على مدار سنين طويلة، لم تنقطع جدتي – رحمها الله – عن الاستماع إلى «إذاعة القرآن الكريم» أبدًا. في جلستها المعتادة، خلف باب منزلها الريفي، كنت أراها وقد استندتْ بظهرها إلى الحائط، تُنصِت بقلب خاشع للراديو؛ كأن المُقرئ يتلو لها وحدها دون العالمين.

في أيام زياراتنا لها، كنتُ أعرف بمقدم الصبح بأذنيَّ قبل عيناي، من خلال صوت الشيخ «محمد رفعت» العذب يأتيني من موضع جلوسها، في تلك الصباحات الشتوية الهادئة؛ فأخرج لها، تحتضني، وتطلب مني أن أرفع صوت القرآن قليلًا كما كانتْ تحب. ومنذ ذلك الحين، اعتدتُ أن أعتبر صوت الشيخ «محمد رفعت» مفتاح بركة بداية كل يوم.

لم يختلف الحال كثيرًا في معظم البيوت المصرية، عن الحال في بيت جدتي؛ فمنذ منتصف ستينيات القرن العشرين، وحتى قُرابة عشرين عامًا مضت، كانت إذاعة القرآن الكريم هي الخلفية الصوتية المؤنِسة لحياة معظم المصريين.

لم يقتصر الاستماع إليها على المنازل فقط، بل كان يمكنك أن تستمتع لما تبثه الإذاعة عبر الراديو في المقاهي، والمواصلات العامة، وعربات التاكسي؛ حتى يبدو للناظر أن ما مِن شيء اجتمع عليه المصريون، باختلاف طبقاتهم الاقتصادية وتنوعاتهم الاجتماعية، في الريف والحضر، كاجتماعهم على الارتباط الوجداني العميق بإذاعة القرآن الكريم؛ ارتباط عاطفيَّ جَمعيّ صادق، يمكنك أن تلمسه في كل مَن عاصر هذا الزمن.

لكن الأيام تتغير، والأشياء تتبدل، وبتقلُّب الأحوال، تغيّرت علاقة المصريين تدريجيًا بإذاعة القرآن الكريم، وضعفت حتى تكاد تنمحي الآن.


إذاعة دينية: للدعم في حرب سياسية

في ستينيات القرن الماضي، بالتحديد عام 1964، وفي وقت اشتد فيه الخلاف بين نظاميّ الحكم في مصر والسعودية، بسبب دعم مصر بقيادة جمال عبد الناصر للثورة في اليمن، والتي رأت فيها السُلطة السعودية خطرًا قد يمتد بنيران الثورة إلى المملكة، ويطيح بنظام الحكم بها.

حينها اشتد هجوم الصحف السعودية على نظام عبد الناصر، وكان التركيز دومًا ينصب على التحالف بين ناصر والاتحاد السوفيتي، واتهام النظام المصري آنذاك بالتحالف مع الشيوعيين الملحدين، والتشكيك في مدى تديُّن النظام المصري، وموقفه من الدين الإسلامي بشكل عام؛ وهنا جاء الرد السياسيّ المصريّ شديد الذكاء، بتأسيس أول محطة إذاعية في العالم مخصصة لبث القرآن الكريم، والبرامج الدينية، والأدعية، والتواشيح.

حققتْ المحطة هدفها السياسيّ المرغوب آنذاك، بدعم كبير من الأزهر وشيوخه وقياداته، لكن تأثيرها امتد بشكل مهول، يبدو أنه فاق كل التوقعات.


القرآن للجميع

تردد الإذاعة سهل، يسير الالتقاط في مصر ومحيط المنطقة العربية وشمال أفريقيا؛ وبمرور الوقت. كان هذا في زمن ما قبل الإنترنت، عندما كانت الأمور أصعب كثيرًا مما هي عليه الآن؛ وبافتتاح الإذاعة، أصبح الاستماع للقرآن فجأة متاحًا للجميع، على مدار اليوم، لكل مَن يملك راديو، أو يعيش حتى بالقرب من أحد مالكيه.

أصبح صوت مقرئي مصر يتردد في كل الأنحاء؛ حيث يستمع مواطنو الوطن العربي لتلاوات محمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمود خليل الحُصري وطه الفشني، وابتهالات النقشبندي، وغيرهم الكثير من ذوي الأصوات الشجية الرنّانة.

حفظ الكثيرون مواعيد برامجهم الدينية المُفضلة، والتي كانت تُبث بانتظام في أوقات محددة. أصبح يسيرًا على الفلاح البسيط أن يصطحب معه «الراديو الترانزستور» في ذهابه إلى عمله الشاق في الأرض؛ ليجد من القرآن ما يؤنسه في ساعات عمله وراحته.

اعتاد التلاميذ في الريف والمدن على الذهاب إلى المدرسة وصدى الإذاعة يتردد في البيت والمواصلات والمحلات.

بفضل انتشار الراديو في كل مكان، وبالتدريج، أصبح صوت إذاعة القرآن الكريم يغلّف حياة المصريين على تنوعهم الواسع، وحيوات الكثير من مواطني العالم العربي؛ ومن هنا أصبحتْ الإذاعة بندًا رئيسيًا في سلاح «قوة مصر الناعمة» التي ملأت أصداء العالم العربي والإسلامي، في ذلك الوقت.

ومع ظهور التلفزيون وانتشاره التدريجي الواسع، تراجع دور الراديو كوسيلة للتسلية، لكن إذاعة القرآن الكريم ظلّت محتفظة بحضورها ورونقها. إلى أن بدأ عصر تكنولوجي جديد: عصر أطباق الدِش والقنوات الفضائية، وأجهزة الكمبيوتر، والغزو الإلكتروني الهائل المتتابع.


فضائيات القرآن ومقرئو الخليج

مثلما ظهر التلفزيون وانتشر، ظهرت أطباق الدِش وأجهزة الريسيفر، والقنوات الفضائية، وانتشرتْ القنوات المتخصصة بالتدريج، قنوات لإذاعة كليبات الأغاني، وقنوات رياضية، وقنوات للأفلام، وبالطبع قنوات لإذاعة القرآن الكريم بشكل مستمر.

ومن هنا، بدأ عصر ذبول تأثير إذاعة القرآن الكريم، خاصة مع تراجع دور الراديو في حياة معظم المصريين بشكل كبير؛ حتى أن البيوت التي تُؤسَس حديثًا لا تحتوي على راديو من الأساس؛ بعد أن صار شيئًا من التراث، كأشياء يُروى لنا أنها كانت سائدة في أزمان مضتْ.

لكن هذا التراجع لم يكن تراجعًا للإذاعة المصرية فقط، بل صحبه تراجع واسع في ذيوع صيت المقرئين المصريين بشكل عام، حتى بين المصريين أنفسهم؛ فالفضائيات التي تبث القرآن الكريم، معظمها يبثه بصوت مقرئي الخليج، خاصةً السعوديين منهم، وهي مدرسة في التلاوة تختلف كُليًا عن المدرسة المصرية التي تعتمد على المقامات الموسيقية بشكل فني دقيق، يمزج التجويد بالمقامات اللحنية في تناغم كامل.

لذا لم يعد مُستغربًا أن تجد الكثير من المصريين الآن، وهم أجيال تربّت على أصوات قرآنية خليجية، في مناسباتهم المجتمعية المختلفة، يفضلون التلاوة الخليجية على المدرسة المصرية؛ خاصةً بعد شيوع آراء وفتاوى دينية تحرِّم تلاوة القرآن اعتمادًا على المقامات الموسيقية، حتى لو التزم القارئ بالتجويد والضبط اللغوي الصحيح.


نوستالجيا زمن ولّى

يبدو الحنين لإذاعة القرآن الكريم الآن، ولعالم الراديو بشكل عام، جزءًا من نوستالجيا نمارسها تجاه زمن قارب على الاندثار بكل تفاصيله؛ زمن المسلسل الذي تذيعه القناة الأرضية، وتشاهده الأسرة في كل بيت معًا، والفيلم الذي يُذاع في سهرة الخميس، زمن حفلة أم كلثوم الشهرية، والالتفاف حول الراديو؛ كأن المستمعين في انتظار السحر الذي سينبعث من هذه الآلة الصغيرة الناطقة، كأنها صندوق مسكون.

زمن بسيط ولّى بتفاصيله، وحلّ مكانه زمن أكثر سرعة، تقل فيه مكانة الاستمتاع لصالح الكَمّ من كل شيء، عصرٌ من فرط سرعته، يلتفتْ المرء لنفسه أحيانًا يسألها: «هل حدث كذا فعلًا؟! هل ما عشته قد كان بالفعل؟!».

«زمن بلا مزاج» على حد تعبير سائق تاكسي عجوز، ركبتُ بصحبته في إحدى ليالي الشتاء الماضي في الإسكندرية؛ لأجده يستمع لإذاعة القرآن الكريم عبر راديو سيارته العتيقة. كان الرجل مندمجًا في حالة وجد كامل؛ كأنه في سِنة من حُلم، قبل أن ينتهي الشيخ الحُصري من تلاوته، ويخفض صوت الراديو وهو يقول لي مبتسمًا، بعد أن لاحظ تركيزي معه: «أهو أنا مستطعمش سماع القرآن إلا من الراديو لعلمك… بيدخل قلبي ودماغي بمزاج كده… والله يا ابني بتصعبوا عليا، زمنكوا سهل، بس من غير مزاج».

وأدار الراديو ثانية ليرفع صوته؛ وينبعث صوت النقشبندي يبتهل. جاء صوته عذبًا رخيمًا خاشعًا، مختلطًا بتلك الضوضاء الأثيرية المحببة الخاصة بالراديو؛ ضوضاء تدخل القلب، وتُذكِّره بأشياء رحلتْ.