواجهة حداثيّة.وكان الخاسر بطبيعة الحال هو المجال السياسيّ الذي كان ينتظر فاعلين يمكن أن يعالجوه ويستخرجوا إمكاناته، فلم يحظ بأكثر من جدالات نظرية منزوعة السياق خنقت إمكاناته الوليدة. وكان الرابح بطبيعة الحال هو منظومة السلطة القديمة مرة أخرى.

انحلال السياسيّ في الاجتماعي

أي تحوّل الآمال في تغيير سياسيّ واسع في المجال العامّ إلى مطاردة الحريات الفردية والبحث عن الحرية في نمط العيش ضمن الحيز الخاص واستخدام أدبيات الثورة السياسية ضد الأسرة أو النظام الاجتماعي، وقس على ذلك أشكالا أخرى ممكنة من انحلالات السياسيّ فيما سواه.

ما يحاجج هذا المقال في سبيله إذن، هو أن كل المقاربات التي تعلّق إصلاح السياسيّ على سواه يعتريها النقص ويهدّدُها الفشل، فالثورة السياسية ليست مرهونة بثورة دينية، ولا بثورة اجتماعية، ولا بثورة ثقافية، ولا بثورة جياع. الثورة السياسيّة مرهونة بثورة سياسيّة، وهذا هو الدرس المؤلم للربيع العربيّ.